الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعددية الدينية عند الفيلسوف طه عبد الرحمن

أشرف الحزمري

2012 / 5 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عرف الفضاء الثقافي ــ الذي أنتجته فلسفة الحداثة ــ في مجال الفكر الديني، تجاذبات وتطارحات في موضوع حقّانية الدين، فكانت مسألة من يملك الحقيقة الدينية من أهم القضايا التي ناقشها الفلاسفة ورجال الدين. وتُعتبَر فكرة تكافؤ الأديان في أبعادها الميتافيزيقة والأخلاقية من أهم النتائج التي خرج بها الفكر الديني في منظوره الفلسفي الذي أعطى الأولوية للإنسان في بعده الكونــي والعالمي. بينما كان لكل دين من الاديان فلاسفتة الذين اعترضوا على فكرة "تكافؤ الأديان"، فقدموا حججا وبراهين تثبت حقانية الدين وصحته الإلهية في مقابل نقد الأديان الأخرى باعتبارهـا مزيفة ومحرفة أو تابعة للدين الذي يدينون به. فكان لليهودية فلاسفتها الذين برهنوا على حقانيتها مثل الفيلسوف فرانز روزنزفايج في كتابه "نجم الخلاص"، والفيلسوف مارتن بوبر في كتابه "طريق الإنسان وفقا لتعاليم الحاسيد" وجوشوا هيشيل في كتابيه "الإنسان باحثا عن الله" و"والله باحثا عن الإنسان". كما ظهر في المسيحية فلاسفة كبار حاولوا دفع التحديات الدهرانية للفلسفة الإلحادية، والبرهنة على عالمية خطاب المسيح، وكان من بين هؤلاء، الفيلسوف السويسري "كارل بارت" الذي كرّس حياته كلها لمشروعه الكبير "اللاهــوت الكنسي". و الفيلسوف الألماني بول تيليش في كتابه "المسيحية في مواجهة أديان العــالم".

في ديننا الإسلامي برزت فكرة حقانية الدين بقوة في موروثنــا الفلسفي الأخلاقي، فقد ألهمت الآية الكريمة {إن الدين عند الله الإسلام} مجموعة من الفلاسفة أفهاما صاغوها صياغة حجاجبة برهانية في مواجهة الأديان الأخرى، فكان أبو الحسن العامري من أهم من ألف في ذلك، حيث وضع كتابا وسمه ب"الإعـــلام بمناقب الإسلام" يعدد فيه مناقب الإسلام في مقابل الأديان الأخرى. وأبطل ابن حزم فكرة "التكافؤ" في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" وانتقد فيه الدين اليهودي والمسيحي وبعض الافكار الدينية الشرقية، وفي عـصرنا الحديث ألف علي عزت بيجوفيتش (الرئيس السابق للبوسنة والهرسك) كتابا سماه (الإسلام بين الشرق والغرب)، بيّن فيه المرتبة الحقانية للإسلام بين الفلسفات والأديــان.

ومن بين الذين ساهموا بطروحاتهم الفلسفية في بيان حقانية الدين الإسلامي، الفليسوف المغربي "طه عبد الرحمن"، حيث أشار في أغلب كتبه لهذا الموضوع، وخصّص لبعضها مباحث وفصولا تحت مسمى "إبطال تكافؤ الأديان" و"خاتمية الإسلام"، فمــا البراهين التي احتج بها الفيلسوف في إبطال هــذا التكافؤ ؟ وما أدلته على خاتمية الإسلام ؟ و كيف تعامل مع فكرة الوحدة والمشترك الروحي بين الاديــان؟

في الفصل الثاني من كتابه "روح الدين" (ص/64) قدم فيلسوفنا مبحثا تحت عنوان "إبطال تكــافؤ الأديان" يحدد فيه المصدر الحديث للقول بالتكافؤ، حيث يقول (..العجب كل العجب أن ترى جمهرة المتأخرين من الدارسين، وقد ظنوا بأنفسهم التفرد ببرهان العقل الخالص وسلطان العلم الكامل، يتجاهلون كل ذلك، بل ينكرونه ويستنكرونه، فيقررون في غير تردد، أن الأديان إنما هي انساق أخلاقية تقليدية وطقوس غيبية تتكأفـأ أو تتعادل فيما بينهـا، بحيث لا يجوز ترجيح بعضهـا على بعض، لأن ما يتم به الترجيح مفقود فيهــا..) ثم بين فــساد هذا الرأي على شهرته، مبينــا فساده من أربعة أوجه :
الوجه الأول : حدّد فيه أن أصحاب هذا القول بنوا تصورهم للعلم والعقل ذي الصبغة العلمانية الصريحة، وبيّن طه قائلا أن هذا (مصادرة على المطلوب)، موضحـا أن (هذا الرأي يسلم بصحة العلمانية، في حين ينبغي أن يستدل عليها) وبيّن أن ما تصوروه على أنه حقيقة الدين، ما هو إلا ادعاءات و تقريرات تحكمية لا تسلم لهم، وأن أصحاب هذا القول حتى لو قدموا أدلة، فلا يمكن لها أن تكون إلا أدلة إلا ظنية وليست يقينية، ثم أبدى فقيه الفلسفة ملاحظتين توضّحان أن الدين يزيد في قوة العقل ويوسّع مدركاته، ويوسع نطاق العلم باعتبار أن العمل الديني تنفتح بواسطته أبواب في العلم وتعنّ آفاق لم تكن تخطر على البال قبل الدخول فيه.
الوجه الثاني : بيّن فيه صاحب ( العمل الديني وتجديد العقل ) أفضلية أديان التوحيد على ما سماه ب (أديان الشرك)، حيث قسّم الأديان على وجه الإجمال إلى قسمين كبيرين، أديان التوحيد التي تدعو إلى التعبد لإله واحد لا ثاني له، وأديان الشّرك التي تجيز التعبد لأكثر من إله واحد. ثم قال (بدهي أن عبادة الاله الواحد أعقل وأقوم من عبادة كثير من الآلهة، فلا يكمل تصور الألوهية إلا اذا اشتمل على معنى الوحدانية )، بينما القائل بتعدد الآلهة، مثله كمثل من يقول للإله الحق، (أشهد أنك لست الهــا).
الوجه الثالث : بيّن فيه طه عبد الرحمن أن (الاديان لا تتفاضل أنواعا فحسب، بل أيضا تتفاضل أطوارا). و أن الدين الحق منظور إليه من جهة أطواره، وأن الشرائع الدينية تتفاضل كمثل النُّظم السياسية، حيث أن الدين يقوم بتدبير المجتمع، والسياسة تقوم بتدبير الدولة، ثم بيّن أن التفاضل خاصية ملازمة للأديان. قائلاً ( لا عجب أن يدّعي كل فاعل ديني أن دينه يتفوق على غيره، ويتعبّد به على أساس هذا الاعتقاد، مستحضرا، على قدر الطاقة، الأدلة التي تثبت هذا التفوق.) حيث نبّه إلى وجوب التفريق بين نوعين من الأفضلية الدينية. الأولى (الأفضلية الموضوعية) والثانية (الأفضلية الذاتية).
الوجه الرابع : بيّن فيه أن وجود التفاضل بين الاديان لا يستلزم مطلقا وجود التفاوت في التعامل بين الفاعلين الدينيين، فسوء التعامل بين الفاعلين الدينيين الذي بلغ إلى حد التباغض والتعادي والتقاتل، مرده الغفلة عن هذه الحقيقة الجليلة، وليس هذا بين ديانات مختلفة فحسب، بل أيضا بين تدينات مختلفة داخل الدين الواحد، حيث وضّح أن الفتنة الدينية التي اتخذِت في أقطار أوروبا في أبشع صورها، كانت من أسباب استنهاض القول بعدم التمييز بين الاديان والتديّنات.
وبعد أن بيّن أدلته في بطلان القول بتكافؤ الأديان، قدّم مجموعة من الأدلة والمبادئ والأخلاقيات التي تجمع بين التفاضل الديني والتساوي في المعاملة، حدّدهــا في ثلاثة أدلة هي : "عدم كفاية مبدأ التسامح" و"الحاجة إلى مبدأ المعاملة بالمثل" و "أصالة حرية الاعتـقاد".

أما في جانب وحدة الاديان، فقد انتقد صاحب "روح الحداثة" في كتابه هذا (ص/231)، أشكال العودة إلى الديانات والروحانيات، حيث ردّ هذه العودة إلى ابتداع شكلين من الروحانية، سمى الأولى ب (الروحانية الملفّقة)، وهي عبارة عن اقتباس عناصر دينية متنوعة من أديان مختلفة، وإضافة عناصر مخترعة. وأوضح أن هذا سقوط في لعب صريح، "الروحانية براء منه."
والثانية سماها ب (الروحانية المزيفة)، وهي عبارة عن فصل الروحانية عن الدين، وانشاء روحانية علمانية، وأوضح في كتابه هذا أن هذا الشكل من التوجه ينطوي على تضليل كبير، فضلا عن جهل بالغ بمدلول الروحانية، وفي كتابه "روح الدين"(ص/194 ـ 206 ) انتــقد أفكار كل من الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل صاحب كتاب (روح الإلـحاد: مقدمة في روحانية بدون إله)، ولوك فيري في كتابيه (الديني بعد الدين) و(الإنسان الإله أو معنى الحياة).

بعد هذه الجولة السريعة والقصيرة في محاولة تتبع آراء طه عبد الرحمن في التعددية الدينية، يتبيّن لنا أنه يرفض فكرة تكافؤ الأديان مستبدلا بها القول بالتفاضل، حيث أن أفضلية وحقانية الدين الإسلامي لا توجب تفاوتـا في المعاملة، بل من يقرأ لفيلسوفنـا يجد عقـلاً كرّس حيـاته للتنظير لأخلاقـيات المعاملة، وهو الذي ما فتئ يدعو في كتاباته ومحاضراته للتحقق بالتخلق، لكن النقد الأخلاقي والإيماني للواقع الكوني لا يجب أن ينسينا أن الإسلام هو الدين الخاتم، فقد استهل كتابه "الحق الإسلامي في الإختلاف الفكري"(ص/15) على هامش سؤال ــ هل للأمة الإسلامية جوابها الخاص عن أسئلة زمـانها؟ ــ بأمـر القارئ أن يتدبر آيتين كريميتين :
{ إن الدين عند الله الإسلام} [ آل عمران : 19]
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين}. [ آل عمران : 85]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تكافؤ الأديان إبطال لها جميعا
أيوب بن حكيم ( 2012 / 6 / 2 - 16:18 )
مقالة مميزة أخي أشرف كما عودتنامنك ، و أذكر أن -طه عبد الرحمان- سأل سؤالا خبيثا في هذا الصدد ، حيث قال إن العالم يؤمن بتراكمية المعارف في حين لا يؤمن بتراكمية الرسالات السماوية،لأن ذلك يعني أن الإسلام هو الناسخ الأخير،أما القول بتكافئ الأديان فيعني إبطالـَها جميعا كما ذهب إلى ذلك في -سؤال العمل- تحياتي

اخر الافلام

.. إسرائيل تؤكد إصرارها على توسيع العملية البرية في رفح


.. شرطة نيويورك تعتدي على مناصرين لغزة خلال مظاهرة




.. مشاهد للدمار إثر قصف إسرائيلي على منزل عائلة خفاجة غرب رفح ب


.. أحمد الحيلة: قرار الجنائية الدولية بحق إسرائيل سيحرج الدول ا




.. في ظل تحذيرات من تداعيات عملية عسكرية.. مجلس الأمن يعقد جلسة