الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر عن الدولة المدنية

مازن مريزة

2012 / 5 / 14
المجتمع المدني


مازال الكثير من المفكرين يتعاطون مع مصطلح الدولة المدنية ، بكثير من التحفظ و الحذر كمفهوم جدلي ذات مفردات إشكالية، وتناقضات ذات مرونة عالية للتأويل والتفسير ، ومفاهيم تتأرجح بين العلمانية واشتغالات الأديان السماوية ، فالتناقضات تتجلى في رؤية العلمانيين في عدم تبني الدولة لدين رسمي معيّن ، وأن من أهم نتاجات الفكر العلماني فصل العقل السياسي عن العقل الديني بما يضمن خلو القرارات السياسية من أي اجتهادات ذات بصمة دينية بتشعباتها المذهبية واختلافاتها الطائفية ، وأن روح الدستور يجب أن ترتكز بصورة حقيقية في معاملة جميع أفراد المجتمع على أساس المواطنة الحرة بغض النظر عن العرق والدين والطائفة والمذهب والفكر ، وأن جميع الحريات مكفولة على أساس الحقوق والواجبات المدنية لا الشرعية منها ، أما أصحاب الدولة الدينية فيرون أن الإسلام هو مصدر التشريع الوحيد ، وأن العقيدة الإسلامية يجب أن تكون المحور الرئيس الوحيد للمجتمع الإسلامي ، وأن جميع الحقوق والواجبات والأمور القانونية والدستورية يجب أن تؤسس على نظرية القيادة المطلقة للعقل الديني ، والحاكمية العليا للفكر العقائدي ، والامتياز الخاص للدين الغالب ، ليمارس على الدوام اشتراطاته المطلوبة في تفضيل الضرورات الدينية على جميع الأنشطة البشرية دونما استثناء .
وبما أن المفهومين يرتبطان بصورة مباشرة بطريقة حياة الإنسان بصورة شاملة ، في جميع مراحله العمرية بدءا من ولادته وانتهاءاً بفنائه وانقضاء أجله ، فليس من الإنصاف الحديث عن هذين المفهومين ، من دون التطرق للتركيبة الفعلية للإنسان ، ببعديها المادي والروحي ، مرورا باحتياجاته الفعلية كمّا ونوعا ، فالنظام العلماني حقق ومازال يحقق الكثير من الإنجازات المادية والعلمية ، وله نتاجات فكرية وأدبية وبشرية ضخمة ، بدليل استئثار الدول الغربية والأوربية بصدارة العالم ، وتسيّده سياسيا وتقنيا واقتصاديا وعلميا ، بعيدا عن (الدوغماتية) والاستبداد والجمود الفكري ، ومن الحجج المؤيدة للعَلمانية ، أنها تتخلص من قيود الأديان نحو الحداثة والعصرنة والتقدم ، مستشهدين بالعصور المظلمة والدول المتخلفة التي سادت أوربا في القرون الوسطى ؛ أيام تسيّد الكنيسة ووقوفها بوجهة النهضة العلمية ، وفلسفات التحرر، ومحاولات التجديد ، ونعتها بالسحر والشعوذة ، بغرض ترهيبهم وثنيهم عن أي محاولة للخروج من عباءة الكنيسة ، ومن حججهم الأخرى أن العَلمانية تحمي الدين من تدخلات وتأثيرات الحكومة ، وتتركه بهيا صافيا بعيدا عن التعصبات القومية والسياسية ، ونقيا من آثار المصالح الفردية ، وأن جميع القرارات الدينية يجب أن تكون بيد المختصين من رجال الدين ، وأن النشاطات و القرارات السياسية يجب أن تكون مبنية على الحقائق المجردة ، والعلوم الساندة ، لا على وجهات نظر مبنية على مسائل عقائدية ، يعدّها العلمانيون وجها من وجوه السياسات التقليدية الراكدة ، التي لن تقود إلا إلى المزيد من التخلف والوهم ، وترسيخ مبدأ الشمولية والحاكمية المطلقة للفرد على حساب الحريات الشخصية و السياسية والمدنية ، وحرية الاعتقاد و العبادة و العلاقات الاجتماعية وغيرها من أنواع السلوكيات الإنسانية ، وهي حجج منطقية في صورتها الظاهرة ، لكن الواقع يشير إلى تداخل نسبي بين العلمانية المعتدلة والليبرالية الواقعية ، التي تستند إلى ممارسة الحرية الفردية بشتى أشكالها ما لم تضر الآخرين ، أو تكسر القوانين ، فالليبرالية لا تأبه كثيرا لسلوك الفرد الأخلاقي طالما أنه ما يزال واقفا في دائرة القوانين الوضعية ، ولطالما أنه لا يكسره أو يتجاوزه ، وما عدا ذلك فليفعل الفرد ما يشاء ، كما فعلت
رئيسة الوزراء الأيسلندية (يوهانا سيغور) قبل سنتين ، حينما أعلنت زواجها بصديقتها المثلية ، عن طريق الهيئة الرسمية للإذاعة والتلفاز الأيسلندي ، وتحويل الارتباط المدني إلى زواج كامل في نفس اليوم الذي أقر فيه البرلمان الأيسلندي قانون زواج المثليين ، فهي عندهم لم تخالف أي قانون ، ولم تخدش أي دستور ، طالما أن الأمر يحصل بالتوافق والتراضي بين الأطراف المعنية .
هذه القصة وغيرها من مئات القصص والأحداث، تشي بقوة ووضوح عن استحالة تطبيق العلمانية الغربية في المجتمع العربي عموما ، والمجتمع العراقي الباحث بكل ثقله عن حل يخرجه من أزمته السياسية والأمنية والاجتماعية التي تضرب بأمواجها واجهات خلاصه المفترضة منذ سنين في بحر الصراعات والخصومات المزمنة ، ويقيه من النتائج غير المرجوة في ظل احتدام الخلافات بين الأطياف السياسية بكل تشابكاتها وتعقيداتها وامتداداتها المحلية والإقليمية والعالمية ، ليس فقط لتفكيك الأزمة الراهنة وحسب ، بل في اختيار الطريقة المناسبة في إدارة البلاد على المدى الطويل ، والتي ستتيح لكل فرد يحمل الجنسية العراقية أن يتمتع بروح المواطنة الحقيقية ، وأن يشعر بحريته ويمارسها بكل تفرعاتها ومعانيها ، وأن يطوي وإلى الأبد تلك الصفحة الكالحة التي كُتبت فيها الآلاف الممنوعات واللاءات ، والتهم ( المسلفنة ) التي تفوح رائحتها النتنة من مطابخ المتخندقين خلف أيدلوجيات : ( التبعية المطلقة أو القطيعة المطلقة ) ، وأن يستشعر الحل الأمثل ، ويدرك أن مفهوم الدولة المدنية بمعناها الصحيح – وإن كانت تشترك ببعض الأطر العامة مع العلمانية – يجب أن يرتكز على نظام مدني ، وحزمة واسعة من العلاقات التبادلية القائمة على المساواة والقيم الإنسانية الرفيعة ،والتعاون مع الآخر وتفهمه بغرض الاتفاق والتساند من أجل العيش المشترك ، وترسيخ ثقافة التسامح والتآزر والتعايش السلمي ، وفض الخلافات والصراعات عن طريق الحوار واحترام تباين وجهات النظر ، والتخلي عن مشاعر القوة والغضب والسيطرة .
إن تأسيس الدولة المدنية بمعناها الحقيقي تحت إطار نقي من القيم الأخلاقية الرفيعة ، سيساعد بلا شك جميع المنضوين تحت لوائها ، أن يتفهموا أدوارهم الحقيقية ، دون تجاوزات أو تداخلات في التوصيفات والصلاحيات والواجبات ، وسينتشل مؤسساتها من تأثيرات القوى السياسية والخصومات الفردية والنزاعات المناطقية و المذهبية ، وبالمقابل ستتمكن هذه المؤسسات من تنظيم الحياة العامة ، والحفاظ على ملكية الفرد وكرامته وحريته في حدود الأعراف والقيم والدين ، من منطلق المواطنة المتساوية ، في الحقوق والواجبات ، التي يفرضها القانون على جميع الناس بصرف النظر عن فكرهم وطائفتهم ومكانتهم وانتماءاتهم ، دون المساس بالقيم العليا للمجتمع .
لسنا بحاجة إلى التفكير مطولا في حاجة البلد الملحة لرؤية واضحة لما سيكون عليه لاحقا ، ولسنا بحاجة إلى قوالب جاهزة مستوردة من الخارج ، ولا إلى فلسفات سياسية جديدة ، أو مذاهب فكرية مستحدثة ، نحن بحاجة فقط إلى التفكير بجدية وإخلاص ، في كيفية بناء الدولة المدنية الحديثة ، في إطار نظرة عقلانية للدين المعتدل ، دون المساس بجوهره وعقائده وقواعده وأحكامه الأصيلة، وعدم تحجيم ثقافة التمسك بالقيم والأعراف المجتمعية السائدة ، بعيدا عن الفكر الراديكالي المتطرف ، وضغوطات التيارات السلفية والتكفيرية المتشددة ، فنحن يجب أن ندرك أن الإسلام الحقيقي ، هو مَن يدعو بحق للسلام والتسامح والتعايش داخل وخارج إطاره الفكري والعقائدي ، وهو من يصرّ على تجاوز فُرقة المذاهب والطوائف والأعراق ، وهو من جاهر ومازال منغمسا في مجاهرته الصريحة في تأكيد قدرته الخارقة على استيعاب كل الأجناس والألوان والطبقات واللغات ، وتأسيس دولة مدنية تتسع للجميع سواء كانوا مسلمين أو من أديان أخرى ، فدولة الإسلام في عصرها الذهبي لم تكن دولة دينية قط – قبل أن يتم تشويه معناها بتعمد - بل كانت دولة مدنية ذات ركائز أخلاقية رفيعة المستوى ، تستند بقوة على أسس ومبادئ القانون الرباني والدستور الإلهي ، الذي لم يترك شاردة أو واردة إلاّ وأحاطت بها مرجعيته الإسلامية الصافية ، ونظمّتها برتيب وسلاسة منقطعة النظير ، دون أن تعنوّن نفسها يوما كخطر تكتيكي او استراتيجي محتمل يهدد قيام الدولة المدنية ، وربما تتطابق وجهتي نظر الدولة المدنية ذات الإطار الإسلامي ، والدولة المدنية الحديثة ، من حيث إعتبار أن الرعية ومصالحها العامة تُعد مصدرا وحيدا للسلطات ( الديمقراطية ) ، والشورى ( حرية إبداء الرأي ) ، وأن القانون لا يفرق بين حاكم ومحكوم ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعتُ يدها ) ، وغيرها مما لا تسمح بهذه هذه العجالة بالدخول في تفاصيله الدقيقة .
ليصبح من الضروري ، تجنب وصف الدولة الإسلامية بالدولة الدينية ، أو الدولة الثيوقراطية ( دولة الإستبداد بأسم الدين ) ، أو الدولة العسكرية ، أو الدولة الدكتاتورية ( دولة الحاكم الأوحد ) ، وأصبح من البديهي المناداة بضرورة التفكير في بناء دولة مدنية غير علمانية ولا ليبرالية ولا اناركية ، بل دولة مؤسسات المجتمع المدني ، ودولة تعتمد التشريع الواضح في تنظيم العلاقات المرّكبة بين الأفراد والسلطات الحاكمة ، التي لا تصل الحكم إلاّ عن طريق رضا الأغلبية ورغبتها الشائعة ، لترسم ذات الصورة – ربما بالوان أكثر إشراقا – للدولة المدنية التي رسمها " جون لوك " نفسه .
وستبقى فكرة تغيير أسم اول عاصمة للإسلام من ( يثرب ) إلى ( المدينة ) ، خير شاهد على إن الأسم المشتّق من المدنية بكل دلالاته ومعانيه ، ليس غريبا ولا شاذّا عن اعتبارات الدولة المدنية الحديثة التي نادى بها الإسلام وما يزال ، دون أن تفرض شيئا من فكرها أو عقائدها على الباقين ممن كانوا يسكنون ( المدينة ) ، من مسلمين وغير مسلمين ، والتأكيد على ضمان حرية عقيدتهم ، بقوله تعالى في سورة البقرة : ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) ، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تؤكد على أن الدولة المدنية بكل معانيها واعتباراتها ومبادئها ، ما هي سوى نفس الدولة المدنية التي طالب بها الإسلام وأصرّ عليها ، وأرسى مبادئها وآلياتها وأسسها وأنظمتها الرئيسة والفرعية ، التي تحارب الظلم والظالمين ، والفساد والمفسدين ، والفردية المطلقة ، وتدعم الخير والعدل والديمقراطية وفصل السلطات ، وتولي ذوي الخبرة والمقدرة والنزاهة والحكمة حصرا لمقدّرات الأمة ، مع التأكيد على مراقبتهم وملاحظتهم ومحاسبتهم عند الضرورة ، دون أن يكون لهم أدنى شرعية معتبرة عندما تكون الأمة هي خصمهم ، والتأكيد على سيادة مفاهيم الحريات العامة والخاصة ، وتحجيم دور الجماعات الفرعية والأحزاب الاستثنائية والولاءات الشخصية ، وتبني نصوص دستورية تحرر المواطن من أي مصالح فردية أو هيمنة حزبية ، بما يضمن له الاستقرار والعيش الكريم ، وصدق رسول الله ( ص) حينما قال : لا خير في الوطن إلا مع الأمن والسرور .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية