الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغراف.. مدينة الظل

رحمن خضير عباس

2012 / 5 / 26
المجتمع المدني



نشأت الغراف في بداية تكوّنها كسوق صغير , يلبي حاجات التبادل السلعي ما بين السوق وما يحيط به من فضاء زراعي وبدوي. اي انها كانت مركزا لأستقطاب القرى المحيطة بها , والتي كانت تتزود منها بالحاجات الحياتية المتنوعة , ولاسيما البقّالية منها ( السكر والشاي والتبغ ..الخ ) كما ان الفلاحين من سكنة القرى يقومون في نفس الوقت بتسويق مواشيهم ومنتجاتها . فتصبح الغراف ( كعلوة ) للبيع والشراء . لذالك فقد كان اسمها يقترن بالسوق , فيطلق عليها سويج دجة . والسويج هو تصغير للسوق , اما الدجة فهي الدكان او العلوة . وبقيت محتفظةبتسميتها هذه الى ان تغير الأسم الى الغراف في خمسينات القرن الماضي . واعتقد ان التسمية الأخيرة قد رُحّلت اليها بقرار اداري غير مدروس , لآنّ العلاقة مابين الغراف المدينة والغراف النهر بعيدة , وانها تقع على فرع من الغراف . وكان الأحرى ان تبقى على اسمها او تعود الى تسمية المنطقة , اي ( الحواسية ) . وقرار تغيير الأسماء انسحب على ثلاث نواحي في الناصرية وهي سويج غازية وسويج شجر اضافة الى سويج دجة .
من الصعب ان نطلق على المدن الصغيرة في العراق تسية مدينة , باعتبار ان المدينة تُطلق على التجمعات السكانية المنتظمة . والتي تعد من الحواضر نتيجة لمتانة التنظيمات العمرانية واتساعها ومن ثم امتلاكها على قدر كبير من المؤسسات والمنافع المختلفة , واحتضانها لفئات سكانية متنوعة . بحيث انها تشكل قاعدة تجارية وسياحية , وسوقا للعمل والبناء . وضمن هذا التوصيف لانستطيع ان نطلق على الغراف اسم مدينة . لأنها تجمع سكاني صغير , لاهوبالقرية ولا هو بالمدينة . بل هي اقرب ان تكون الى تسمية البلدة . رغم اتساعها الآن والتزايد السكاني المفرط , بفعل هجرة القرى المتاخمة اليها .
ثمة عناصر شكلت جسد الغراف , ومنحته خصائصه وبنت الكيان الحقيقي لهذه المدينة . وهي : الجامع الوحيد والذي يقع على النهر , والمدرسة الأبتدائية الوحيدة والتي تقع قبيل اطراف المدينة . كانت تسمى الحواسية ثم الرافدين واخيرا الغراف . وكانت مدرسة مختلطة فيها البنين والبنات. وقد شكلت رئة المدينة فمن خلالها عرفنا الفن والرياضة بانواعها , وفيها عقدت الأحتفالات الشعرية . وفيها ايضا رأينا اول مسرحية ( نهاية الأقطاع ) كانت مسرحية رائعة استطاعت ان تقدم لنا مضمونا رائعا. مع توفرها على شروط فنية مذهلة قياسا بتلك المرحلة , اي بعد ثورة 1958 .كان مدير المدرسة السيد عبد العالي شخصا مرهوب الجانب , قوي الشخصية كان عنيفا مع طلابه , لأنه يعتقد ان العنف هو الوسيلة الناجحة للتقويم والأصلاح وفق معايير ذالك الزمن . لكنه كان في الحقيقةوديعا يحب جميع طلابه , وفي المدرسة اياها كنا نخشى محمد الفراش الذي كان يفوق الجميع صرامة . وكان بمثابة المدير الثاني للمدرسة , بعد تخرجنا ادركنا أنه كان يحرص علينا اكثر من آبائنا . اما العنصر الثالث فهو ( الصيراي ) والذي يمثل القوة النوعيةللسلطة , كان يقع في قلب المدينة امامه شجرة ضخمة . وكان يضم مكتب مدير الناحية ومكتب مأمور المركز , وغرفة للتوقيف . ولعل وجود الصيراي مقابلا للنهر والجسر مغزى في كونه يمسك المدينة من عنقها .اما المستوصف الصغير والذي يقع خلف المدرسة فكان فضاء المدينة الصحي وعنصرها الرابع . كان يديره الموظف الصحي الذي اصبح صديقا لكل الأهالي الذين يستشيرونه في امراضهم ويثقون بتشخيصاته . اما العنصر الخامس فهو النهر والذي يشكل شريان المدينة وسر وجودها . النهر لامسمى له , ولكننا نطلق عليه تسمية الشط . كان يحمل الخير والزرع الى المدينة , ففي ضفافه مقابل البستان . يزرع الحساوية انواع البطيخ والركي ومختلف انواع الخضروات التي كانت تغرق السوق الصغير وتفيض عن حاجته , كما كان مصدرا للأسماك التي يصطادها البعض بالشبكة او الفالة . احيانا ينقطع النهر لأسباب نجهلها فيلجأ الناس الى حفر الأبار الموقتة الى ان يعود النهر من جديد , وحينما يعود يستقبله الناس بالأهازيج وهم يرون توهجه وانغماره بالزبد النهري المعجون بالطمى . هذا النهر المحبوب يتحول احيانا الى غول يخطف ارواح الأطفال حينما يغرقون به صيفا . كان الناس يخشون (النقارة) اسفل الجسر, وطالما ينسجون الحكايات عن قدرتها على اغراق الأجساد البشرية .
بعد ثورة تموز قدم شخص غريب الى الغراف , كان يبيع العنب في بداية السوق , كان شباب المدينة يسمونه طشاش . استطاع هذا الشخص ان يؤثر على عدد كبير من ابناء الغراف , لأدخالهم بين صفوف حزب البعث . وكان يمتلك لباقة وقدرة على الأقناع , كما كان يمتلك المال اللازم . معتمدا على استعداد طبيعي لدى الناس لقبول افكار واحلام عن التحرر والأشتراكية والوحدة , لقد نجح طشاش في مسعاه فانخرط الكثير انذاك في حزب البعث واصبحوا معادين للنهج الأصلاحي لعبد الكريم قاسم . وقد اصبحت مدينة الغراف ذات مسحة بعثية , مع ان الكثير من ابنائها كانوا ينتهجون خطوطا فكرية مستقلة , ومنهم من تأثر بفكر المفكر الأسلامي الكبيرمحمد باقر الصدر , ومنهم من تأثر بالمد اليساري الذي ساد في المدينتين المجاورتين للغراف وهما الشطرة والناصرية .والغريب ان بعثيي الغراف لم يصعدوا في المناصب الحزبية الى درجات قيادية , اسوة بغيرهم , بل بقوا على الهامش رغم ان حزب البعث احتكر السلطة لأربعين عاما . والغريب ايضا ان الناس في الغراف لم يثأروا او ينكلوا بابنائهم من البعثيين حينما سقط النظام . وكأنهم مالوا الى فكرة التصالح الأجتماعي , وعفا الله عما سلف , وهو مفهوم رائع يجعل الناس يرتفعون عن الأساءة بتقديم نقيضها القائم على السمو واشاعة روح التسامح. لقد قدمت هذه المدينة النبيلة على مر تأريخها الكثير من الشهداء سواء الذين اتهموا من قبل نظام صدام بانهم تآمروا لقلب النظام , او الذين اعدموا على انهم من حزب الدعوة . او من الشيوعيين الذين قضوا حياتهم في سجون النظام ولاقوا اصناف التعذيب , ثم قام النظام بتصفيتهم. انها رحلة شاقة مع الألم لمدينة اصرت ان تبقى واقفة بشموخ .
لاادري هل هو من حسن حظ الغراف او من سوء حظها ان تجاورمدينة الناصرية . حيث ان الناصرية كانت زاخرة بالوان من الثقافة والفن والمتعة واللهو . ففيها الكثير من المكتبات الخاصة والعامة وفيها العديد من دور السينما والمسرح , اضافة الى النوادي الليلية . وقد يكون هذا السبب - اي القرب- قد جعل الغراف خالية من كل وسائل المتعة واللهو والثقافة : ليس هناك سينما او مسرح او مكتبة . واذا اراد احد من اهل المدينة التزود بذالك عليه السفر الى الناصرية , وكأن الغراف قد جعلت من نفسها محلة تابعة الى المركز .لقد غادرت هذه المدينة العذبة منذ اكثر من اربعة عقود . ومازلت احمل في مخزون الذاكرة عطرا منها , لذالك فاني اكتب عنها حينما كانت شابة دافئة مستحبة . احتضنت طفولتنا وحماقاتنا وحبنا الأول وسجارتنا الأولى , ومنها بدا مشوارنا الحياتي . حينما زرتها العام الماضي , فوجئت بامتداداتها التي تجاوزت حدودها الجغرافية . مزيج غريب من البناء الذي يحمل رائحة الكونكريت وروح الأسمنت , امتدادات عشوائية تفتقر الى اللمسات الفنية . اين الحدائق ؟ اين ملاعب الأطفال ؟ اين المكتبات ؟ اين التنسيق في البناء ؟ الذي يجب ان يجعل من المدن ليست اكداسا من البيوت المتكئة على بعضها , بل يجب ان نبرز الجانب الروحي . هل فكر اهل المدينة ممثلين بمجلسهم البلدي ان يبنوا قصرا للثقافة , يحتوي على مسرح .. ورشات للفن التشكيلي ..قاعات للموسيقى ..او للمحاضرات العلمية والأدبية والفنية ؟ الم يحن الوقت بالتفكير الجدي لأيجاد مركب رياضي يحتضن كل لنواع الرياضات من كرة القدم الى السباحة ؟ الم يطرا على بال الجميع ان يشرعوا باعادة تصميم قلب المدينة بشكل فني وهندسي , يجعلها فتنة للزائر ومفخرة لساكنيها ؟ ان هذه الأمنيات اتت من خلال عيوننا المهاجرة , والتي تأمل في بناء مدننا بشكل يساعد على انشاء اجيال جديدة قادرة على تحويل الأحلام حقيقة . لاسيما وان بلدنا العراق يزخر بثروات اسطورية يمكن ان تغير وجوه مدننا البائسة ولايجعل المدن الصغيرة ظلا لغيرها .
اوتاوة /كندا آيار2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا عنوان
علاء جاري الدهان ( 2012 / 6 / 3 - 07:11 )
الحقيقه ماتذكره من تاريخ جميل وثابت وما مضى منه قد مضىوانتهى طشاش وصورته البعثيه وبقيت الصوره الحقيقيه للوجود الاو هي الاصاله والثبات على المباديء التي لاتتغيير بتغير الانظمه والحكومات وانما هي ثابته كثبات الدين في نفوس الناس .الان وقد بداءت الحياة تاخذ منحى جديد اخر منحى التطور والحداثه والمعلوماتيه والتكنلوجيا اليس من الاجدر ان نواكب هذه الحداثه من حيث انتهت لامن حيث بداءت ونلجاء الى غرس وزرع كل ماهو جميل وممتع وان نطور اصول الثقافه ونقيس ابعادها حتى يمكن لنا ان نجعل من عذوبة اللحن والموسيقى وان تكون متنفسا يغنينا من الذهاب الى مدينة الناصريه لكي نرى مسرحيه او فيلم او حفله معينه .الحقيقه كل هذا غير موجود الان حتى في الناصريه اليساريه حيث تحولت الناصريه الى تنظيم يشبه تنظيم القاعده ولكن على الطريقه الاخرى لا على نظام طلابان فكل شيء محرم لايمكن ان تفعله لاموسيقى ولا ورده الجزائريه ولا داخل حسن ولاصوره مونيليزا ولا كمان المرحوم ( علي غالب جلال ) الذي كان يحلم ان يعزف به على خشبة اي مسرح من مسارح المدينه رحم الله انشطة وثقافات تلك السنين السبعينات والثمانينات وراحت الثقافه واختفى الفن

اخر الافلام

.. معاناة النازحين في رفح تستمر وسط معاناة إنسانية كبيرة


.. أصوات من غزة | ارتفاع درجات الحرارة يضاعف معاناة النازحين في




.. طلاب وناشطون يتظاهرون قرب جامعة جورج واشنطن دعما لغزة


.. تفاقم مأساة النازحين في غزة بسبب العمليات العسكرية في رفح




.. الأقليات والسياسية في أوروبا.. ونصيب الشباب العرب فيها