الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الجوهر في فلسفة سبينوزا

محمد بقوح

2012 / 5 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يرتبط مفهوم الجوهر عند سبينوزا، بمفاهيم فلسفية أخرى أساسية هي: الله و الوجود و الصفة، بالمعنى المطلق. أي أن الجوهر الفلسفي في تصوره، يعني علّة محايثة للكل، أي لكل الأوصاف و الأحوال. و هو المفهوم المحوري، الذي اهتمت به فلسفة سبينوزا، في إطار البحث الفلسفي العلمي و الأنطولوجي الذي هو الوجود، ارتباطا طبعا بنقد الأخلاق، في علاقتها بالمسألة الدينية ( كتاب الإتيقا ). عكسا، و ضدا لمعنى التعالي المجرد، الذي ظل مرافقا للفكر الديني اللاهوتي المهيمن، زمن فيلسوفنا، فيما يخص مسألة الجوهر، في علاقته بالوجود.

و لابد، أن نستحضر هنا السبق التاريخي الهام و الدال، للتفكيري الفلسفي الإغريقي، في إطار البحث الفلسفي، في موضوع الوجود، باعتباره بحثا طبيعيا و عقلانيا، يقوم على أساس التفكير القوي، و المادي و العلمي ( بدرجة أقل في العهد الإغريقي )، في تمظهرات و تجليات الطبيعة و الكون و الوجود، ارتباطا بمفاهيم فلسفية مهمة، سواء في اللحظة التاريخية اليونانية أو القروسطوية، كالصيرورة و التغير و التحول، و المبادئ الطبيعية ( الإغريق )، و العلمية المعرفية العميقة ( أوربا الوسطى ). و هو ما يلاحظ في القول و الفعل التفلسفيين، عند كل من الفيلسوف هيروقليطس ( 535 ق.م- 475 ق.م)، الذي فسّر أصل الوجود بمبدأ النار، و أيضا عند صاحب قمة البحث الفلسفي الوجودي، الفيلسوف الأيلي بارمنيدس ( 514 ق.م- ؟)، الذي ارتبط التفلسف عنده بمفهوم التغير، و بالوجود، باعتباره وحدة جدلية و مبدأ، و حقيقة مادية خالدة و أزلية.
إن فلسفة سبينوزا ( 1632- 1677 )، التي دعمت المفهوم الوحدوي و التكاملي لمعنى الوجود، يمكن النظر إليها من زاوية اعتبارها قراءة تجديدية، و تطويرية في غاية الأهمية لمفهوم الجوهر، في علاقته طبعا الجدلية بفلسفة الوجود، و خاصة بطابعها الوحدوي، و الأزلي المتحرك و الحتمي. إنه المفهوم الفلسفي النقدي، الذي يعني في الفلسفة الطبيعية، خاصة عند هيروقليطس، مبدأ الأصل، أي تفسير أصل الوجود، بمبدأ طبيعي أزلي كلي، لكن مادي الطابع هو النار، مع أخذ بعين الاعتبار، الفرق الكبير و الواضح بين الفيلسوفين، من حيث علاقة مفهوم الجوهر، بالنسق الكلي لفلسفة الفيلسوف، ذات النزعة الفكرية المادية الطبيعية، و أيضا حسب الشرط الحضاري و التاريخي، للفلسفة المتحدث عنها.
أما عن مفهوم الجوهر الفلسفي للوجود السبينوزي، فيدل على مطلق متغير، و أزلي و كلي، فنقول جوهر الوجود، في تصور سبينوزا، هو الطبيعة المتفاعلة مع الله و الإنسان، إلى درجة الذوبان و التماهي. و بين مفهوم المبدأ، باعتباره أصل مجرد عميق، فنقول أصل الوجود، الذي يعني النار عند هيروقليطس، باعتبارها، في تصوره الفكري و الفلسفي، القانون الطبيعي الكلي، و الداخلي المتحكم ضرورة، في تفاعلات الطبيعة و الوجود و حياة الإنسان. لكن، يبقى كلا المفهومان ( الجوهر و الأصل ) يعنيان، بلا شك، في نسق فلسفة الفيلسوفين معا، معنى العلة المتبوعة بمعلولاتها. أي علة الوجود، الذي يعني معلول العلة، التي هي الله، و هو هنا يعني علة قريبة، و محايثة بالنسبة لمعلولاتها المرتبطة به( الله ) ضرورة.
و الطبيعة التي هي العلة المعلولة، و الإنسان ينظر إليه، ضمن معلولات الطبيعة، في إطار التغير و الحركة الدائمة، و الصيرورة، و الحتمية المتكررة في أفق الاختلاف. إنها نفس المواصفات العقلية، و الأبعاد الفلسفية تقريبا - إذا جاز لنا أن نقارن بين هيروقليطس و سبينوزا - التي يتميز بها مبدأ النار، الذي اعتبره هيروقليطس أصلا للوجود، خاصة في الشق الفلسفي الوحدوي الكلي. أي وحدة الوجود في إطار تكاملي و اختلاف موجوداته. أي معلولاته.

هكذا تتضح أهمية القراءة النقدية العلمية الراقية، و العمل الفلسفي المبدع، الذي قام به سبينوزا، الفيلسوف المتمرد على التقاليد الفلسفية، و الدينية السائدة في زمنه. لأنه من خلال فلسفته النقدية التجذيرية أعاد الاعتبار، من جهة، لمبحث الوجود، كمبحث فلسفي عقلاني قوي، كما يقول هايدغر، تمّ إهماله و التقليل من شأنه، لقرون فلسفية طويلة مضت، في الفلسفات الموالية للفلسفة الطبيعية و الأيونية.. في العهد الذهبي للفلسفة : الكلاسيكي الإغريقي. ذلك الزمن الفلسفي، الذي تميز بالعمل ( النسفي ) لشيخ الفلاسفة سقراط، في حق الفلسفة و التفلسف، بالمعنى الوجودي السليم، و الذي عدّه الباحث المغربي محمد الشيخ، في كتابه ( نقد الحداثة في فكر نيتشه ) الفيلسوف التاريخي المسؤول، عن تقييد و اعتقال العقل الفلسفي الوجودي، بتعبير هايدغر، و التراجيدي بعبارة نيتشه، حيث انحرف به سقراط، من مستواه الوجودي و الطبيعي السليم و الإيجابي، و الجمالي النقدي الخالص الفعال، إلى مستوى عقل فلسفي متعالي سلبي، و مفاهيمي واهم، خبير في البحث موازاة للمجردات، و نعني بها سجن العقل البشري داخل نص الميتافيزيقا..
و من جهة أخرى، يعتبر الفكر الفلسفي السبينوزي خلاقا و متميزا، في طرحه لمفهوم الجوهر في علاقته بالوجود، إذا نظرنا إلى البيئة الفلسفية المتميزة، التي أبدع فيها فيلسوفنا فلسفته القوية و الجريئة، خاصة على مستوى الشرط الديني ( قوى الهيمنة الكنسية الكاثوليكية )، و ( قوى السياسي الديكتاتوري ) التابع للاهوتي، الذي كان مهيمنا و مسيطرا على الحقل المجتمعي الأوربي عامة، و الهولاندي خاصة. باعتبار أن بلاد هولاندا هي بلد سبينوزا الأم، بالإضافة إلى انتمائه الاجتماعي البورجوازي الذي تنكر له، بدعوى أنه كان يحمل أفكارا ثورية، ضد الإرث الفكري التقليدي، سواء المسيحي أو اليهودي الذي ينتمي إليه.
و لابد من الإشارة إلى كون سبينوزا قد استفاد من قراءته النقدية، للإرث الديني المسيحي ( القديس طوما الأكويني )، و أيضا للإرث الديني اليهودي( موسى بن ميمون) ، إلى جانب قراءته العميقة للفلسفة الإسلامية، خاصة فلسفة ابن سيناء في النفس، و أيضا فلسفة ابن رشد القرطبي، فيما يخص المسألة الدينية.( كتاب رسالة في الاهوت و السياسة ).

و أخيرا و ليس آخرا، يمكن القول، أن جوهر سبينوزا الفلسفي، كان يشتغل فكريا، في علاقته الجدلية بكلية نسقه المعرفي و العلمي و الفلسفي، في إطار وحدة وجودية، تقوم على أساس التعدد و الاختلاف و الحركية و الصيرورة، و هو المنطلق المرجعي و المسار الفلسفيين، اللذين فشل فيهما الفيلسوف الفرنسي ديكارت، في فلسفته النقدية الأخلاقية، التي لم تكن سوى تحوير رياضي، و تعديل فلسفي، و مغازلة فكرية للعقل التقليدي، الديني اللاهوتي المهيمن، على بيئته الفلسفية و السياسية. و يعتبر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، من أهم رواد الفلسفة المعاصرة، الذين تأثروا بفلسفة سبينوزا الجريئة، و التفكيكية الحفرية، و المختلفة بكل ما لهذه الكلمات، من معاني فلسفية عميقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح


.. هيئة البث الإسرائيلية: نقل 300 طن من المساعدات إلى قطاع غزة




.. حزب الله اللبناني.. أسلحة جديدة على خط التصعيد | #الظهيرة


.. هيئة بحرية بريطانية: إصابة ناقلة نفط بصاروخ قبالة سواحل اليم




.. حزب الله يعلن استهداف تجمع لجنود إسرائيليين في محيط ثكنة برا