الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جاذبية المشنقة

ابراهيم هيبة

2012 / 5 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من بين كل الأسئلة الفلسفية قاطبة، لا وجود إلا لسؤال جدي واحد: الانتحار. عندما لا يعود المرء يرى في حياته شيئا آخر أكثر من كونها كهفا مظلما، ولا يأتي عليه يوم جديد إلا ويُحمِّله بأعباء وعذابات لا تطاق، عندئذ لا يصبح هذا المرء يرى في أي حبل أو سكين، يقع عليها بصره، إلا وسيلة للخلاص. لحد الآن لم تتوصل أية ميتافيزيقا أو لاهوت إلى حجة مفندة للميول الانتحارية التي تسكن كل واحد منا. الشر يملأ زوايا الوجود وكل إنسان يستبطن في قلبه قدرا من الغم والمرارة. أمّا كل محاولة للقضاء على هذا الشر فمعناها اجتثاث كل شيء من جذوره.
من أين لك أن تقنع شخصا بالاستمرار في الوجود بجسد ينهشه المرض؟ من يستطيع السير قدما في الحياة بذاكرة مثخنة بالتجارب الأليمة والجراح الغائرة؟ أي عزاء يمكن أن تقدمه كل الأناجيل والآلهة لشاب ظلمته الأقدار وصُدت في وجهه كل الأبواب؟ ماذا أقول، لا احد يستطيع أن يضع عنه أحماله ليستبدلها بأحمال أخيه.
كل حياة منظور إليها من الداخل تبدو مطلقة وغير قابلة للتعويض، وهكذا، بالفعل، ينظر كل واحد منا إلى حياته؛ ولكن عندما يُنظر إلى هذه الحياة من الخارج تتبدّى كسخافة لا تطاق. أحيانا تجمعك الصدفة بشخص مقعد أو مريض ميئوس منه، فيحكي لك كل ما تنطوي عليه حياته من الأهوال والكوابيس؛ وعندما تتركه، أول سؤال يتبادر إلى ذهنك هو: لماذا لا يلعن اليوم الذي وُلد فيه وينتحر؟
أنا أيضا كانت تمر بي بعض الليالي التي كانت تستهويني فيها فكرة الانتحار إلى الحد الذي يصبح فيه مجرد بقائي حيا إلى صباح اليوم الموالي معجزة ما بعدها معجزة. و الحق أن كل من لم تستهويه المشنقة، ولو لمرة واحدة في حياته، لا يعرف شيئا عن ذلك الشعور بالعظمة الذي يحس به الإنسان عندما يتعالى على الحياة ويتحرر من غريزة حفظ النوع؛ إنه ليس بأكثر من دولاب أصم في النسق الميكانيكي للحياة؛ بل إنه في انجرافه الساذج مع الحياة يبرهن على انه لم يتجاوز في كينونته السقف الوجودي للكلاب والحمير.
في الواقع، ينطوي فعل الانتحار على مفارقات لا حل لها. ففي الوقت الذي يكون فيه هذا الفعل، بالنسبة للبعض، خلاصا من الحياة، يكون هذا الفعل ذاته، بالنسبة للبعض الآخر، تضخيما للحجم الحقيقي للحياة وأخذها بجدية لا لزوم لها. والحق أن تفاهة الحياة و ضحالتها هي ما منعني من أن أقتل نفسي. فعل القتل يتطلب موضوع قتل، ولكن ماذا سأقتل أنا ؟ إنني لا أرى في نفسي إلا بنية من الغبار، لِمَ أموت من أجل عالم لم يعد يهمني أمره في شيء؟ ! في الحقيقة، من يفكر في الانتحار هو شخص لازال تحت تأثير هوى الحياة.
) لقد عدَلت عن فكرة الانتحار لأن شرور الحياة لم تعد تفاجئني، بل إنني لا أتصور الحياة إلا وهي سوداء. وأغلب الذين انتحروا ما فعلوا ذلك إلا لسذاجتهم وأحكامهم المسبقة؛ لقد توهموا بأن الحياة قصة سعيدة، ولكن "الحياة السعيدة" مقولة متهافتة، والبشر مُنحوا الحياة ليفهموها فيتجاوزوها وليس ليعيشوها فيغرقوا فيها.)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الألهة لا تقوم بما يمكن للبشر أن يقوموا به
مجدي مهني أمين ( 2012 / 5 / 26 - 20:25 )
العزيز ابراهيم هيبة
المقارنة بين الحياة والذات وموضوع الذات معطيات بالغة الأهمية، وضعها جميعها في إطار العديمة يفقدها معناها ويعطي العدم كل المعنى، يعطي لغير الموجود كل الوحود ويحرم الموجود من وجوده، يقوم بالمنح والمنع بتدخل متعسف مبني على لحظة قوة أو ضعف، أنا أقرر فيها ذلك وأفعل ذلك، وقد يكون القرار مغايرا للواقع، والفعل مغايرا للعائد والفائدة، بل ان العائد لو كان هناك عائد، يصبح العائد عدم,
في الواقع تنشأ الحياة من نقطة متناهية الصغر، من خلية أن جاز لنا أن نقول هذا، خلية لا ترى إلا تحت مجهر تنمو حتى تصير كائنا مرئيا من بشر أو -كلاب وحمير- ، المفارقة أن هناك عمل مرئي يتمثل في زرع الاشياء، والزرع مجهود شاق لو سألنا الفلاحين لأخبرونا، ثم أن هناك فعلا غير مرئي يتولى نمو ما نزرع كي يصبح قمحا، أو نخيلا، ثم هناك فعلا أحر مرئي وهو رعاية هذا القمح والنخيل وهو يكبر، وكما قال الإغريق: الألهة لا تقوم بما يمكن للبشر أن يقوموا به


2 - دمت للابداع أيها العزيز
سليمان ياسين ( 2012 / 5 / 27 - 09:10 )
نص لا يخلو من جمالية واناقة لقد قرات هذا النص المؤثر بمتعة حقيقية وادعوك بود ان تستمر في هذا الابداع الحقيقي وتريحنا من هلوسات الفيس بوك وتويتر ونعود للفكر الانساني الحقيقي بعيدا عن الثورة المعلوماتية التي تريد ان تسرق منا متعة التلذذ بهذا الفكر الانساني الخلاب..


3 - رد على مجدي مهني امين
سليمان ياسين ( 2012 / 5 / 27 - 09:18 )
الاخ مجدي المحترم : كل بذرة نبات او فاكهة او خضروات او شجرة عندما تبتاعها من حانوت البذور تأتي كباقة كاملة جينيا وتكوينيا بصورة مذهلة وجاهزة للانفجار بشرط ان تدسها تحت الرمل وتسقيها الماء والرمل والشمس فينفجر هذا المارد كشجرة نخيل او سدرة او رمان او موز وانناس . تصور بذرة صغيرة في جيب الجنز او التنورة تحتوي على كل هذا الحجم والجمال والعظمة . من اين حصلت البذرة على كل هذا المحتوى المتفرد بالنوعية والخصوصسة والانفراذ ؟ وشكرا


4 - لم نلق بعد سلاحنا
مجدي مهني أمين ( 2012 / 5 / 27 - 12:13 )
العزيز إبراهيم الهيبة، أعلم أن البذور مطروحة على سبيل المثال، ولكن ولو كانت على سبيل الحصر والمثال في آن واحد، فقد واجهت هذا الأمر مرات عديدة فكان لدي بذور وقد بدأت في النمو ولعلي نسيت ان أكمل ريها فتجففت وبقت لفترات طويلة جافة وعندما فوجئت بها ظننتها ماتت، والمدهش أنها ببعض الماء استأنفت النمو، ثم ما يواجهه علم الطب وغيره من العلوم مع الأطفال المولودن بأمراض أو تشوهات، والعديد من القصص التي حققت نجاحا باهرا وكان الأمل فيها معدما كقصة الطفلة هيلين كيلر التي كانت لاترى ولا تتكلم ولديها حالات هياج حتى استطاعت معلمة صبورة ان تتحدى العجز وتخلق من هذه الطفلة -هيلين كيلر- هناك دائما مساحات للعمل الشاق حتى يعطي الميئوس منه ما لا نتوقع، قد تكون كافة الظروف غير مشجعة وهذا في حد ذاته دافعا للتحدي والصراع ضد الظروف في دون كيشوتية مبدعة تقر أننا لم نلق بعد سلاحنا.


5 - شكرا
ماجدي ماجد ( 2012 / 5 / 27 - 15:49 )
انا الي راح يخليني افقد علي المجتمع ... اقسم بكتاب الله انني احس واتلمس بان مجتعنا تماما مثل مجتمع الحيوانات بالغابة لكن مع فارق في الخداع ليس الا ... ولدي كل الاسباب التي اراها منطقية وعقلانية لقولي هذا ...

اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع