الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استشارات كانطية : الرجاء والوهم أو كيف تكون سعيدا بوسائل بشرية ؟

فتحي المسكيني

2012 / 5 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



استشارات كانطية : الرجاء والوهم أو كيف تكون سعيدا بوسائل بشرية ؟


إنّ الرجاء عملي بحت، ولا علاقة له بأيّ ضرب من الموقف المعرفي من العالم. هذا التأكيد ليس عبثا: إنّ كانط مصرّ أيّما إصرار على التفكير كبشريّ فقط وحصريا. وهو يرفض اتخاذ وجهة نظر "الإله" في الفلسفة كما يفعل سبينوزا . وعنى "البشرية" هنا أنّنا كائنات ممنوعة سلفا من أيّ "حدس عقلي"، أي من أيّ إدراك حسي لكائنات عاقلة تقع خارج الطبيعة. إذ "بالنسبة إلينا نحن البشر لا يمكن [للحدوس] أن تكون إلاّ حسية" وبالتالي لا يمكن أن نعرف "الأشياء ...كأشياء في ذاتها بل كظواهر لا غير" . ومن ثمّ كل من يقع في الخلط بين الظواهر والأشياء في ذاتها، أي كل من يأخذ كلامه حول ما فوق المحسوس بوصفه كلاما عن "موضوع" قابل للإدراك أو الحدس هو يقود العقل إلى "وهم" تطبيق العقل النظري على ما يتخطى مجال التجربة الممكنة. ومن ثم الطمع في إنتاج "معرفة" نظرية عن الإله أو خلود النفس..الخ. لكنّ كانط لا يرى في هذا "الوهم" مشكلا زائفا، وإن كان خادعا، بل هو ينظر إليه بوصفه "جدلية طبيعية" في عقولنا، هي "الضلال الأكثر إحسانا الذي يمكن أن يقع فيه العقل البشري على الإطلاق بالنظر إلى أنه يدفعنا في نهاية الأمر نحو البحث عن المفتاح للخروج من هذه المتاهة" . وسؤال الفلسفة هو: "كيف يجب تجنّب الخطأ الناجم عن وهم هو بالمناسبة طبيعي" ؟
من المثير أنّ هذا الوهم لا يظهر لنا إلاّ عندما يقع العقل "في تناقض مع نفسه" حول دلالة ما فوق المحسوس وذلك عندما يطمع في قياسه على عالم الظواهر، أي من خلال تطبيق "المبدأ القائل بأنّه يجب افتراض اللا-مشروط في كل مشروط" . أمّا اللامشروط الذي اعتبره العقل العملي "موضوعا" له فهو "الخير الأسمى". وحسب كانط كل تصوّر للخير الأسمى بشكل يفرضه على عقولنا من خارج ما، أكان محسوسا أم مفارقا، هو موقف يتنافى مع استقلالية وعينا وإذا قبلنا به نحن "نسيء فهم أنفسنا" .
القصد البعيد هنا هو أنّ ميدان الرجاء لا يمكن للطبيعة البشرية أن تلج إليه إلاّ من خلال نوع من "الوهم الطبيعي" في صلب عقولنا نفسها. ويتمثّل هذا الوهم في ميل متعال في صلب عقولنا إلى قياس "ما وراء المحسوس" (الغائب) على معرفتنا النظرية التي في مستطاعنا كبشر عن "المحسوس" (الشاهد).هذا الاتنزلاق إلى ما وراء التجربة الممكنة لنا كبشر هو "الوهم الطبيعي"؛ لكنّ هذا الوهم لا يعمل كخطأ في التقدير أو خداع في البصر، بل هو "ظاهر متعال"، يظهر لعقولنا من الداخل، أي من داخل طبيعتها، وليس وجها تاريخيا أو سرديا أو نفسيا. وهكذا فإنّ الرجاء نوع من الوهم المتعالي الذي لا تنفكّ عنه عقولنا بمقتضى طبيعتها الخاصة بنا كبشر، وليس ضعفا وجدانيا يصيب شريحة من "المؤمنين" الجاهلين بمكاسب الحداثة العلمية. ولذلك يسمي كانط هذا النوع من "الوهم التعالي" باسم "الضلال الأكثر إحسانا الذي يمكن أن يقع فيه العقل البشري على الإطلاق" . "الأكثر إحسانا" لأنّه يساعد العقل البشري على التعامل مع تناهيه بشكل مشرّف، أي دون أن يشعر بأيّ خجل أخلاقي من سعيه المتعالي نحو ما فوق المحسوس وتكوين تقنيات للرجاء في حياة أخرى.
كلّ سعي بشري، حتى سعي الرجاء، هو لا غاية له غير تحقيق قدر ما من السعادة مهما كان شكلها. السعادة هي نمط الكمال الوحيد الممكن بالنسبة إلى البشر. لكنّ كلّ سعادة تظلّ تزعم في سرّها أنّها لا تخلو من فضيلة ما. أخلاق السعادة تطمع دوما في أن تكون أخلاقا رغم كل شيء، أي قادرة على احتمال نوع ما من الفضائل التي يمكن الدفاع عنها.
ورغم أنّ كانط قد استعاد الجدل الرواقي / الأبيقوري عن الفضيلة والسعادة فهو في واقع الأمر لم يسع إلى التوفيق بينهما بل إلى تشخيص ذلك الجدل بوصفه "جدلا طبيعيا" في طبيعة العقل البشري بما هو كذلك، ومن ثمّ أنّ الحل الوحيد للمشكل المطروح، أي مشكل "الخير الأسمى" ماذا هو، لن يكون إلاّ "نقديا" وليس نظريا. لكنّ ما يعنيا خاصة هو الانزياح الذي سيقوم به كانط من نطاق الأخلاق اليونانية إلى مهمّة فلسفية من نوع "غير يوناني"، ألا وهي بيان كيف أنّ السعادة ليست المطلب الأسمى للإنسانية، ولكن أيضا بيان كيف أنّ الفضيلة ما هي سوى "الشرط الأعلى…لكل مساعينا نحو السعادة…ولذلك فهي ليست بعد الخير كله والكامل من حيث هي موضوع ملكة رغبة الكائن العاقل المتناهي" .
ليس كانط رواقيا ولا أبيقوريا، أي بكلمة واحدة هو في الأخلاق ليس يونانيا البتة. ووصفه بأنّه فيلسوف "حديث" هو نفسه وصف غامض جدا ومريب. لأنّ معنى "حديث" لا يشير إلى مجرد العصر الذي فكّر فيه بل إلى المعنى الأصيل للفظة "حديث" في اللاتينية المسيحية: "حديث" أي "مسيحي". بيد أنّ الاقتصار على اتهام كانط بأنّه (مثل المحدثين بعامة) لم يفعل غير "علمنة" القيم المسيحية فيه تجنّ كبير وقد نقول فيه سوء تأويل مقصود ومن ثمّ مجرّد خصومة فلسفية وليس مناظرة أصيلة معه.
إنّ مصادر كانط توحيدية بعامة، وليست مسيحية إلاّ سياقاً فقط. وفرضية التوحيد هنا تساعدنا على بناء التخريج التالي: حين نقرأ تعريف كانط للفضيلة بأنّها "الجدارة بأن يكون [أحد] سعيدا" ، نخال أنفسنا أمام فهم "يوناني" للجدارة في باب "الفضل"، أي "القوة" أو "القدرة" التي تنطوي عليها طبيعة كل كائن بحسب "غاية" (telos) كامنة فيه من جهة منزلته من الكينونة ككلّ. لكنّ كانط في الحقيقة يجذب المفاهيم نحو جهة تفكير أخرى وغير يونانية: هذا الأمر ينكشف حين نقرأ في موضع قريب جدا تعريفه للأخلاقية بأنّها "قيمة الشخص وجدارته بأن يكون سعيدا" . ولكن أليس هذا هو تعريف "الكرامة" بالمعنى المتعالي التوحيدي ؟
تبيّنت الصورة إذن: في مقابل "الفضل" اليوناني (وهو أساس معنى الفضيلة عند الرواقيين)، يرفع كانط معنى "الكرامة" التوحيدية، والقائمة أساسا على "الشخصية" البشرية بما هي كذلك، وليس على "أخلاق الفضل" الأرستقراطية. اليونان أرستقراطيون في الأخلاق، ولذلك هو يضعون السعادة كأعلى مطلب للفانين، ويستعملون من أجل البلوغ إليه تصوّرات أنطولوجية عن "الفضيلة". أمّا التوحيديون فهم رعويّون، ينظرون إلى الأخلاق بوصفها مجرّد "آداب" رعويّة لاستحقاق السعادة بواسطة "التقوى" كجهد فان لا ينطوي على أي" "فضل" خاص. أمّا السعادة بحدّ ذاتها فليست بشيء يُعتدّ به. ومثل التوحيديين يكاد يظهر كانط وهو يفكّر بلا "جسد" أصلا. ويبلغ الامر به إلى الإعلان بأنّ "العقل المحض ...لا اهتمام حسّي له على الإطلاق" و"قطع العلاقة بكل الميول" ، إذ "لا شأن لعظمة الواجب في الاستمتاع بالحياة" . مطلب الواجب هو "الاحترام وليس البهجة" . وذلك لأنّ "مبادئ طلب السعادة يستحيل عليها أن تُنتج أخلاقية" .
من أجل ذلك ينبّه كانط إلى هشاشة كل فهم للجنّة التوحيدية (وهو يستعمل عبارة رائجة في أوروبا هي "جنة محمد" ) على أنّها مرتع للسعادة الحسية يمكن لنمط من البشر من أتباع "الحكمة الإلهية" أن يبلغوا إليها من خلال "الذوبان في الألوهة" أو من المتصوفة "الذين يريدون الزجّ بغيلانهم إلى داخل العقل" . إنّ الجنة الوحيدة الممكنة للبشر، أي "تحقيق الخير الأسمى في العالم" ، لا يمكن أن تكون إلاّ جنة عقلية. لكن لا أحد بإمكانه، مادام بشرا متناهيا، أن يبلغ إلى "القداسة" أي إلى تحقيق التوافق الكامل بين إرادته وبين القانون الأخلاقي .
ويبدو لنا أنّ كانط الذي لا يؤمن بأيّ "حب للذات أو سعادة شخصية" ، قد تملّك هذه المعاني التوحيدية من خلال إعادة استخراجها من الطبيعة البشرية نفسها استخراجا "صوريا" بلا أيّ مضمون روحي، وهو لا يُحيل على أيّ تقليد كتابي إلاّ "تأدّباً" فحسب. إنّ "مجرّد صورتها" هي ما يجعل تلك المعاني أو المسلمات "صالحة لتشريع شامل" .
ولذلك لا ينبغي أن نأخذ مأخذ الجدّ تنازلات كانط من قبيل "لابدّ أن تُفترض السعادة أيضا" أو "لا يريد العقل المحض العملي أن يتخلى المرء عن مطالب السعادة" ...الخ. ليس ثمّة واجب سعيد. بل فقط "قانون تصمت أمامه كل الميول" . وهذه هي المشاعر التي يحبذها كانط التوحيدي: إنّ المشكل ليس الحياة نفسها بل "احترام شيء مختلف تماما عن الحياة، شيء بالمقارنة والتباين معه لا قيمة إطلاقا للحياة بكل متعها" . بدلا من محبة الحياة يأمرنا كانط باحترامها. وهذا الشعور هو اختراع توحيدي لم يعرفه اليونان.
من هنا نفهم هوس كانط بالطابع "الأمري" للواجب بعامة. وهو في هذا المستوى توحيدي تماما. وبوجه ما إنّ الواجب هو عند التوحيدين، وكانط منهم، هو بديل أخلاقي فذّ عن السعادة اليونانية. ومن ثمّ يسخر كنط من أيّ "وصية بالسعادة" ومن عجز السعادة عن الإتيان بقوانين "كلية"، رغم أنّ كانط يقر بأنّ السعادة يكن أن تأتي بـ"قواعد عمومية" . "إنّ مسلمة حب الذات (الحصافة) تنصح فقط؛ أما قانون الأخلاقية فـأمر" . ليس الرجاء نصيحة بالسعادة "الأخروية" بل هو "أمر" يلزمنا بالأمل العقلي في المستقبل الوحيد الذي يمكن لنا، أي المستقبل كما يمكن للعقل البشري أن يتصوّره بمقتضى طبيعته بوصفه ضربا حرّا من "التقدم" اللامتناهي نحو الخير الأسمى الذي بمستطاعنا كبشر. وبدلا من تجنّب الألم والبحث عن "سلم النفس" بأيّ شكل، يعلن كانط، مثل التوحيديين، للإنسان المتألّم أنّ "الألم لا ينقص من قيمة شخصه شيئا على الإطلاق" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة: انتعاش الآمال بالتوصل إلى هدنة في ظل حراك دبلوماسي مكثف


.. كتاب --من إسطنبول إلى حيفا -- : كيف غير خمسة إخوة وجه التاري




.. سوريا: بين صراع الفصائل المسلحة والتجاذبات الإقليمية.. ما مس


.. مراسلنا: قصف مدفعي إسرائيلي على بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. القيادة الوسطى الأميركية: قواتنا اشتبكت ودمرت مسيرة تابعة لل