الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة؟ - الجزء الرابع

نضال فاضل كاني

2012 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ذكرنا في الجزء الأول، ان المشكلة التي لم يستطع العلم تجاوز عتبتها تمثلت في عجزه عن اعطاء تفسير يتجاوز الحالات الثلاث: برج سلاحف لا متناهي، وحلقة من السلاحف تفسر نفسها بنفسها، وسلحفاة عظيمة لازمة يفسر بها كل شيء ولا يفسرها شيء. أي يمكن للعلم ان يفسر ما دونها فحسب. الامر الذي جعل هذه القوة الثلاثية السلحفاتية – كما يصفها باول ديفيز- تستمر بالصمود اكثر من ثلاثة الآلف سنة لحد الآن. ثم جاء "هوكنغ" ليقول بأنه تمكن أخيرا من دحر هذه القوة، والتي كانت تسمح لكل من الفلسفة والدين بأن يكونا حاضرين في الحقل المعرفي. ولما كان واثقا من نفسه فقد اعلن بجرأة كبيرة "موت الفلسفة"، اذ وحسب رأيه، باتت المباحث التي كانت الفلسفة تنظر فيها -كأصل الوجود وسببه وغايته وما الى ذلك- من الشأن الحصري للعلم فقط.
لقد عرضنا فيما تقدم من اجزاء هذا المقال، الآراء والافكار الرئيسية لهوكنغ، والآن سنحاول ان نحللها ونناقشها من خلال طرحنا لسؤال اساسي وهو: هل تمكن فعلا "هوكنغ" من التغلب على القوة السلحفاتية؟.
فيما يتعلق بالسؤال الأول، رأينا ان "هوكنغ" افترض ان العدم لا يعني اللاشيء المحض، بل هو اللاشيء لكوننا فحسب، فقد وضح بالاستناد الى فيزياء الكم، ان الفراغ لا يمكن ان يكون فراغا مطلقا، لماذا؟ لان نظرية الكم تفترض ان الشيء يضمر لا مثيله، فاذا كان ذلك الشيء ظاهرا بحالة جسيمية فهو يضمر الحالة الموجية، والعكس بالعكس، فاذا كان في حالة موجية فهو يضمر الحالة الجسيمية. فاذا افترضنا ان هناك فراغا في الوجود فهو يضمر لا مثيله، أي يضمر وجودا غير ظاهر، وبالمثل فان الشيء الموجود يضمر حالة اللاوجود لذلك الموجود. ولما كانت نظرية الكم قد تم برهنتها علميا، فان القول بأن العدم ليس الفراغ المحض بات قولا علميا. وهذا يعني عنده ان الكون قد أتى من العدم والذي هو الوجود الاسبق للكون. وبتعبير آخر، بداية الكون لم تكن من لحظة الانفجار الكبير، بل بدايته متماهية مع أزلية الوجود للعدم. وعلى هذا فان الكون كان ازلا في حالة العدم، ثم انتقل الى حالة اللاعدم، والشأن عنده لا يختلف عما تم رصده فيزيائيا من التقلبات في بنية الإلكترون بين حالتي الموجة والجسيم. ومن جانب آخر: لما كانت فيزياء الكم تفترض الحالة الاحتمالية لظهور أي جسيم او عدم ظهوره، فان الامر ذاته ينطبق على ظهور الكون او خلقه. أي ان الكون لم يخلق بأمر من خالق سبق ان قدّر ودبّر ثم كوّن فكان، بل خلْق الكون كان مجرد احتمال عادي تفترضه القوانين الطبيعية التي تمكن العلم من اكتشافها.
بهذه الطريقة من التفكير رأى "هوكنغ" انه تمكن من اختراق عقبة الفلسفة والدين واشكالات السلحفاة. ولكن لنا أن نقول: اذا كان ما قاله "هوكنغ" صحيح. واذا كان وجودنا المادي يدل على وجود العدم وهو الطاقة اللامادية الصرفة، واذا كان عمر الكون المادي -وهو 3.7 مليار سنة- الدال على وجود الطاقة الصرفة محدود. فالسؤال هنا: ما الذي كان يدل على وجود تلك الطاقة الصرفة قبل وجود كوننا؟ بل وما مصدر تلك الطاقة الصرفة (العدم) التي تكون منها كوننا اصلا؟.
حين سأل "لاري كنغ" هوكنغ عن ذلك، اجاب: "قوانين الطبيعة"، ولما سأله وما مصدر قوانين الطبيعة، كان رده الطبيعة نفسها، ثم ضرب مثالا شبّه فيه الامر بالسؤال عن حاصل جمع (2 + 2) فالنتيجة الحتمية هي (4) ولكن لماذا هذا العدد؟ لأن (4) هي حاصل جمع (2 + 2).
حسنا، افلا يذكرنا هذا بالحالة الثانية من اشكالية السلحفاة، وهي الحلقة الدائرية، الطبيعة جاءت من القوانين الطبيعية والقوانين جاءت من الطبيعة، ولكن من اين جاءا معا؟ هنا لم نحصل على اجابة.
برأينا، ان "هوكنغ" في هذه المسألة لم يزد عن ان وسع المدى الكوني للسؤال، فبعد ان كان السؤال يصل الى لحظة الانفجار العظيم ويتوقف، اصبح الآن يمتد الى ما قبل الانفجار العظيم، ليشمل السؤال عن العدم نفسه، ولكن في واقع الامر بقي السؤال هو هو والنتيجة هي هي ذاتها، وما حصلنا عليه ليس اكثر من تحصيل حاصل.
ثم، اننا اذا نظرنا الى النظريتين العلميتين التي ركن اليهما "هوكنغ" وهما: نظرية الكم ونظرية أم، في اثبات امكانية ان يخلق الكون من لا شيء، لرأينا انهما ذاتهما يمكن الاحتجاج بهما لاثبات نقيض ما فهمه منهما. كيف ؟!
بما ان نظرية الكم تفترض التقابل بين الوجود والعدم، أي ان وجودنا يدل على وجود العدم الذي جئنا منه. وان وجود العدم يدل على وجودنا، اذ لولا وجود العدم لكان وجودنا ازليا. وبما انها تقوم على مبدا اللايقين، وهو المبدأ الذي يخبرنا بأن نسبة الدقة في معرفة احد وجهي الظاهرة الكمومية تساوي نسبة اللادقة في معرفة الوجه المقابل، أي اذا اردنا ان نعرف سرعة دوران جسيم وموقعه، فان نسبة معرفتنا بدوران الجسيم ولتكن مثلا 80% تساوي نسبة عدم معرفتنا بموقعه، أي اننا لا نستطيع معرفة موقعه بنسبة 80%، والعكس صحيح، اذا عرفنا موقع الجسيم بنسبة معينة فاننا بنفس المقدار سوف نجهل سرعة دورانه. وهذا امر مؤكد علميا بما لا يقبل الشك. اقول: اذا كان هذا هو المبدأ الذي قامت عليه نظرية الكم في دراسة الظواهر الكمومية، أي في المستويات متناهية الصغر. واذا كان "هوكنغ" قد وجد منفذا من خلال نظرية أم، ليعمم هذا المبدأ على الكون، ليجعلنا نتصور الكون وكأنه جسيم كمومي، يمكن تطبيق مبدأ اللايقين عليه، فإن ذلك التطبيق الذي يخبرنا احتمالية ان يكون كوننا نسخة احتمالية لاكوان اخرى تُخلق من العدم، كما تُخلق الجسيمات دون الذرية من العدم في المختبرات، هو نفسه يمكن ان نطبقه على العدم نفسه بوصفه طاقة صرفة.
بتعبير آخر: أوليس العدم – في الفيزياء الحديثة- هو وجود الطاقة في حالتها الافتراضية الصرفة التي ليس فيها شيء من المادة؟ اذا، العدم ليس اللاشيء المحض. وهذا يعني انه بطريقة ما يعتبر شيئا ما، شئ غير مادي، شيء قادر على ان يخلق المادة او ان تخلق المادة منه. في كل الاحوال هو حالة كمومية تفترض وجود ما لا يماثلها وهي الاكوان، ولكن ذلك لا يمنع وفق مبدأ نظرية الكم نفسها افتراض انه هو اصلا حالة كمومية لما يسبقه من الطرف الاخر.
لقد تمكن العلم من معرفة الوجود العدمي –بهذه المواصفات او الخصائص- من خلال ما يعرف باللامقايسة مع الوجود المادي. مثلما يتمكن عادة من معرفة موقع الجسيم من خلال اللامقايسة مع سرعته. ولكنا لو نظرنا الى العدم كموجود له مواصفاته الخاصة، فبالإمكان افتراض وجود سابق له لا متقايس معه، أي لا يماثله.
وبتعبير آخر:
لو رمزنا للوجود الكوني المادي بالرمز (+ س)
فانه وفقا لنظرية الكم يوجد (- س) وهو العدم الذي خُلق منه (+س).
ونحن وفقا لذات المنظور يمكن ان نفترض وجود (س) مجردة سابقة لـ(-س)، ومن هذه الـ(س) المجرد، والذي قد نصطلح على تسميته بـ(اللاعدم) خُلقَ العدم (-س). اذ لا يوجد في نظرية الكم ما يمنع من افتراضنا هذا، كما لا يوجد ما يمنع من افتراض وجود انواع مختلفة من الوجودات اللاعدمية –ان صح التعبير- سابقة للعدم.
ان اللامقايسة الكمومية تسمح لنا بهذا الافتراض، واذا كانت تلك اللامقايسة احد الموازين التي يعتمدها العلم في استنتاجاته، فانها تكون قد فتحت الباب أمام اشكالية البرج اللانهائي من السلاحف، اذ وكما يبدو فان لا حدود لما يمكن ان نتصوره من وجودات سابقة للعدم يمكن افترضها بالاستناد الى القوانين الطبيعية نفسها.
بنفس الطريقة يمكن الاحتجاج "بنظرية أم" لاثبات وجهة النظر اللامماثلة لما ذهب اليه "هوكنغ" فحيث انها تفترض وجود نماذج عديدة قادرة على تفسير الوجود المادي، فبالطريقة ذاتها، يمكن رفع سقف المعادلات لاحتساب نماذج متعددة للعدمات (جمع عدم). ويمكن معها القول بوجود تواريخ متعددة للعدم نفسه وليس للوجود المادي فحسب.
أقول: ان مقصد الكلام هو ان كلا من "نظرية الكم" و "نظرية أم" أو غيرهما، لا تختلف عن أي شيء في الوجود، هي عبارة عن سلاح ذو حدين، يمكن ان تفسر الوجود على انه لا يحتاج الى خالق، كما انها يمكن ان تفسره على انه بحاجة الى خالق، والفرق بين التفسيرين يرجع الى طريقتنا في النظر الى تلك النظرية، وهنا يصدق عليها ما ذهب اليه "هوكنغ" من القول بـ"الحتمية المعتمدة على النموذج" فحتمية أي رأي تعتمد على النموذج الذي يتم اختياره، فاذا كان "هوكنغ" قد اختار نموذجا معينا في فهم نظرية الكم ونظرية ام، لتفسير الكون، فهذا حقه، ولكن الخطأ كل الخطأ او لنقل اللاموضوعية كل اللاموضوعية العلمية في اعتباره ان ذلك النموذج هو النموذج الاوحد لتفسير خلق الكون. ذلك ان هذا القول هو تناقض صريح مع المبدأ الذي وضعه "هوكنغ" نفسه ليثبت فيه أن لكل شيء تواريخ وليس تاريخ واحد.
بناءً على كل ذلك، يُفترض بـ "هوكنغ" ان يجري تعديلا اساسيا في تصريحه القائل: "قد يوجد خالق ولكننا لا نحتاج اليه في تفسير الكون"؛ ليصبح: "قد يوجد خالق وقد نحتاج اليه في تفسير الكون". وذلك لأنه لا يستطيع ان يجزم بالحاجة اليه لتفسير وجود الكون، لأن الجزم يتطلب منه تفسير الخالق، والقوانين العلمية عاجزة عن ذلك بسبب القوة السلحفاتية، فله ان يقول "قد نحتاج للخالق"، ومتى ما تم تغيير القوانين الطبيعية -كما حصل في الفيزياء الحديثة عندما انقلبت على الفيزياء الكلاسيكية- بحيث يصبح من الممكن ان يُدخل الغيب او الميتافيزيقيا في معادلاتها، حينئذ يجب على "هوكنغ" ان يقول: "يوجد خالق ويجب ان نعتمد على وجوده في تفسير وجود الكون"، والى ذلك الحين – ولا اظن هوكنغ يعاصر تغير قوانين الفيزياء المفترض هذا- فما تبين لنا هو لزوم عدم استبعاد الخالق أو الغيب او الميتافيزيقا كنموذج من النماذج العلمية لتفسير وجود الكون، لأن استبعاد هذا الافتراض غير مبرر علميا.
ماذا نستنتج من ذلك كله:
هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة ام لم يتمكن؟
هل قوانين العلم قادرة على ذلك التجاوز ام انها بحاجة الى التغيير؟
واذا افترضنا انها بحاجة الى التغيير، فهل تلك الحاجة مقترنة بالطريقة العلمية التقليدية التي تعتمد على المنهج التجريبي العقلاني كمصدر للمعرفة أم لابد من اللجوء الى مصدر معرفي آخر كالمصدر الصوفي الذي اقترحه بعض العلماء؟
الاجوبة عن ذلك ستتقرر –حتما- في الجزء الخامس والاخير من هذا المقال.

نهاية الجزء الرابع
(في الجزء الخامس والاخير من هذا المقال، سنحاول تحليل افكار "التصميم العظيم" من خلال نظرتنا التي تقوم على مفهوم التضامر).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السلام في أوكرانيا.. بين خطة زيلينسكي وشروط بوتين


.. زيلينسكي: مقترحات السلام ستقدم إلى روسيا بمجرد أن تحظى بمواف




.. غزارة الأهداف تتواصل لليوم الثاني في #يورو_2024 هل هي دلالة


.. محللون إسرائيليون في الإعلام يطغى عليهم اليأس لانعدام خطة تت




.. إصابة 10 أشخاص بإطلاق نار عشوائي في ديترويت