الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قانون العدالة الإنتقالية وإصلاح المؤسسات التعليمية

مازن مريزة

2012 / 6 / 8
المجتمع المدني



حاز مصطلح ( العدالة الإنتقالية ) في الآونة الأخيرة على الكثير من الإهتمام من قبل عدد غير قليل من المختصين في المجالات السياسية والقانونية والفكرية وحقوق الإنسان وعلماء الإجتماع وغيرهم ، تزامنا مع ( ثورات الربيع العربي ) ، وتحوّل الكثير من الأنظمة الشمولية نحو الديمقراطية ، بعد أن رزحت تحت حكم الأنظمة الدكتاتورية ردحا من الزمن ، وقد استفادت من تطبيقات هذا القانون ، وخاضت تجاربه - وإن كانت بنسب متفاوتة - العديد من الدول مثل : ( الأرجنتين ، غواتيمالا ، وتشيلي ، البيرو ، جنوب أفريقيا ، العراق ، تيمور الشرقية ، بولونيا ، المغرب ، سيراليون ، ... وغيرها ) ، وقد انظمت مؤخرا بعض بلدان الربيع العربي ، مثل : تونس ، ليبيا ، مصر ..وغيرها من البلدان التي مرت بفترات تحول سياسي انتقالي ، بعد أن بقيت لوقت طويل بين مطرقة القمع الفكري والسياسي ، وسندان الهياكل القانونية المهترئة ، من التي لا ترى أي قيمة جوهرية لأفراد المجتمع من غير الحلقة الحاكمة ، من خلال فرض أنواع غير مسبوقة من الاستبداد والمحاسبة الشديدة للأفراد الذين يقفون بوجه تلك الأنظمة المنضوية تحت حراب الأوتوقراطية بتصنيفاتها الرئيسة ، والمستمدة سطوتها من خلال أنظمة فرعية متشعبة من القنوات الكليبتوقراطية ، التي تتميز بتشددها في انغماس شهواني متلذذ في دعم النظام الرئيسي الحاكم ، في سبيل تحقيق المزيد من المصالح الفردية ، والمكاسب الفئوية ، لتعمق الفجوة القائمة منذ بدء الخليقة ، بين الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية ، تلك الطبقة التي تستمد قوتها في الغالب الأعم من النظام الشمولي الحاكم بقوة الإجبار والقهر والقمع ، مما يساعد في خلق بيئة شاذة ، وأرضية سبخة ملوثة بثقاقات قهرية جديدة ، أخطرها ما يسمى بـ( ثقافة العبيد ) ، حيث تنظر الحلقة الحاكمة الى الفرد من عامة الشعب بفوقية مفرطة ، ولا تعده في أحسن الأحوال سوى عبدا لا حقوق له ، يؤدي لها دورا محددا مقابل السماح له بالحد الأدنى من الحقوق الإنسانية المعروفة ، وتركه يعيش بساحة لونية مختصرة ، حسب قتامة نظارات صاحب العظمة ، الذي يستعين بالطبقة الكليبوقراطية سالفة الذكر ، ويضعها على رأس مؤسسات الدولة العامة ، كفزاعات للقمع والتخويف ، وكشريك في صناعة التسلط من الدرجة الثانية ، مما دفع بتلك المؤسسات – مثل أجهزة الأمن الداخلي والبوليس وكتائب الجيش ، ومنصات القضاء - للتحول من مؤسسات عامة الى مؤسسات قمعية على النمط الإشتازي ، وأدوات تعسفية مارست لعقود طويلة ألوانا شتى من الانتهاكات والعنف المستمر في محاولات حثيثة لإعادة مجتمعاتهم المغلوبة على أمرها الى عصور الرق والعبودية ، يسومونهم سوء العذاب وأنواعا لا تحصى من العقاب الفردي والجماعي ، لا بسبب قناعتها بالأنظمة الحاكمة أو إيمانا منها بمبادئها الخاوية ، بل بسبب شهوتها المطلقة في ممارسة الفساد ونشره والاستفادة من شروره في تحصيل المزيد من اموال السحت ، وبسبب قناعة تلك الفزاعات بضرورة تقديس تلك الأنظمة كونها الخيار الأوحد والوسيلة الأنجح في (شرعنة) الفساد ، فمن المعروف أنه كل ما احتدّت قوة النظام البوليسي في بلد ما ، كلما ارتفعت نسبة الفساد فيه ، لأن أركان الفساد والمنتفعين منه يحاولون باستمرار استمداد نفوذهم من خلال التركيبة السحرية (المال والسلطة ) ، مما يدفعهم للتمادي في دعم السلطة ، لضمان استمرار حصولهم على المال .
وفي ظل استمرار وتفاقم تلك الحالة المأزومة والأوضاع المزرية المزمنة والتي استمرت ربما لعقود ، نشأت خلالها أجيال انبثقت من رحم التفاعلات التبادلية المقيتة بين الطبقة الحاكمة والطبقة الموالية المحتكرة لرأس المال ، وظلت تلك الأجيال تسبح في برك الجهل و الفقر والتحقير والتمييز في ظل التردي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ، لتصبح في النهاية مظهرا بارزا من مظاهر حقبة التسلط والإجبار ، وعنوانا للجهل والتخلف ، كونها نشأت في أحضان القبضة البوليسية ، فتعودت خشونتها وتقبلت قسوتها ، وسلمت بالأمر الواقع ، وخضعت لأغلال الفقر والجهل ، وأدمنت دورانها المستديم في دوامات التهميش والإقصاء ، وفضلت السكوت وآثرت سلامة لقمة العيش ، وتعودت تقبل استخدام القوة المفرطة ضدها ، مما زاد من بطء دولاب الحركات المطلبية لتلك الأجيال، وتقليص هامش أهدافها لحدودها الدنيا ، سواءا على الصعيد الشخصي أوالعام ، بالإضافة إلى استمرار التعامل شبه اليومي مع مؤسسات عمومية متهالكة ، أفضلها حالا ما كان آيلا للسقوط والإنحدار ، بسبب تلك الصبغات الفردية والفئوية ، مما أضعف قدرة تلك الأجيال في المقارنة الحاسمة ما بين الصالح العام والمصالح الشخصية ، والتمييز ما بين الجيد والسيء ، وذلك مرجعه لأسباب عديدة ربما أهونها تردي الواقع الثقافي والتربوي والعلمي والفكري وغيرها، وكتم القدرات الاتصالية ، ومحاولة جعله مجتمعا متلقيا يقبل التلقين وتشويه الحقائق من جانب واحد، ومن المفيد إسترجاع مفهوم العدالة الإنتقالية ومعناه ، قبل الحديث عن إصلاح الضرر ، فالعدالة الإنتقالية مصطلح تبنته الأمم المتحدة بقوة ، وهو يمثل مجموعة من الحزم الإصلاحية ، تتخللها وتدعمها آليات ومناهج وطرق وعمليات يتم من خلالها ترسيخ (عدالة انتقالية ) في البلدان التي عانت من إنتهاكات قمعية ، وممارسات تعسفية ، وحالات جسيمة من هدر وإذلال متعمد للمواطنين ، من خلال الأنظمة السياسية السابقة ، ومساعدة المجتمع في التخلص من إرهاصات وانعكاسات الماضي ، والعبور به الى ضفة الاستقرار والديمقراطية ، من دون عنف أو فوضى أو أعمال انتقامية ، بل من خلال المساءلة القانونية ، والعدالة السلمية ، ونقل المجتمع ومؤسسات الدولة بهدوء وروية من حال الاستبداد الى حال الديمقراطية ، ومن الفوضى الى الاستقرار والسلم والأمن ، ومن مرحلة الصراع إلى مرحلة المصالحة ، و“العدالة الإنتقالية” كما تعرفها الأمم المتحدة هي : (( كامل نطاق العمليات و الاليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة و إحقاق العدل و تحقيق المصالحة )).
وبما أن الأرث الضخم من التعسف والإنتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لم يؤثّر على الضحايا المباشرين وحسب، بل على عموم المجتمع بأفراده ومؤسساته ، فمن واجب الحكومات أن تضمن إلتزاما موجبا ، ليس بإصلاح المؤسّسات التي شاركت بصورة مباشرة أو غيرمباشرة في تلك الإنتهاكات ، بل عليها أيضا ضمان إصلاح المؤسسات الأخرى التي ظللتها غمامة التعسف والقمع ، وامطرت مدخلاتها وعملياتها لسنين طويلة بتأثيرات مدمرة ، مسّت جميع مستوياتها وهياكلها ، وأثرّت على مخرجاتها إلى حد التشويه ، بسبب عجز قطاعات كثيرة – من غير قوى الأمن والجيش والقضاء- عن تفادي ما طالها من تأثيرات تعسفية دون ان تتمكن من التخلص من نتائجها على المديات القصيرة ، ومن تلك القطاعات ؛ قطاعات الصحة والثقافة والإعلام والتعليم والتعليم العالي وغيرها ، فمن حق المواطنين الحصول على عدالة كاملة في معرفة الحقيقة ، وأن يروا مرتكبي الجرائم يعاقبون على جرائمهم ، ومعرفة الحقائق ، وجبر الضرر في الحصول على تعويضات مناسبة لضحاياهم ، ولهم الحق أيضا في الحصول على إصلاحات حقيقية لجميع مؤسسات القطاعات المختلفة ، وإعادة الثقة المدنية لهم .
وعلى الأرجح أن قطاعات التربية والتعليم بالذات – بالإضافة إلى قطاعات الأمن والجيش والقضاء وغيرها - ، تملك تأريخا حافلا من التجاوزات والانتهاكات والقمع ، مما يتطلب وضعها على رأس قائمة الإصلاحات ، وإلى جهود فنية وفكرية وعملية استثنائية مستمرة ، لما لها من تأثيرات كبيرة على حاضر الدولة ومستقبلها ، حيث كان من مصلحة الأنظمة السابقة في إبقاءها خاملة بليدة ، متصفة بالجمود وضعف القدرة على إعادة توجيه التأثير الإيجابي في المجتمع ، وتحويلها إلى عنصر حيوي من عناصر الخطاب السياسي للأنظمة المتعسفة ، وأرضية لا أخصب منها لإعادة إنتاج أجيال لا تستطيع أن تتعامل سوى مع أيدلوجية محددة تدفعهم بقوة للكفر بكل ما سواها ، عبر برامج تعليمية فريدة تحمل بين طياتها أفكارا مشوشة تتعلق بالمواطنة والولاء وشرعية الحكم ، والاستماتة في محاولة تحوير المنظومة التعليمية لأماكن خصيبة لإفشاء الدعاية والترويج لأفكار السلطة أحادية الجانب ، ولا أظن أنه بالإمكان بمكان ما الشروع في إصلاح مؤسسات التعليم إلا من خلال الفحص الدقيق لجميع مكونات النظام التعليمي ومؤسساته الملحقة ، وكذا من خلال الدراسات العلمية الحيادية ، لواقع التعليم ، وحصر سلبياته ، ومنها فحص المعلمين والمدرسين والأساتذة والإداريين ، من بقايا الأنظمة السابقة ، وتقدير الحاجات التأهيلية لعموم العاملين ، وفرز المشكوك بأمرهم وإعادة التأكد من ميولهم الحالية ، وإعادة تأهيل الجزء القابل للتغيير والتطوير الإيجابي ، وإبعاد من لا أمل في تأهيله ، أو من ثبتت مساهمته المباشرة في الإنتهاكات والقمع ، أو المقاوميين للتغيير ، وكذلك إعادة النظر في المناهج والمقررات ، وتنظيفها من أي تشويهات أو قلب للحقائق أو تلميع صور الشخوص والأحزاب والأيدلوجيات ، وتحديثها على ضوء الحركة العلمية والفكرية المتسارعة في عموم العالم ، والإفادة من تجارب الدول المتقدمة في تطوير التعليم ، والتخطيط المناسب للعملية التعليمية ، من خلال النظر إليها كمنظومة متكاملة ، تقوم بدور الرابط الحقيقي بين المدخلات والموارد المتاحة ، وبين خطط التنمية الستراتيجية التي يحتاجها المجتمع بصورة واقعية ، وكذلك معالجة ضعف التمويل المالي اللازم لإصلاح قطاع التربية والتعليم ، بعد أن كانت معظم الموارد المالية يُعاد توجيهها إلى وزارات الدفاع والداخلية وأنواعا لا تحصى من الأجهزة القمعية ، وترك المنشآت التعليمية بحال متهالكة بلا إحلال أو تجديد ، ومن الأفكار الحديثة المطروحة لإصلاح قطاع التربية والتعليم : دعم فتح قنوات تمويل جديدة ، وخصوصا في الجامعات ، من خلال تسويق بعض الخدمات الجامعية ، في كليات الطب والقانون والزراعة والهندسة ومراكز البحوث الجامعية مثلا ، وأفكار أخرى تتمثل في تبني الحكومة لإنشاء مدارس وكليات خاصة ، بأجور غير خاضعة للحسم وفي الأوقات المسائية بالذات ، على أن يُعاد توجيه تلك الموارد مرة أخرى لتحسين أدائها وتطويرها باستمرار ، مما يتيح الفرصة أمام الجميع للحصول على تعليم جيد ورصين ، وكذلك تحسين الواقع المعاشي للمعلمين والاساتذة من خلال رفع الأجور ، وتوفير المزيد من الخدمات الحكومية المجانية لهم ، لإعادة الإعتبار المادي والمعنوي والأدبي لهم ، وحثهم على تقديم المزيد من الجهود لتحسين أداء المنظومة التعليمية ، والأهم من ذلك توفير موارد مناسبة لدعم البحوث العلمية ، التي قد تساعد عمليا على تقديم الحلول العلمية المناسبة ، والأفكار المبتكرة ، لجميع مشاكل المجتمع في فترته الإنتقالية القادمة ، بدلا من الاستغراق في تجربة الحلول المستوردة التي قد لا تتناسب مع واقع المجتمع الحقيقي لأسباب شتى ، وانتشاله من هوة التخلف ودفعه الى منصة التقدم والتطور .
وأن يفهم القائمون على هذه المسألة وبوعي تام ، أن المسألة لا تنحصر في ردم الفجوة الكمية بين أعداد الأميين والمتعلمين ، أو زيادة ضخ المزيد من الخريجين إلى سوق العمل المترهل أساسا بأعداد غير نوعية من أنصاف المحترفين ، بل المسألة أعمق من ذلك بكثير ، وهي تتمثل - حسب رأيي- في إيجاد الطرق الملائمة في إعادة غرس الكثير من المفاهيم المتعلقة بعلاقة الفرد بالدولة ، وتصحيح مسارات الكثير من البرامج التربوية والتعليمية ، لتتوائم مع الخيارات والأهداف الجديدة لتلبية حاجات المجتمع لا حاكميه ، والمعالجة الفورية لخطط التعليم على المستويات التشغيلية والتكتيكية والستراتيجية ، ودراسة الخيارات المتاحة والموارد المتوافرة ، والمدخلات الواقعية ، ووضعها في الإطار الصحيح والمسار المناسب لتلبية حاجات المجتمع ، من خلال ربط أهداف النظام بأهداف تنموية مبنية على أساس المصالح المشتركة ، وإعادة إنتاج دولة جديدة تتميز وتتفاخر بمؤسساتها المدنية الضامنة لتكوين أجيال واعية ومدركة لوجود العديد من الأيدولوجيات النموذجية غير الضبابية حول نوعية وسياق علاقتها بحاجات المجتمع وشرعية الحكم بالإتجاه الصحيح ، وأن تكون مؤسسات التعليم ومراكز نشر الوعي أكثر بكثير من السجون والمعتقلات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -جبل- من النفايات وسط خيام النازحين في مدينة خان يونس


.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان




.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي


.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن




.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك