الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شُهداء في الزحام

نصير عواد

2012 / 5 / 16
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


لا نظن الضحايا الذين أعدموا بتهمة الشيوعية في شهر أيار من عام (1978) ولقبوا لاحقا بمجموعة "سهيل شرهان ورفاقه" هي القشة التي قصمت ظهر الجبهة الوطنية بالعراق وأنهت التحالف الهش بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي فلقد سبق ذلك الكثير من الممارسات والاجراءات الحكومية التي نشرت الرعب بين المواطنين ومهدت إلى افراغ الشارع العراقي من قواه السياسية وتعطيل التجربة الوطنية التي بالغ بها وعوّل عليها كثيرون. فهذه المجموعة المكونة من (31) فردا جرى اعتقالها بتاريخ (25 _ 12 _ 1975) أمضت ما يقارب العامين ونصف في سجن "أبو غريب" كانوا اثناءها أشبه بورقة سياسية للضغط على الحزب الشيوعي العراقي وانتزاع التنازلات منه قبل أن يتم تنفيذ الحكم الجائر بتاريخ ( 17 _ 5 _ 1978). مقالنا يتناول صفحة من حياة هذه المجموعة التي ضاعت بعض تفاصيلها في زحمة الاحداث المتلاحقة، نطيل الوقوف عند الأسماء التي عرفناها عن قرب، فشاهدٌ حيٌّ واحد على ما جرى أفضل من دزينة من الذاكرات التي تروي، عن حب، من بعيد.
حداثة سني، في سبعينيات القرن الماضي، جعلتني أندهش لأكوام الحديد بسجن "أبو غريب" فلم أرَ من قبل هذا العدد من الغرف والجدران والممرات الضيقة داخل البناء وقد صنعت كلها من حديد، يزيد من حضوره السلاح والعتاد وكثرة الحراس ذوي الملامح الباردة. كان الختم الذي يضعونه على أيدينا عند باب السجن يستمر أذاه أيام وليال بعد عودتنا من زيارة السجناء، لا يزيله الماء والصابون وكأن الذاكرة هي التي قررت الاحتفاظ به. زياراتنا للسجناء كانت بدوافع اجتماعية ولم تكن بتوجيه من حزب أو جهة معينة، فلقد كان الحزب الشيوعي العراقي يومها يشتغل بهدوء على موضوع السجناء السياسيين ولا يريد توسيع المشكلة وزج أبرياء آخرين، ولكن هذا لا يمنع من أن أغلب الحوارات التي تدور بين الزوار والسجناء كانت سياسية، ومثلما كنّا نحمل للسجناء أخبار الشارع العراقي نحمل معنا من السجن تفاصيل وأخبار الزيارة إلى بيوتنا ومنظماتنا الحزبية. من بين الحوارات التي دارت في زيارتي الأولى كانت عن سبب وضعهم في قسم "الأحكام الثقيلة" على الرغم من أن التحقيقات لم تنتهِ بعد ولم يصدر الحكم على أي من المتهمين الـ(31) الأمر الذي يوحي وكأن شيئا يجري الاعداد له في الغرف المظلمة. مع معرفة السجناء بدور ونشاط الحزب الشيوعي الساعي لتبرئتهم من التهمة المنسوبة إليهم إلا أني كنت قد لمست بين احاديثهم مرارة وشكوى من قلة الزيارات وضعف الاهتمام بقضيتهم، فلقد كانت ظروف سجن أبو غريب قاسية، غيّرت ملامحهم وجرحت إنسانيتهم. في زياراتنا المستمرة لهم بالسجن على مدى ثلاثة أعوام كنا نسأل ونتابع نتائج التحقيقات معهم إلى أن اقترب يوم الحكم بالقضية حيث تجمعنا، أقرباء وأصدقاء وعوائل المتهمين، وسط الشارع الذي تقع فيه بناية المحكمة من الصباح وحتى ما بعد الظهر من دون أن نرى أو نسمع تفاصيل ومجريات المحكمة، كان الجوع والتعب والانتظار قد أخذ ملامحنا وقوانا، ثم فجأة انفتح الباب وتناثر الجنود بأسلحتهم على طول الشارع واقتربت عربة نقل السجناء الحديدية كثيرا من باب المحكمة وبدأوا يدخلونهم واحدا تلو الآخر وهم مثقلين بالحديد، ثم أفلت الشهيد "اصميدح" يده من الحارس وصاح .. اعدام. غادرت بعدها عربة السجناء صوب سجن أبو غريب ونحن توجهنا، وسط الدهشة والدموع والصراخ، ومن دون أتفاق أو حذر باتجاه القصر الجمهوري. ارتبك حراس القصر بهذا العدد من الاجساد الناحلة التي لم تذق طعم الزاد منذ الصباح وهي تصرخ وتشتم وتسير كيفما اتفق في منطقة خطرة ومليئة بكاميرات المراقبة، ثم سرعان ما وصلت التعزيزات العسكرية وأبعدونا عن القصر. ففي عراق السبعينات المشحون بالرعب والموت لا يجرؤ أحدا على الاقتراب من تلك المنطقة فما بالك بالخروج في تظاهرة ضد سلطة البعث وأمام القصر الجمهوري؟ لا أظن أحدا سيصدق ذلك، لكنه وقع، وكان أشبه برد فعل غير محسوب. رجعت عوائل الشهداء إلى مدنها وقراها وبقيت أنا في العاصمة بغداد حيث كان ينتظرني في مقهى ( الأعيان ) قرب جامع الحيدرخانة الكاتب "علاء اللامي" والشاعر "عدنان الزيادي" والكاتب "كامل الجباري" والفنان التشكيلي "وليد يحيى عبد" الذي بدأ يخطط بقلم الرصاص ثمانية أقدام متدلية على خلفية قاتمة، تحولت بعد ذلك إلى لوحة معبرة تجسد موضوع أليم، أخذتها معي إلى مدينة الديوانية بعد تطور الاحداث المأساوية، قيل لي بعد ثلاثة عقود أنها طُمِرت تحت البلاط مع الكتب والأوراق والوثائق الرسمية.
في السجن وبين أكوام الحديد البارد التقيت أول مرة لاعب كرة القدم المعروف "بشار رشيد" جالسا بين أبناء مدينتي الأربعة المحكومين بالإعدام. كان رغم ظروف السجن مليء بالحياة ويستمتع بكل لحظة يعيشها، بدا يومها وكأنه الأكثر أملا بين زملائه. شكرني على الـ"الخبز بلحم" الذي أرسلته أمي معي وسألني عن دراستي وعن رياضتي المفضلة، فرحت أروي له معاناتنا في متابعة كرة القدم بسبب ضعف البث التلفزيوني وعدم وضوح الصورة في مدينة الديوانية، الأمر الذي يدفع الشبيبة للسفر إلى مدينة الحلة القريبة من العاصمة بغداد للتمتع بالمشاهدة، ثم رويت له عن ملعب كرة القدم القريب من محلتنا "أهل الشط" وكيف حولوه إلى بناية ومقر للجيش الشعبي. آخر مرة رأيته فيها قبل أن يُعدم عندما نادى علينا الحراس بانتهاء وقت الزيارة أهداني، مبتسما، لعبة شطرنج كان السجناء يصنعونها من عجين الخبز الزائد تزجية للوقت.
"عبد الكريم عبدالله البدري، حامد خضير خيرالله البدري، صميدح خديم كَحط، عبد الزهرة محمد" وجوه طيبة وبسيطة من مدينة الديوانية المنسية على نهر الفرات، لا يمكن لعاقل التفكير ولو للحظة أنهم قادرين على التخطيط لانقلاب عسكري أو تنظيم خلايا سرية لهدم الدولة. وكانت كلما تطول فترة اقامتهم في السجن وحضورهم جلسات المحكمة الشكلية تتوضح أمامهم خيوط اللعبة ويتأكد لهم أنهم ضحايا لخلاف سياسي افتعلته حكومة البعث للضغط على الحزب الشيوعي العراقي وصولا إلى عزله وضربه مثلما فعلوا بالأكراد والقوى الدينية. فبعد كل عملية تحقيق يروي لنا السجناء بهتان القضية ووضوح الجانب التلفيقي فيها، حتى أن الشهيد "صميدح خديم كَحط" كان يظن أن سبب صدور حكم الإعدام بحقه هو أسمه المتعثر والذي لم يستطع قاضي التحقيق قراءته ولفظه بسهولة. فهو "صميدح" شرطي بسيط وتعليمه متواضع ويعاني من حب الشيوعيين، فلقد كان الميّل للشيوعيين في النصف الثاني من القرن الفائت أشبه بـ"فزعة" الكل يود المشاركة فيها. على الرغم من توجيهات الحزب الشيوعي العراقي في تجميد نشاطه السياسي بين صفوف العسكريين إلا أن المد الجماهيري يومها جلب معه الكثير من الاخطاء الصغيرة التي أودت بحياة الأبرياء، فكان نشطاء الحزب يوزعون أدبيات الحزب بالعلن ويستلمون ثمنها وبعض دراهم التبرعات، وكان من المألوف رؤية العسكريين وهم يبدلون ثيابهم في مقهى "عواد الشطاوي" في محلة "الجديدة" ليتسنى لهم قراءة جريدة "طريق الشعب" ومن ثم العودة إلى معسكراتهم في المساء. وكان الكثير من هؤلاء العسكرين يتبرعون للحزب بـ"درهم" واحد كما كان يفعل الشهداء "حامد خضير واصميدح خديم كَحط" ولكن لا توجد اجتماعات أو تنسيق أو اتفاق على تشكيل تنظيمات مهمتها أسقاط النظام. المضحك المبكي أن الشهيد "عبد الكريم عبدالله البدري" الذي أُتهم بجمع الدراهم والتنظيم والتخطيط لأسقاط النظام كان من بين القلة في محلة "أهل الشط" من رحب ودافع عن نشوء الجبهة الوطنية وعن امكانية وصول البعثيين والشيوعيين سوية إلى الاشتراكية، وكان الحكم بالإعدام صدمة له ولأبناء محلته المائلين لليسار. الظروف التي رافقت الاعتقال في أول مراحله كشفت عن اعتقال الكثير من الأبرياء في صفوف الشرطة المحلية بمدينة الديوانية إلا أن ضعف القضية وتلفيق التهمة أدى إلى تبرئتهم وخروجهم بعد دفع رشاوي زهيدة أو توقيع البراءة من الحزب الشيوعي أو شهادة من "بعثي مسؤول" تؤكد انتماء المتهم لحزب السلطة لا للحزب الشيوعي العراقي.
الأكثر مظلومية بين الشهداء الأربعة من مدينة الديوانية كان الشهيد "حامد خضير خيرالله البدري" فعلى الرغم من أنه أبنا لعائلة شيوعية مناضلة إلا أنه لم يتسنَ له الوقت للعمل في مجال السياسة، كان يعيش ظروفا خاصة، ألتحق بسلك الشرطة لأنهاء خدمة العلم الإلزامية، وكل جريمته أنه أعطى بضعة دراهم لقريب له سرعان ما تحول هذا المبلغ الصغير في عيون المخبرين إلى بدل اشتراك للحزب وإلى تنظيم سري وتخطيط لانقلاب، لم يصدقها الشهيد نفسه حتى آخر أيام حياته. والأكثر حزنا في ذلك هو والدته "عاشوره" التي لا تبارح باب الدار بسبب خلل في ساقيها أعاقها عن المسير، وكانت امرأة حزينة على الدوام وقوية، تستوقفني كل مرة عند عودتي من العاصمة بغداد وتمطرني بالأسئلة عن "حامد" ومن معه وإنْ كان هناك أملا أو أتفاقا بين فرقاء الجبهة الوطنية ينهي مأساة السجناء. قبل تنفيذ حكم الاعدام وخلو الشوارع من الوجوه السياسية المعروفة وتوارد الأنباء عن اعتقال البعض منهم وهروب آخرين إلى الجبال قالت لي "عاشورة" سوف لن ينجو أحدا منكم، أهربوا بجلدكم فسوف تكون حياتكم صعبة ولن تكسبوا من الشيوعية سوى (السمعة الطيبة) ثم أردفت بصوت يائس وأليم وكأنها على يقين من موت أبنها "حامد"، أنها لن تستقبل المعزّين بأبنها ولن تُدخل لبيتها الرز والسكر الذي سيحملونه معهم وستستقبل فقط الذين زاروا أبنها في محنته وسجنه من دون خوف.
في صباح يوم ديواني مشمس من شهر أيار (1978) نهض "أهل الشط" كعادتهم لممارسة أعمالهم، الرجال في المطاعم والنساء في الحياكة والأطفال في المدارس، فوجدوا شوارعهم المتربة مليئة بغبار العربات المصفحة والجنود المدججين بالأسلحة والافندية الناتئة مسدساتهم عند الخصر، ثم عرفنا أن سلطات الأمن المحلية أبلغت عوائل الشهداء (خضير خيرالله البدري، الحاج عبدالله البدري) في ساعة متأخرة من الليل بإعدام أبنائهم وأن عليهم الذهاب لاستلام جثثهم. في ذلك اليوم الحزين غابت روائح الطبيخ عن شوارع "أهل الشط" وتُركت وشائع لحمة الخيوط على حالها فوق السجاد وبيوت الشعَر غير المكتملة وتجمعت النسوة عند أطراف الشارع المنكوب بثياب سود ووجوه أنهكها الفقر والخوف ورحيل الأبناء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المجد لشهداء الحزب الشيوعي البواسل
سمير أحمد ( 2012 / 5 / 16 - 11:48 )
أخي الكاتب..شكرا لوفائك في الكتابة عن هؤلاء الأبطال الذين هم ضحايا وشهداء بنفس الوقت في مرحلة عاصفة مر بها العراق تحت حكم البعثيين السفلة الذين ليس لهم شرف أو ضمير وإنتهوا بسرعة خاطفة مستقرين في المزبلة تطاردهم اللعنات ..أما الشيوعيون من امثال اللاعب الدولي بشار والشاب سهيل شرهان ورفاقهم فسيبقون أحياءً في قلوب وضمائر كل الشرفاء في بلدنا العراق..تحية عطرة لأرواحهم


2 - المجد لشهدائا
نبيل عبد الأمير الربيعي ( 2012 / 5 / 16 - 18:55 )
اخي العزيز وابن مدينتي نصير عواد ,هؤلاء الشهداء هم ضحايا الجبهة شتت رفاقنا في المنافيو شكراً لهذه المقالة , وقد تكون شيء من الوفاء بحق الشهداء ,

اخر الافلام

.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه


.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر




.. عمر باعزيز عضو المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي