الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجليات التجديد و التطور في فلسفة السوفسطائيين

محمد بقوح

2012 / 5 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- يرى والتر ستايس أنه إذا كان الفلاسفة الأولون ( الطبيعيون خاصة ) منشغلين بقضايا الوجود و الكون الكبرى، و بالتالي جاز نعتهم بالكونيين، فإن الفلاسفة السوفسطائيين، جاز لنا تسميتهم بالإنسانيين، باعتبارهم اهتموا أكثر، في تفلسفهم بالقضايا القريبة من المواطن الآثيني، و بالإشكالات الإنسانية العملية، التي تهمه في حياته اليومية التجربية.

2- لهذا، فعندما نتحدث عن الفلسفة السوفسطائية، لابد أن نستحضر مفهوما أساسيا، بالنسبة لتاريخ الفلسفة اليونانية القديمة عموما، ونعني به مفهوم الحكمة، من حيث أنه المبدأ المحدد الأساسي، و المؤطر المركزي، لكل فعل تفلسفي عند الفلاسفة السوفسطائيين، و بالتالي، فهم بهذا المعنى، أقرب إلى الحكماء منهم إلى الفلاسفة، الشيء الذي ينطبق أيضا و ضرورة، على باقي الفلاسفة القدامى، الذين عاشوا قبلهم بمئات السنين( الذريين، الفيتاغوريين، الأيونيين، و الأيليين..). غير أننا لابد هنا، أن نسجل هذا السبق الفلسفي المهم للسوفسطائيين، في إطار محاولتهم الفكرية و الفلسفية الجريئة و المتميزة هذه، المرتبطة في عمقها، بتغيير التصور السائد عند اليونانيين، فيما يخص مسألة الحكمة، باعتبارها معرفة و سلوكا تجريديين و نخبويين، و ليست - أي الحكمة - فكرا غيبيا مرتبطا بواقع مطلق مفارق للإنسان. نعني به فكر تفلسفي خاص، لا يمكن أن يوجد سوى عند الكهنة، و المختارين الأبرار من الآلهة. بمعنى أن المواطن اليوناني، في اللحظة التاريخية المعنية و المتحدث عنها، كان يعتقد أن الكهنة، باعتبارهم نخبة المجتمع الآثيني، هم الوحيدون القادرون على ممارسة فعل التفكير التفلسفي، الذي هو من حقهم الطبيعي ( المقدس)، دون غيرهم من الفئات البشرية الأخرى. نحن هنا إذن، أمام توزيع معين، لقدرات التفكير البشري، للحكمة و المعرفة الخاصة، في مجتمع تم فيه فرض هذا التوزيع غير العادل، ارتباطا بالتقاليد و الإرث الديني المعتقدي، المسيطرين على الذهنية الإغريقية في تلك الفترة.

3- من هنا نعتبر أن الصراع الفكري الطويل و المرير، الذي خاضه الحكيم/ الفيلسوف السوفسطائي، سواء ضد الفكر التقليدي و الأسطوري الغيبي، السائدين و المتوارثين، عن المرحلة التاريخية الهيلينية القديمة، أو ضد النزعة السقراطية الأخلاقية الصاعدة، بزعامة شيخ الفلاسفة سقراط، و التي حاولت ربط التفلسف بقضايا قيمية، تخص المثال المعرفي، و الجوهر الذاتي للإنسان، و ليس بالواقع الحسي، و بتجارب الحياة الفردية و الجماعية البشرية.. كما مارسه، و حقق بفضله الفيلسوف السوفسطائي شهرة كبيرة و شعبية لا تضاهى.. لقد كان هذا الصراع الجاري صراعا حضاريا تاريخيا، و مجتمعيا بامتياز، استطاع السوفسطائيون، من خلاله أن يبرهنوا للفرد و المجتمع و للعالم أنذاك و للتاريخ، فيما بعد، على مدى نسبية المعارف و الحكمة، و بالتالي، تقديم الحجة العملية، ضد واقع التصور الفكري، للعقل التقليدي الأسطوري و المثالي الغيبي المهيمن.
إذن، ممارسة فعل التفلسف ليس سلوكا مقدسا و منزها، كما ادعت أو تصورت سلطة العقل التقليدي، و إنما يمكن لأي مواطن مجتهد ، مهما كانت طبيعة مهنته أو موقعه الاجتماعي، أن يتفلسف، و يصبح حكيما و فيلسوفا، بالطريقة التي صار عليها الفيلسوف السوفسطائي، و هي طريقة العلم و المعرفة و الإجتهاد و الإحتكاك، بذوي الخبرة و العلم بالمجال الفلسفي.

4- فصارت الفلسفة، عند السوفسطائيين، تعني، أولا و أخيرا، ممارسة المعرفة التعليمية و التربوية. ارتباطا طبعا بالواقع العملي و النفعي للإنسان. أي تعلّم على شكل دروس، في كافة العلوم و المعارف، و تقدم لمن رغب فيها، مقابل الأجر. بمعنى أن التفلسف هنا، له طابع تعليمي، و يمارس حسب حاجة و طلب المتلقين و المريدين له. و كانت فئة الشباب، و أيضا الأسر المواطنة، التي ناصرت التغيير الاجتماعي، و تخلصت إلى حد ما، من إرث الفكر المتحجّر، من أهم المعجبين، و المقبلين على الإنصات و التعلم الفلسفيين. و قد شمل هذا التعلم جميع مجالات المعرفة و العلوم. نستحضر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الفيلسوف بروتاغوراس ( 480 ق.م 410 ) الذي جال و صال، في جميع أنحاء اليونان، لكن اتهم بالتحلل و الإلحاد، بسبب تأليفه لكتاب "الآلهة"، و الذي بدأه بالتعبير التالي: ( أما بالنسبة للآلهة، فإنني عاجز عن القول ما إذا كانت موجودة أم لا ). و لقد تم إحراق كتابه هذا، و هرب صاحبه من أثينا قاصدا صقلية، لكنه غرق، و هو في الطريق دون أن يصل إليها.
و يعتبر بروتاغوراس صاحب القول الشهيرة ( الإنسان هو معيار كل الأشياء، معيار ما هو موجود، فيكون موجودا، و معيار ما ليس بموجود، فلا يكون موجودا ).
و يذهب بولوس و ترسيماخوس أبعد من بروتاغوراس، حين تفلسف جانبا مهما من الحياة السياسية اليونانية، ونعني به مفهوم الدولة. بحيث يرى أن قوانين هذه الدولة، كما كتب والترس تيس ( هي من اختراع الضعفاء، الذين بلغ بهم المكر مداه - و قد لجأوا إلى هذه الحيلة – للسيطرة على الأقوياء، و سلبهم ثمار قوتهم الطبيعية. إن قانون القوة، ليس إلا القانون الوحيد، الذي تعترف به الطبيعة. لهذا، إذا كان الإنسان قويا، بما فيه الكفاية لتحدي القانون بالحصانة، فإن له الحق أن يفعل هذا ). لهذا يعتبر السوفسطائيون من الفلاسفة الأولين، الذين لمّحوا و فكروا و تفلسفوا، في شأن قضية مذهب القوة في علاقته بالأخلاق – أخلاق الضعفاء – و قوانين الدولة. لا بد من الإشارة في هذا الصدد، بأهمية مفهوم إرادة القوة، عند نيتشه، الذي ينهل من المعنى الفلسفي السوفسطائي السابق، و بالتالي، جعل الفيلسوف الألماني، يعيد الاعتبار للفكر الفلسفي السوفسطائي..

5- فالغاية من فعل التفلسف عند السوفسطائيين إذن، هي تعليم المواطن الآثيني أدوات المعرفة و العلم، و إخراجه المعرفي، من كهف الجهل و الظلام و التخلف. فكانت الطريقة المنهجية التي اختاروها، لتحقيق هذا الهدف، هي تعليمهم آليات فن الخطابة، الذي هو، في اعتقادهم، لا يمكن أن يتم التحكم الفعلي، في المواطنة الواعية للإنسان، بدون امتلاك أدوات العلم و المعرفة اللازمة، و ذلك بالإثقان العملي و المهني لفن الخطابة، و البلاغة و البيان، و تعلم النحو و المنطق.. لغرض تحقيق إقناع المتلقي، و المستمع المحب للمعرفة، و المحاور معه في الشأن الفلسفي.. أو تعليمه كيف ينجح، في الدفاع عن رأيه دون حرج، و يعبر بحرية عن مواقفه كيفما كانت طبيعتها، دون أن تعيقه مشاكل اللغة و الخطابة و التواصل..

6- من هنا نؤكد، على أن هذه الطفرة النوعية، التي حققها الفلاسفة السوفسطائيون، على مستوى إحداث ما يمكن نعته بالقطيعة المعرفية، مع التفكير العقلاني المجرد الأسطوري و الغيبي، و الانتصار لما هو حسّي و تجريبي عملي، هي بمثابة طفرة تجديد، و تحول و تطور، نجحت من خلالها النزعة السوفسطائية المعنية، في إنزال فكر الحكمة، و التفلسف المختلف، إلى العالم الأرضي و الأشياء.. و واقع حياة الناس العملية. الأمر الذي يفسر بقوة، تلك المعارضة الشرسة، التي ووجه به أصحاب هذا التوجه الفلسفي الجديد، و المختلف و المشاكس، سواء من طرف سلطة الدولة، أو من طرف سلطة المجتمع، و ذلك بمقارنته مع ما كان سائدا و مهيمنا، من مسلمات فكرية و تمثلات عقدية، و حتى فلسفية - بسبب ارتباطها الوثيق بمفهوم الحكمة المنزهة ذات طابع المقدس - خاصة من طرف بعض المفكرين، و السياسيين الموالين، أنذاك للنظام الأرستقراطي، ضد النظام الديمقراطي الحاكم. و كان شيخ الفلاسفة سقراط، من أهم المناهضين الأشداء، و المعارضين للكيفية، التي يفكر و يتفلسف بها الفيلسوف السوفسطائي. هذا الأخير الذي مارس فعل التفلسف، ببعده النقدي و التفكيكي العميق لما هو سائد و مهيمن، من تقاليد و قوى فكرية و مادية و سياسية، كانت متحكمة في دواليب حركية المجتمع..، فتوجه حياة الناس و المواطنين البسطاء، باسم المعتقد الديني، و الإرث الفكري التقليدي و الفلسفي، على حساب تشديد الخناق، و التضييق الصارخ، ضد الفكر التنويري الجديد و المختلف المتفتح، كما مارسه السوفسطائيون الجدد، في بيئة مجتمعية و سياسية كثيرة التغيرات و التناقضات، عانوا فيها من العديد من المتاعب و المصاعب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام