الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لحظات إنسانية متشابكة ومعقدة عن ريف منسي

أشرف العوضي

2012 / 5 / 21
الادب والفن


رواية الهيش لاشرف العوضى
عالم مبني على لحظات إنسانية متشابكة ومعقدة عن ريف منسي
غازي الذيبة

(1)
الهيش هي الرواية الأولى للقاص المصري أشرف العوضي ( مقيم بالدوحة ) صدرت عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة‚ وسبق له أن أصدر مجموعتين قصصيتين هما : عفاريت شجرة السرو‚ حذاء السيد المنسي‚
وكتابا (قصصيا ) بعنوان : هؤلاء لم يهبطوا من السماء‚ لم تغب عن العوضي في روايته الجديدة والأولى ملامح كتابته القصصية في مجموعتيه اللتين صدرتا سابقا ‚ ففي مبنى هذه الرواية ‚ انسجام أسلوبي مع الأساليب التي شكلها في المجموعتين القصصيتين السابقتين ‚ ينحو باتجاه الجمل القصيرة نسبيا‚ والتي تحاول الاقتراب من مظهر النص‚ لاكتشاف فضائه دون تركيب أو تعقيد‚ فبنية النص لديه واقعية‚ تنهل من اليومي وتفاصيله‚ لتتشكل في إيوانه‚ كما أنه يسند فعل السرد الى الحكي بأساليبه التي يتم تعاطيها في ا لحكي اليومي‚ لكنه هنا يفصحها‚ ليمنح المجال السردي في روايته حيوية الواقعي وتأثيراته‚
(2)
في « الهيش»‚ يقف العوضي على مشارف عالم مسكون بالغربة والألم‚ الغربة التي تتكدس في ملامح الوجوه والأرواح لدى أبناء القرى المسحوقة‚ تلك التي تنتظم في عيش الكفاف‚ عالم تتحول فيه الوقائع‚ الى سياق منسجم تماما مع جغرافيا المكان‚ وتتشابك شخوصه بكل ما تحمله من توق الى الانفلات من النص‚ مع رغبتها في ان تتوهج‚ وتضيء اللحظة التي تسكنها داخل هذا المكان /الهيش الذي صنعه العوضي‚ بترقب وانتباه شديدين لعالم‚ تحولت فيه مصائر الأبطال الى حالات تتعالق مع مصائر الأمكنة‚ ليصبح المكان / القرية ( هنا) هو البطل‚ الى جانب تلك الذوات المهشمة والمسحوقة‚ من ناس القرى‚ القابعين تحت وطء القسوة التي تصنعها الطبيعة‚ كي تبدو مثل مرآة مصقولة تماما‚ تنقل الأحداث والوقائع بدقة روائية‚ أي عبر وسيط متخيل‚ لا تحكمه واقعية حادة التفاصيل‚ ولا تخرج التفاصيل منه عن واقعيتها‚ حتى أنها تتواءم مع مسالك الشخوص وفيوضاتهم الإنسانية‚ الموزعة بين الشر والخير‚ دون أن تعلق كبير اهتمام لما قد تنهض به هذه الشخوص‚ من حيث الوقوع في براثن الخير والشر‚ فقد كان لافتا حركة الشخوص في الهيش‚ ضمن مجال حر ‚ بحيث منح شخوصه حرية الحركة‚ فبدوا مصوغين‚ لرفع الحياد الذي يحكم مجرى تحرك الشخوص الى ذروته ‚
فالحرية في الكتابة على ما نعلم تقتضي الذهاب الى حركة غير مفتعلة لمجرى الرواية والأحداث‚ ومآلات الشخوص/الأبطال‚ مما جعل بعض الشخصيات في « الهيش» غير متناغمة مع إحداثيات خط سير الرواية‚ لأن هذه الشخصيات فقدت الاتجاه الذي كان يجب أن تسير عليه‚ فكانت السيطرة على مساراتها محكومة الى ما تنبض به من أجل تثبيت مسارات الشخصيات الرئيسية‚
(3)
دائما ما تصنع الروايات‚ انقسامات حادة في رؤيتها وسياقها ومبناها العام‚ وحتى في أسلوبيتها لدى القارئ‚ فهي تجزم بالخير والشر المطلقين‚ وان انحنت على شر أو خير نسبي‚ فإنها تتودد بذلك الى الانسجام مع الواقع الذي تخرج أبطالها منه‚ متقيدة بالتسجيل والتوثيق في هذا الملمح من الكتابة‚ وفي هذه تنأى الأعمال الروائية المكتوبة بهذه الطريقة عن المخيلة وما تصنعه من أفق يفتح النص على عالم‚ يمكن أن نراه في الواقع‚ ولكنه معجون بطينة‚ تجعله واقعا فنيا‚ منسوجا بما يلبي للرواية طاقتها‚ في ان تكون عملا فنيا‚ يشدنا بتورياته وما يفجأنا من وقائعه‚ فالرواية تمتح من فيض المخيلة‚ ولولا هذا الفيض‚ فإنها ستغدو مجردة من الفن‚ وتصبح كتابة منصرفة الى تأريخ الواقع وتدوينه كما هو‚ لتكون بذلك كتابة تسجيلية ‚
من هنا‚ مر العوضي على عالمه في «الهيش»‚ كما لو أنه صورة طبق الأصل لأحداث يمكن لها ان تكون أو تجري في زمن ما وعلى جغرافيا ما‚ والزمن هنا غير محكوم بميقات‚ يمكننا أن نلتقطه واضحا‚ لكنه يشير الى حقبة أواخر الملكية في مصر التي هي جغرافي النص المكانية‚ أن نقل الواقع بهذه الطريقة‚ سيخلف كتابة تتراوح فاعليتها بين أن تكون مجرد عمل تأريخي أو تحقيق صحفي بارد‚ فالقرية التي تتنازع ناسها رغبات جامحة باتجاه الحياة والتشبث بها‚ ليست قرية عابرة‚ إنها قطعة من الريف المصري‚ وناسها لا يختلفون في تفاصيل حيواتهم عن أي قرويين في مصر او بعض الأرياف الاخرى في العالم الثالث‚ لكنهم في هيش العوضي‚ الذي نحا به لأن يكون مكانا‚ خاصا واستثنائيا‚ يحمل سمات الريف المصري بكل توقه للحياة والانطلاق‚ رغم قسوة المعاش‚ فإن القرويين أو الفلاحين‚ هم أناس من خلاصات أرياف عديدة في ذلك الريف ( المصري )‚ تختزلهم الرواية كعادتها الى نماذج حية‚ تتحرك في مدارات‚ تتقاطع مع بعضها وتتعالق‚ وكأنها نسيج واحد‚ فالريف بطل رواية الهيش‚ وقبل أن نمضي في اتجاه شخوص الهيش‚ تقف القرية المصرية بكل ما تشي به مفرداتها‚ في كل تفصيل‚ لتدفع برواية الهيش الى أن تنتمي الى ما يمكن أن يسمى بالرواية الريفية العربية‚ التي أشبع تناول فضاءاتها‚ حين كانت أسئلة الحداثة الأولى في الثقافة العربية‚ تضع سؤال الهجرة من الريف الى المدينة‚ في محل إثارة للواقع الاجتماعي الذي تترتب عليه مثل هذا الإحالة‚ وهيش العوضي‚ التي تحاول أن تفر من أسر الأيدلوجيا والمعاني القارة في الكتابة الموجهة‚ توجه العوضي نفسه لإقامة عالم متخيل ‚ مستنبط من الواقع‚ يتمدد في حكاية ‚ مشحونة بصور وشخوص مهزومين ومرتبكين ومتوترين ومنسلخين عن ريفهم ‚ وشبقين ‚ إنها رواية تريد ان تتحكم بمصائر من يقطنونها‚ وتتحرك في ذواتهم المهشمة والمهمشة ‚
من هنا قدم العوضي‚ منحى لا يقيم في منطقة البحث عن حلول لقضية اجتماعية أو اقتصادية‚ وإنما بنى نصه على لحظات إنسانية متشابكة ومعقدة‚ تتفقد هواجس الريفيين‚ وعوالمهم‚ وتغور في أعماق رغباتهم‚ متمسكا ‚ بتصوير واقعهم‚ بطريقة توحي أن هذا العالم مشحون بشر مطلق ‚ منجذب الى قدر سيزيفي‚ لا يمكن الخلاص منه‚ وهو يثير حساسية تجاه المعنى الذي تريد ان تقوله هذه الرواية‚ وهي تقترب من لحظات تتماس مع واقع لا يشبه الواقع‚ وريما يكون اشد قسوة مما رأيناه في الهيش‚ لكنه أيضا يحتمل قراءة لا تضعه في تلك الواقعية المشدودة إلى التوتر طيلة صفحات الرواية ‚
(4)
أن ما يصيب بالتوجس أثناء ملاحقة رائحة الريف في « الهيش» هو عالم الريف / القرية بتفاصيله النائية والقاسية‚ والذي تخضع وقائعه لقانون القسوة والطبيعة شديدة العنت‚ المحشو باللارحمة‚ والذي فيه تنمو كل الأعشاب الضارة بالذات ‚ إذ لا هوادة فيه‚ تتحكم في طياته الغريزة والفطرة ‚ وتتناثر الشهوانية في زقاقه ‚
إنه هيش ملعون‚ وبيوته طينية آيلة للخراب و«غرزه» تتناهشها الرغبات الفاسدة‚ فيما تتبدى الطهارة منبجسة من أشخاص‚ أثرهم‚ لا يتجاوز الحاجة التي يبتغي من ورائها إنسان هذا الريف‚ بعض السكينة‚ لكن سرعان ما تتداعى هذه الرغبة باتجاه عالم قاس ‚
إنهم أناس وهميون‚ وكأن العوضي يريد إن يبوح لنا بأن الطهارة تقيم في منطقة الوهم والتخيل‚ داخل هذا الهيش الموار بالشرور‚ وهذه إزاحة لمنحى الرواية في واقعيتها‚ قد لا تكون في محلها‚ لكن الروائي‚ له رؤيته التي يتكىء عليها ليقيم عمله ضمن شروطه هو‚ لا شروط الواقع بحذافيره‚ وهو يمد الهيش بتفاصيل موحية عن الألم الذي يقيم خارجه ‚ ليكون الهيش بالتالي عالمنا‚المليء بالشرور والقسوة عالمنا المديني أعني‚ الذي يتفارق في الجغرافيا مع الريف‚ لكنه لا يتفارق مع التفاصيل الباقية‚ وكل ملمح في الهيش له ما يقابله في الخارج ـ خارج الهيش ‚
(5)
برهان عجب جابر وسعاد ‚ هما الاسم الحركي للرواية ‚ وهما يلخصان مجمل ما ذهب إليه الروائي‚ حين رسم نهاية مفجعة لهاتين الشخصيتين‚ ( طبعا لا تقل فجائعية نهايتهم عن فجائعية عالم الهيش كله ‚ وسوداويته ) ترتفع فيها التراجيديا الى مؤدى‚ يفصل هذه النهاية عن باقي مسار الرواية‚ لانها جاءت مختلفة في سيرها‚ ومنحرفة عن مجال حركة الشخوص المتسقة في نموها مع عالم الهيش‚ ويبدو عجب أكثر حضورا في معناه داخل الرواية من سعاد ‚ فهو‚ ابن غامض لصاحب الهيش‚‚ المكان الذي اختار لإقامة فيه داخل هذه القرية على طرف من النيل ‚ أمه حميدة‚نعرف في نهاية الرواية ( تموت في وسطها) أنها زوجة سابقة لأبو السعود سليل الأرستقراطية الحضرية‚ وكان تزوجها بطريقة أقرب منها للزواج العرفي‚ لكن عجب سيموت وهو غير عارف بحاله هذه وابن من هو ‚
ان هذا التركيب الحكائي الملغز‚ بسيط‚ لا ينم عن كشف لخبايا الشخصية‚ الوقورة لأبو السعود‚ ولا يمنحها تلك الطاقة التي تجعل سيرورتها‚ محركا فاعلا في فضاء ا لنص‚ وهو يبدو هنا على الرغم من إبداء الروائي‚ أهميته كشخصية افتتح بها روايته‚ مجردا من قوة الإشعاع في الثنايا‚ غير متآلف مع تناميه‚ منجذب الى عزلته‚ أكثر من انجذابه الى الواقع الذي بنى فيه هيشه بطريقة شبه اسطورية‚ تزيد سبب حضوره بهذه الكثافة السردية داخل النص تساؤلا عن مدى أهميته‚ ومدى تمكن حضوره الذي يشبه الغموض البوليسي في الروايات البوليسية‚ من التأثير على مسار أبطال الرواية‚
أما شخصية عجب‚ فهي مركز رواية الهيش فعليا‚ وإن نافسها في مركزيتها هذه عالم كامل من التفاصيل الأخرى التي تعيشها القرية بشخوص يندسون في النص كما لو انهم في زار او مولد تجوب راياته وأناشيده فضاء ا لقرية ‚ تلك التي تعيش في جزء من ذاكرتها على هذه الاجتماعات الموسمية لأفرادها ‚وتبقى سعاد الفتاة النافرة عن أبيها وأمها: عليش الذي لا يحرم شيئا وأمها منيرة الدكش‚ وهي على شاكلة عليش أيضا‚ وتبدو سعاد هنا باحثة عن الخلاص‚ تريد ان تغير منطقة مكوثها في هذه المساحة الموبوءة : الام والأب الفاسدين‚ فتتوجه الى القراءة ويخفق قلبها بحب لا يرى النور ‚تتكشف لعجب حقائق وجوده‚ وهو أصلا منطو ومتوتر ومصاب بعقدة النبذ‚ دون ان يكشف الروائي عن تداعياتها كاملة يضمنها سلوكه‚ الذي يبدأ منذ كان طفلا الى ان تدرج في العمل في صناعة الفخار‚ وليبدو فنانا بارعا في صنعة تعلمها على يد هريدي المجهول أيضا ( سوف تتم ملاحظة تعدد الأشخاص الذين تغيب هوياتهم أو تبدو ملتبسة وغامضة داخل القرية‚ الأمر الذي يشير الى أن تنامي الشخصيات هنا انبنى على عقدة النبذ )‚ وليصبح تاليا بحكم واقع أمه‚ مشحونا بطاقة كبيرة على ممارسة الجنس مع أغلب نساء القرية‚ لأنه منبوذ ولا يستطيع ان يعلن تفاخره الذكوري بما يقوم به ‚بحكم وضعه الاجتماعي المتدني‚ وهذه العقدة أضافت الى عقده أيضا رغبة في الخروج من حالته ‚ ومن المثير ان تكون أم قتيلته سعاد‚ إحدى ابرز عشيقاته‚ وهي تقوم بهذا العمل كنوع من الانتقام من زوجها الذي كان عشيقا لأمه ‚
هكذا تنبني العلاقات داخل الهيش‚ وتتشابك بطريقة لا يمكن الإنصات إلا الفحيح الخيانة والشرور داخلها ‚








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي