الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفهوم الفلسفى للدين

داود روفائيل خشبة

2012 / 5 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المفهوم الفلسفى للدين


الدين ظاهرة إنسانية، نجد صورا منه عند أكثر الجماعات البشرية بدائية وأكثرها عزلة عن التيار العام للتحضر الإنسانى، كما نجد مؤشرات ودلائل على مراسم وطقوس وممارسات ترتبط بالمفهوم العام للدين فى أقدم ما عثرنا عليه من آثار لإنسان ما قبل التاريخ. وليس من المعقول أن نجد عندنا مفهوما بسيطا متجانسا لظاهرة واكبت وجود البشر على مدى كل هذه الأحقاب وعلى اتساع الأرض واختلاف الأحوال والملابسات. فلنبدأ بإزاحة بعض دواعى الالتباس فى تناول موضوع الدين.
فى المكان الأول، ليس هناك أى مبرر ولا هو من العقلانية فى شىء أن نقصر استخدام لفظ الدين على ما يسمى بالديانات السماوية أو الإبراهيمية أو التوحيدية. فسواء اتخذنا العبادة أو العقيدة أو الوجدان الذاتى معيارا للدين، فإننا لا نستطيع استبعاد الهندوكية أو البوذية أو شعائر وممارسات ومعتقدات الجماعات البدائية من وصف الدين ولن نجد مبررا موضوعيا لتمييز اليهودية والمسيحية والإسلام.
ثانيا، علينا أن نتخلص من خطأ تصوّر أن الدين يؤسسه نبى أو رسول فرد. الدين كله ينشأ نشأة جماعية، ينشأ فى الجماعة ومن الجماعة، ومن البديهى أن يكون للأفراد دور، فكل عمل إنسانى يستند فى النهاية للفرد الإنسانى، لكن كل الديانات القائمة على الأرض لها أصول ضاربة بجذورها فى ماض سحيق ليس فى مقدورنا أن نتتبعه إلى أول نشأته. وكل الأسماء الشهيرة التى نعرفها جميعا وننسب إلى أصحابها تأسيس هذا الدين أو ذاك هى أسماء لمصلحين عملوا فى إطار تراث راسخ من العبادات والمعتقدات. قليل من هؤلاء المصلحين نستطيع أن نكون على شىء من اليقين فى شأنه لكن أكثرهم، وإن يكن له أصل تاريخى، نجده مسربلا بغمام كثيف مما حيك حوله من أقاويل وأساطير عبر الأجيال. أترك جانبا الآن زرادشت الفارسى وبوذا الهندى، وقد تكون لنا عودة لهذين المصلحين الكبيرين. لننتقل إلى عالمنا القريب. موسى قد يكون له أصل تاريخى، لكن كل ما نعرفه عنه يأتينا من مصدر وحيد يجدر بنا أن نأخذه فى حذر شديد، أما كل ما جاء فى التراث العبرى عن إبراهيم ونسله فأغلب الظن أنه يرجع لتراث شفاهى تراكم على مدى أجيال عديدة متعاقبة واستوعب أو استعار الكثير من مصادر أشورية وبابلية ومصرية. أما يسوع الناصرى (المسيح) فقد نستطيع التجاوز عما أثير من شكوك حول تاريخيته، فليس مما يجافى العقل أن يكون قد عاش وعلم فى فلسطين الخاضعة لسيطرة الإمبراطورية الرومانية، ولكن ما الذى نعرفه حقا عن تعاليمه؟ ما نعرفه يجيئنا من أناجيل وضِعت فى أنحاء مختلفة من الإمبراطورية باللغة اليونانية (التى كانت لغة الثقافة فى بدايات الإمبراطورية قبل أن تكتسب اللغة اللاتينية مكانة)، والمعتقدات التى تقوم عليها الكنائس المسيحية الآن والتى يعتبرها المسيحى العادى جوهر مسيحيته بثها فى الواقع بولس الطرسوسى، مستندا لتراثه العبرى، ويوحنا صاحب الإنجيل الرابع متبنيا بعض الفكر الفلسفى اليونانى وبعض الفكر الغنوسطى، وأضيف فيما بعد لهذين المصدرين الكثير، لكن ليس هذا موضوعنا الآن. فإذا ما جئنا إلى نبى الإسلام، فلعلنا نجده أوفر هؤلاء حظا من اليقين التاريخى، لكن ما الذى جاء به رسول الإسلام؟ إنه استوعب واقتنع بجوهر التراث الموسوى، لكن كان من الطبيعى أن يضم بعضا من شعائر قومه وبعضا من تراثه العربى القرشى. فكل ‘مؤسسى’ الأديان ممن نستطيع تسميتهم هم مصلحون فى إطار تراث عتيق، ودائما ما ينتهى الإصلاح إلى جمود جديد.
طالت هذه المقدمة أكثر مما قدرت لها، فأنا إنما أردت أن أتحدث عن المفهوم الفلسفى للدين. والواقع أننى كنت أود لو استطعنا أن نستغنى عن كلمة الدين فى المناقشات الفلسفية لكثرة ما أثقِلت به هذه الكلمة من مفاهيم مختلطة. كذلك قلت فى بعض كتاباتى أنى كنت أود لو نستغنى فى المناقشات الفلسفية عن كلمة الله. لكن يبدو أن لا هذا ولا ذاك ممكن عمليا، فبعض من أحسن الفلاسفة وأعظم الشعراء والأدباء قد استخدموا هذين اللفظين فى تراث قيّم أورثونا إياه ولا نستطيع التضحية به. لكن الدين الذى يتحدث عنه الأدباء والشعراء والفلاسفة، والله الذى يتحدثون عنه، لا صلة لهما بالمعتقدات اللاعقلانية التى تملأ عقول بسطاء المتدينين والتى يستخدمها المنتفعون بالدين لتثبيت سطوتهم وسيطرتهم على العامة، ولا صلة لها بالشعائر والطقوس. الدين عند الشعراء والفلاسفة تجربة ذاتية، فلنستعرض بعضا مما يقول هؤلاء.
1) يقول ابن عربى الشاعر المتصوّف (1164 – 1240 م.): "لقد صار قلبى قابلا كل صورة / فمرعى لغزلان وديرا لرهبان / وبيتا لأوثان وكعبة طائف / وألواح توراة ومصحف قرآن / أدين بدين الحب، أنى توجهت / ركائبه أرسلت دينى وإيمانى."
2)كان ﭼيوردانو برونو Giordano Bruno (1548 – 1600) صاحب تجربة تصوفية عميقة وفكر فلسفى خصب يعبّر فى صيغة أصيلة عن جوهر البصيرة الأفلاطونية، لكن الكنيسة رأت فى فكره خروجا على العقيدة الصحيحة، وحوكم أمام ‘محكمة التفتيش’ فلم يراوغ ولم يساوم ولم يتحايل، بل دافع عن موقفه دفاعا عقلانيا، فحكم عليه بالإعدام حرقا ونفذ الحكم فى اليوم السابع عشر من فبراير عام 1600.
3)الشاعر شيلى Shelley طرِد من جامعة أوكسفورد فى 1811 لأنه نشر مقالا عن ضرورة الإلحاد، لكن من يقرأ شعر شيلى يجد فيه روحانية سامية ويرى فيه تواصلا مع الإلوهية الكامنة فى قلب الحقيقة. وهذا شبيه بوضع سپينوزا Spinoza الذى يراه أهل الدين ملحدا بينما يصفه من استوعبوا فكره بالفيلسوف المنتشى بخمر الإله.
4)يقول فريدريش شلايرماخر Friedrich Schleiermacher: "أن يكون لك دين يعنى أن تعى intuit الكون، وقيمة دينك تعتمد على الطريقة التى تعى بها الكون، على المبدأ الذى تجده فى أفعال الكون. فإذا كنت لا تستطيع أن تنكر أن فكرة الله تتكيّف ذاتيّا مع كل وعى intuition للكون، فعليك أيضا أن تُقِرّ بأن دينا بغير إله يمكن أن يكون أفضل من آخر به إله."
5)يعرّف أ. ن. وايتهيد A. N. Whitehead الدين بأنه ما يصنعه الإنسان بعزلته، وهو بهذا يؤكد البعد الذاتى subjectivity فى المفهوم الفلسفى للدين، وفى كتابه تكوّن الدين Religion in the Making (1926) يقول عن الله: "نظام العالم ليس عارضا. ليس من شىء [كائن] فى الواقع يمكن أن يكون [له كيان] فى الواقع بدون قدر من النظام. البصيرة الدينية هى إدراك صدق هذه المقولة: إن نظام العالم، عُمق حقيقة العالم، قيمة العالم فى كله وفى أجزائه، جمال العالم، نشوة الحياة، سلام الحياة، والسيطرة على الشرّ، كل هذا مرتبط معًا — ليس عَرَضَا وإنما بفعل هذه الحقيقة: إن الكون يُظهر إبداعية بِحُرّية لامحدودة، ومجال صُوَر بإمكانات لامحدودة؛ لكن هذه الإبداعية وهذه الصور هى معا عاجزة عن التحقق فى واقع بدون الانسجام المثالى المكتمل، الذى هو الله."
هكذا نرى أنه حين يتحدث الشعراء والفلاسفة عن الدين وعن الله فإنهم إنما يعبّرون عن تجربة العقل الإنسانى فى مصارعة أسرار الحقيقة القصوى ويومئون لبصيرة لا علاقة لها بمعتقدات وممارسات الديانات المؤسسية، بحيث يكون استخدام نفس الألفاظ فى هذين المجالين المختلفين مبعثا لكثير من الخلط ويستوجب أن يداوم المفكرون العمل على توضيح الرؤى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جوهر الإختلاف
سنان أحمد حقّي ( 2012 / 5 / 30 - 13:54 )
الأستاذ العزيز داود روفائيل خشبة المحترم
إن جوهر المعرفة الدينيّة مختلف عن سائر المعارف الإنسانيّة الأخرى فهو يرتكز على الإتصال بالخالق وهو الذي يعرف الغيب ( عالم الغيب والشهادة) وأنه هو أي الخالق الذي أخبر أحد البشر الذين اختاره لنفسه بعالم ما بعد الموت وأنه سيكون هناك حساب وسيقفون أمامه جميعا وأن هناك جنّة ونار وهكذا وطبعا أنه سيتم بعث من في القبور وأنهم من الأجداث ينسلون وهكذا وليست الأديان كالفكر الإنساني والفلسفة والعلوم الأخرى التي تعتمد على نشاط أو تاريخ النشاط الفكري الإنساني وهنا يمكن أن نتحفّظ على كون الأنبياء خلطوا التراث المعرفي الروحي الذي سبق مرحلتهم بما يتشكّل من بيئة وعادات وتقاليد فهذا لا يوافق الدعاوى الدينيّة أبدا ويتعارض من المعرفة المستمدّة من الكتب السماويّة فأنا مع أنني محدود الإطلاع على الكتاب المقدّس ولكنّني أعلم من القرآن أن الله هو الذي أنزل هذا القرآن على محمد ( ص) ولهذا نجد بين الآية والأخرى (قل) أي أن القائل هو ربّ محمد (ص) ولا دخل لمحمد به سوى أنه حمله ولهذا أيضا نجد أن أسلوب القرآن الأدبي يختلف تماما عن أسلوب كلام وخطب النبي( ص)وأرجو قبول عظيم تقديري.


2 - تصويب خطأ في السطر 37
محمد الشعري ( 2012 / 5 / 31 - 19:06 )
الخطأ: ا
أدين بدين الحب، أنى توجهت / ركائبه أرسلت دينى وإيمانى.-

الصواب : ا
أدين بدين الحب، أنى توجهت / ركائبه فالحب دينى وإيمانى.-

http://youtu.be/RKjNGZXoueA


3 - خيال
محمد الشعري ( 2012 / 5 / 31 - 19:34 )

بعض الناس لاجئون أخلاقيا إلى الأديان هربا من الفساد. و بعضهم الآخر يستخدمون الأديان تمويها للمخابرات عموما و للتخاطر خصوصا و ستارا للفساد و تبريرا له بذريعة الجن أو الشياطين. الأديان إذن خيال مفتوح على جميع الإتجاهات. و الخيال قابل لكل التأويلات و لشتى الإستخدامات.
----
إليك أخي الكريم هذا المثال عن التوظيف الإيجابي للظاهرة الدينية:
إرهاصات أو بذور العقلانية في التراث :

http://youtu.be/RKjNGZXoueA


4 - السرّ في البلاغة
سنان أحمد حقّي ( 2012 / 5 / 31 - 23:15 )
الأستاذ محمد الشعري المحترم
إن مردّ وجود إنتفاع بالأديان لأغراض أخلاقيّة أو إستخباريّة كما ذكرتم وتميّز قدرتها على التخاطر على ما تجدون إلى الخيال ومع أن أي نشاط ذهني وعقلي يحتاج إلى قدر وافٍ من الخيال وهو أي الخيال أحد أهم وظائف الدماغ العليا ولكن كل هذا يشترك مع ما تأتي به الأديان من صياغة بلاغيّة مُحكمة وراقية وهي سرّ إستغلال الأنشطة الموصوفة من قبلكم لها لما تنطوي عليه من وسائل متقنة ودقيقة في إيصال الأسراروالتعبير عنها وقد قال النبي محمد ( ص): إن من البيان لسحرا
وغنيٌّ عن الذكر أن البيان والبديع والمعاني هي فروع علم البلاغة العربيّة مع أن المقصود قد يكون النطق أو الكلام بشكل عام. مع خالص إعتباري وتحياتي


5 - أين يقع الدين في خريطة المعرفة؟
محمد البدري ( 2012 / 6 / 1 - 05:47 )
تنقسم مراحل تطور المعرفة عن البشر الي 5 مراحل اساسية. تبدأ بالمرحلة الباطنية الغنوصية فتبدا العمليات اللاشعورية الغرائزية في تشكيل صورة للوجود في العقل وهي ذاتها المرحلة التي نشأت فيها الاسطير وكل السخوص والموجودات الالهيية حيث لا عقلانية التصرفات والسلزكيات النابعة منها والتي نشهد بقاياها في الاديان الحالية. ثم اتاي مرحلة الملاحظة والتنظير برسم صورة للكون اكثر اتساقا بقدر صحة الرصد لما شاهده البشر وهي ذاتها المرحلة الفرعونية العميقة والشورية والبابلية والتي استخدمت بعقلانية ممكنة كل الادوات المتاحة لتحسين الصورة او بقائها متماسكة بقدر الامكان. ثم اتت المرحلة التجريبية التي اسسها ارشميدس وفيثاغورس واقليدس وانقطعت فترة سيادة الدين ثم عادت وتواصلت مع فرانسيسس بيكون وكل من جاء بعده فصاعدا حتي الان. ثم اتت الفترة التي اسست النظريات بناءا علي المشاهدات والتجريب ومع تصحيح الباراديم في كل مرة للارتقاء وضبط حقاءق الواقع حتي وصلنا الي المرحلة الاكسيوماتية. الدين إذن هو ادني مراحل المعرفة والتطور العقلي لهذا نري ان من يستعيده ينحدر الي الخلف وربما سيظهر له ذيل إذا ما استمر في تهوره الي الاسفل


6 - شكرا للتصحيح
داود روفائيل خشبة ( 2012 / 6 / 1 - 10:23 )
الأستاذ محمد الشعرى، أشكرك لتصحيح بيت ابن العربى. هكذا كنت أحفظه أنا أيضا، لكنى عند إعداد الموضوع أردت التيقن فدخلت على موقع فى الشبكة الإلكترونية حيث وجدته بالصيغة التى أوردتها، وكان يجب أن أتحقق أكثر. أشكرك


7 - الحق يقال
جميل مزوري المانيا ( 2012 / 6 / 6 - 14:41 )
انا بتصوري الدين كفكره ليس بالسى بل رادع اخلاقي حتى لاينهش الانسان لحم اخيه الانسان لكن اين تكمن مشكله الدين عندما تدخل الدين في سياسه الدوله والحكومه والموسسات المدنيه اي تسيس الدين لمصحله محدده هنا تقع المشكله وبولد العجر لاانك تخلط الثابت بالمتغير والغرب واوربا لم تتقدموا وتتطوروا الا عندما فصلوا الدين عن السياسه والدوله وتركوا الدين يمارسونه في المعابد والكنائس ودور العباده

اخر الافلام

.. مشروع علم وتاريخ الحضارات للدكتور خزعل الماجدي : حوار معه كم


.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو




.. 70-Ali-Imran


.. 71-Ali-Imran




.. 72-Ali-Imran