الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- دحل الحمام - .. موزايك أشرف العوضي

أشرف العوضي

2012 / 5 / 23
الادب والفن



في نعومة كالحرير يتسلل القاص والروائي " أشرف العوضي" نحو أغواره الدافئة ، حيث يرتد عبر روايته البديعة ( دحل الحمام ) إلي عالم الطفولة المليء
بالدهشة ، ويرنو بنظرة حانية لذاكرته المترعة بالحنين إلي سنوات مضت ، لم تنجح سنوات الغربة في أن تنسيه تفاصيلها الحميمة ، فرغم تلك السنوات التي باعدت بينه وبين جذوره المغروسة في عمق طين قريته ، استطاع أن يمسك ببعض هذه الحمامات المختلفة الألوان والأحجام حين حطت في مكان سحيق من ذاكرته ، وتهيج به الذكرى فيهفوا قلبه إلي ( دحل الحمام ) حيث تدخل الحمامات إلي دحلها مطمئنة وتهبط فيه مستأنسة بهذا الهدوء الجميل ، فيعيد ترتيب الصور ، مثل قطع الموزايك الملونة ، فيضع القطعة بجوار الأخرى ، حتى إذا أتم قصيدته الروائية ، وتأملنا المشهد عن كثب ، اكتشفنا أننا أمام جدارية بديعة الألوان ، متعددة الظلال ، فواحة بعطر قادم من زمن الطفولة الجميل بكل بساطته وعمقه وارتعاشة الدهشة الأولي .

وأشرف العوضي يختزل في كتابه السادس ، وروايته الثانية ، تفاصيل كثيرة ، وحكايات كان من الممكن أن يملأ بها عشرات الصفحات ، ولكنه فيما يبدو نجح في مقاومة انزلاقه إلي الغواية التي كانت متاحة أمامه بالمجان ، فالقرية المصرية زاخرة بمئات القصص والحكايات ، ولكنه كثف رؤاه وحكاياته في قصص قصيرة منفصلة متصلة في نسيج روائي مقترح ، له ميراثه النصي عند عبد الحكيم قاسم ، وادوارد الخراط ، وهذا النص القصيدة يطرحه علينا العوضي بجسارة المجرب الواعي لأبعاد المغامرة الفنية ، والمدرك تماما لمخاطر الخروج عن المألوف وكسر القوالب التقليدية للإبداع ، وكما يمتلك العوضي شجاعة التجريب ، يمتلك أيضا جسارة البوح والمكاشفة ، فيرتاد مناطق مجهولة أو مسكوت عنها داخل هذا النص الذي يقترب كثيرا من السيرة الذاتية للكاتب في شبه اعترافات مؤجلة من زمن الطفولة ، أو اجترار لذكريات مضت ، كان عليه أن يسجلها ويبوح بها منذ زمن بعيد ، بعد أن تحمل عبء الاحتفاظ بها طوال كل هذه السنوات ، ورواية العوضي أو حكاياته المتلاصقة ، أشبه بالقصائد النثرية ، فهي تمتلك كل عناصر القصيدة والتجربة الشعرية ، من حيث التكثيف الشديد للمشهد ، واختزال اللغة إلي أقصى ما بها من طاقة على التعبير ، وهي زاخرة بالصور وبساطة التعبير وطرافة الحكاية ، حيث يمتلك العوضي هنا القدرة على التقاط المشاهد الكاريكاتورية بمهارة شديدة من وسط أحزان الفقراء وهمومهم الصغيرة والكبيرة ، فهو كامن في دحل الحمام مختفيا وراء طفولته البريئة ليلتقط صوره الفريدة النادرة من بين عشرات المشاهد التي تمر عليه يوميا .
و( دحل الحمام ) كما قرأت في " المعجم الوسيط " ، أن ( الدحل ) هو الحفرة أو البئر ذو الفتحة الضيقة التي تفضي إلي أتساع كلما اتجهنا ناحية القاع ، ويبدو أن المقصود بالدحل هنا هو المكان المنخفض حيث يحط الحمام باطمئنان ، ولكن فيما يبدو أن العوضي هنا كان يلتقط حماماته من ( الكن ) الذي يختبئ فيه الحمام ووليفه ، والذي يشبه الحفرة ذات الفوهة الضيقة والقاعدة المتسعة ، فهذه الحكايات المقتنصة من واقع القرية المصرية التي لم تفارق مخيلة العوضي يوما ، تؤكد لنا أن العوضي كان دائما ( لابد في الدرة ) ليفتش عن أسرار قريته ليختزن منها ما يحلو لها ، ويطلق سراح ما لا يروق له .
لم يلجأ العوضي إلي استخدام أساليب البناء الفني ليشيد نصه وفقا لعمارة الأعمال الروائية المتعارف عليها ، ولكنه أجاد تركيب قطع الموزايك المتلاصقة بمهارة الجواهرجي الحاذق ، لتبدو الرواية كلوحة فنية كبيرة على درجة عالية من التماسك ، عبر منطق سردي شديد الثراء والنعومة ، دون حاجة إلي استباق النص لاستخراج نتائج مبكرة ، فيأخذنا العوضي من حكاية إلي حكاية ، دون أن نتنبه إلي أننا متورطون معه في عمل روائي من طراز خاص ، فمن السيدة الغريبة الجميلة التي تذوق عندها أول كوب شاي بالقرنفل ، إلي شلبي الجزار الذي أعتقد أنه يخنق زوجته وقد تعرت مؤخرته ، ومن الاستحمام في طشت واحد مع بائعة العسلية ، إلي قبلة التوت التي لم ينسها حتى الآن ، ومن الحاوي ذو الأسنان الذهبية ، إلي سعدون الذي استراح في المقبرة عند الظهيرة فقتل عابر السبيل الذي اعتقد أنه عفريت ، ومن عم يونس الذي يفخر بأنه صافح عبد الناصر إلي الخرساء الجميلة التي سالت عفتها على فخذيها فأدرك أنها كم هي ضعيفة وخرساء . إلي أن يأخذنا العوضي في نهاية روايته إلي مشهد مؤثر ذو دلالة موجعة عندما أقنع عمته بضرورة قطع النخلة العاقر ، وعندما قطعها عم منصور قالت الجدة ودموعها تلمع في عينيها :"عمتك ستموت لو قطعتم النخلة" وبهذا المشهد الجارح بدا العوضي وكأنه يودع قريته للأبد في مشهد مشحون بالشجن والحزن النبيل . أعتقد أن العوضي بعد هذه الرواية التي تخلص عبرها من عبء أشجان الغربة وذكريات الطفولة سينطلق مشروعه الروائي نحو المستحيل الذي يسعى لأن يلامسه بكلتا يديه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس