الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم إرادة القوة في فلسفة نيتشه

محمد بقوح

2012 / 6 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- تطرح مسألة تسمية " إرادة القوة " مشكلة الترجمة في التفكير الفلسفي في العالم العربي. باعتبار أن همّ ترجمة ما هو فلسفي، يجب أن يؤسس على الهمّ الفكري الفلسفي، قبل أن يبنى على الهمّ اللغوي. لهذا هناك من مترجمي النص الفلسفي النيتشوي من ترجم تعبير la volonté de puissance ب " إرادة القوة ". و هناك من استعمل تعبير إرادة " القدرة " عوض تعبير إرادة " القوة ". في حين اختار البعض الآخر مصطلح " الاقتدار " بدل " القدرة " للدلالة على نفس المعنى. لكن يبقى التعبير الأكثر شيوعا و استعمالا و قبولا بين الدارسين و مترجمي الفكر الفلسفي النيتشوي هو: " إرادة القوة ".

2- حسب نيتشه ( 1844- 1900 )، يلزم التفريق ضرورة بين الإرادة و المعرفة. حين يتعلق الأمر بالحقيقة. فالسعي إلى معرفة الحقيقة، لا يعني بتاتا و حتميا إرادة الحقيقة. بمعنى أن نيتشه هنا يسلّم مبدئيا بالتقسيم الثنائي للعالم. التقسيم المبني على أساس ما هو متعالي فوقي، الذي هو المعرفي و الذهني.. و ما هو محايث و أرضي محسوس بتعبير دولوز. إنه التأسيس الفعلي للميتافيزيقا. كما مارسها قبلا سقراط و أفلاطون و ديكارت و كانط. أ لم يقل سقراط ما معناه " أن الحقيقة توجد في الفهم، و ليس في الأشياء و الموضوعات " ؟. ثم ماذا تعني " نظرية المثل " التي فكر بها أفلاطون فلسفيا.. إن لم تكن تعني التفريق الميتافيزيقي بين عالم الحس و عالم الحدس. العالم الأرضي و العالم السماوي. و أخيرا، أ لم يخضع ديكارت ذاته معرفة الحقيقة للحقيقة الإلهية ؟ فرسم بذلك لتلميذه النجيب سبينوزا الطريق الفكري الفلسفي الصعب، الذي قاد هذا الأخير إلى نفس الحقيقة الميتافيزيقة و الغارقة في التفكير المثالي.؟ لكن بتميزه العلمي الرياضي الجد الجدلي. هنا أبدع الفيلسوف الهولندي سبينوزا مفهوما جديدا للإرادة الفلسفية تجاوز به أسلافه الفلاسفة، باعتبارهم كانوا يسعون لمعرفة الحقيقة. و لا يمارسون فعل إرادة الحقيقة. إنه إحدى أهم ملامح النسق الفلسفي المختلفة و المبدعة، التي ورثها نيتشه من أستاذه سبينوزا.. حيث أثبت هذا الأخير حقيقة الحقيقة الدينية، بالعقل العلمي الفلسفي. و ليس بالعقل اللاهوتي كما كان سائدا في زمنه الكنسي. هنا نلاحظ قوة " الإرادة " الملازمة دوما للإبداع الفلسفي. في المقابل هنالك مع أفلاطون و ديكارت، و كذلك نسبيا مع كانط، تلاحظ المعرفة المحضة للحقيقة. البحث المكرّس لما هو موجود. أي المدعم للفكر الثابت. فضلنا نعته بالنص الفلسفي المسالِم. و ليس بالنص الفلسفي المخترِق. كما مورس من قبل سبينوزا و نيتشه الثائرين على أوضاعهما الفكرية و الفلسفية و الاجتماعية الحضارية العامة. رغم وجود المشترك الفلسفي المسكون بما هو نقدي، بين جميع هؤلاء الفلاسفة الكبار، فيما يخص مسألة الميتافيزيقا. فكل منهم فكّر فلسفيا بطريقة ميتافيزيقة من نوع ما. باحثا عن نفس الحقيقة. لكن يبقى الاختلاف بينهم كبيرا بخصوص المرجعية الفكرية و الفلسفية المحركة لتفكيره الفلسفي. و يمكننا القول أن السؤال الفكري الجوهري، الذي كان منطلق فلسفة نيتشه هو : هل الحقيقة ثابتة و مطلقة. أم أنها متغيرة و متحولة و انسيابية ؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي الفلسفي، هو الذي أنشأ و أنتج التوجهات الفلسفية العريقة في تاريخ الفكر الفلسفي البشري الطويل.

3- من هنا أدرك نيتشه أنه اكتشف منهجا فلسفيا جديدا. سماه بالمنهج الجينيالوجي. أي ممارسة النقد الإستئصالي الممتد عبر نقد الأصول. و نقد التاريخ الجذري للأحكام القيمية و الأخلاقية البشرية. التي يعتبرها أحكاما و أخلاقا ( تختفي وراء الله ). أي تأويلات عقلانية إنسانية. تحكّم في إنتاجها الشرط التاريخي و الذهني. و ذلك في إطار تفاعلهما الطبيعي مع وجهة نظر كائن طبيعي و اجتماعي هو الإنسان. أي وفق منظوريته. و هي على كل حال عبارة عن تأويلات و تقويمات تتقنع بوجه الله.. لتخفي مدى مأساوية حقيقة العالم و تراجيدية واقع الإنسان في علاقته بمحيطه الطبيعي.

4- فالمعرفة عند نيتشه إذن تعني تفسير العالم. أي الارتكاز أثناء التفسير على السببية و العلية. هذا التفسير الذي يعني عنده فرض النظام على الفوضى. بمعنى أن العالم البشري يعيش في أصله تلك الفوضى. فلماذا عالم الإنسان في فوضى ؟ و لماذا يعيش الفوضى ؟ إنها التراجيديا التي تميز العالم البشري. أي القلق و السؤال و الحيرة و الخوف من المجهول. لكن حين يفسر العالم و الطبيعة التفسير البشري. تجبر معالم تلك الفوضى على الاختفاء. ليحل محلها النظام الذي يتحول إلى سيد على الإنسان. غير أن كل فيلسوف له نظريته في فرض النظام الذي يريده بفلسفته طبعا. دون أن يعرف ذلك النظام معرفة اليقين. نستحضر هنا الشك المنهجي الديكارتي. الذي خطى به خطوة مهمة نوعية في التفكير الفلسفي الحديث. لكنها ظلت مع ذلك خطوة متواضعة. لم تؤثر كثيرا في عالم الفوضى المحيط بها. بمعنى أنه قد يفرض فيلسوف ما نظاما معينا يعرفه، أو يبدو له أنه يعرفه. لكنه قد لا يريده أو لنقل أنها معرفة معينة صيغت من منظور الفيلسوف. و هي الحقيقة التي يثبتها تاريخ الفلسفة نفسه. فالنقد الذي مارسه ديكارت- كما يقال في العادة - كان نقدا يمشي على رأسه. أي يمشي مقلوبا. في حين جعله أو أجبره كانط - معتقدا ذلك – أن يمشي على قدميه. لكن نيتشه يرى عكس ما زعم كانط تماما. يرى أن السلوك النقدي الأخلاقي، في فلسفة كانط العامة، قد وصل إلى مستواه الأعلى من الانحطاط الفلسفي. و اعتبر نيتشه نقده الجينيالوجي المتميز، الأكثر اقترابا من حقيقة النقد الفعال. كما يجب أن يمارس ضرورة، في بيئة علمية و فلسفية و دينية شبيهة ببيئة نيتشه المريضة على جميع المستويات. كانت بيئة كانط أكثر افتقارا و احتياجا للنقد الجذري الثوري النيتشوي. يقول في كتابه " إرادة القوة " : ( من أجل حاجتنا العملية، نحن لا نسعى إلى " المعرفة " لكن إلى التخطيط، و فرض ما أمكن من الانتظام و الصور على الفوضى ). " المعرفة " تعني هنا الفعل و التخطيط. تلك المعرفة التي يجب أن تخدم الحياة. و ليس العكس. يقول أيضا : ( لقد كنا مبدعي تخطيطات، قبل أن نبدع المفاهيم بمدة طويلة ).

5- إن فكرة التمثل في فلسفة نيتشه مهمة للغاية. لأنها مكنته أن يتصور مسالة التغير و التحول و الانسيابية، المتحدث عنها سابقا، بطريقة جعلته فلسفيا يقترب متميزا إلى إدراك حقيقة الأشياء الموضوعية. فالتمثل هنا هو درجة من درجات الوعي البشري. نسجل هنا علاقة فكرة التخطيط النيتشوية، بفكرة التغير و الصيرورة عند الفيلسوف الإغريقي الرائد في فلسفة الصيرورة و الجدل الطبيعي : هيراقليطس ( 535 ق.م – 475 ق. م ). صاحب القولة الفلسفية المشهورة : ( نحن ننزل في النهر الواحد و لا ننزل فيه. فما من إنسان ينزل في النهر الواحد مرتين فهو دائم التدفق و الجريان ).

6- هكذا يضعنا نيتشه أمام العديد من القضايا الفلسفية و الآليات الفكرية، التي تحكم بقوة نسقه الفلسفي الكلي. نذكر منها : فكرة الإدراك و المخيلة. فكرة الحكم و الاستنتاج. و فكرة الاعتقاد و التمثل. و بالتالي فكل هذا النسق الفلسفي النيتشوي المعقد، المرتبط بكل تلك الآليات الفكرية المفهومية المتعددة و المختلفة، يدل دلالة واضحة على مدى الطابع غير المنتهي للمعنى الفكري في نص نيتشه الفلسفي، الذي سيظل منفتحا دوما على تعدد القراءات و التأويلات و المنظورات، وفق ما أبدعه قلمه الانسيابي الشعري و الفلسفي، فيما يخص مسألة العود الأبدي للفكر المتميز و قابليته للحياة المتجددة إلى ما لا نهاية. هنا الصيرورة و التحول هما الحقيقة.

7- هكذا، فالمعرفة عند نيتشه هي نتاج للمنظورية. منظورية الإنسان الناظر. في تفاعله طبعا مع واقعه الحي الظرفي و التاريخي و الحضاري. يعني أن العالم بقيمه و أخلاقه و أفكاره و أحاسيسه و عنفه و أحلامه.. هو عالم الإرادة و التأويل و التقويم. إرادة و تأويل و تقويم الإنسان. سواء كان فردا أو جماعة. عشيرة أو قبيلة أو دولة. العالم هو بمثابة نص علامات. تُقرأ من منظور القارئ الذي يقرأها. أي يعيشها لكي يحيا الحياة. يعني علاماتُ عالم إنساني تُأول و تُقوّم من قبل إرادة. و ليس صدفة. يقول نيتشه: ( إن كان لكلمة " معرفة" معنى ما، فإن العالم قابل للمعرفة، و لكنه عالم قابل للتأويل بطرق مختلفة، و ليس له معنى واحد جاهز فيه بل له معان عديدة لا تحصى – تلك هي المنظورية ).

8- كما أن نيتشه كان تعامله مع مفهوم الإرادة، في علاقتها مع مفهوم آخر جديد. نعني به مفهوم القوة force. فنكون هنا بصدد مفهوم مركب للإرادة. إرادة القوة لا تكتمل إلا في علاقتها الجدلية بإرادة قوة أخرى مضادة. إذن بالنسبة لنيتشه لا يمكن أن تمارس القوة، إلا على أساس قوة مختلفة مضادة. باعتبار أن مفهوم إرادة القوة، كما استعمله نيتشه يتضمن نقيضه المضاد. أي نحن هنا أمام إرادة تحكم. و إرادة تخضع لحكم الأولى ضرورة. بمعنى قوة مهيمنة على قوة مهيمن عليها. خاضعة و مطيعة. لهذا، فلا يمكن أن تُمارس الإرادة باعتبارها قوة مهيمنة، إلا على أساس قوة أخرى مختلفة مهيمن عليها. و ليس على أساس قوة المادة. أي الأشياء. نستحضر هنا الإطار الواقعي الذي اعتمده نيتشه، لتأكيد وجهة نظره الفلسفية تلك. نعني بها جدلية العلاقة بين الأسياد و العبيد. فقوة الأسياد لا معنى لها بدون أن تمارس على قوة العبيد المهيمن عليها. و إذا أردنا ترجمة كلمات نيتشه إلى لغتنا العصرية، يمكننا الحديث عن جدلية علاقة صراع، بين قوة الأغنياء الحاكمين ( في العالم – في الدول ) و قوة الفقراء المحكومين و الخاضعين لطغيان الحاكمين. بمعنى أن نيتشه هنا يؤكد على صراع القوى. الذي هو في عمقه صراع طبيعي. الذي تحول في العصور المدنية إلى صراع طبقي. أي صراع بين إرادة. سلاحها الوحيد هو القوة. لهذا كان الحكم نصيرها و الهيمنة حليفتها. في المقابل سقطت الإرادة المضادة، أو المفروض أن تكون مضادة، و المفتقدة لسلاح قوة الإرادة الأولى، في فخ الضعف و الخوف و الخضوع و الطاعة ..إلخ تلك القيم الانهزامية التي سمّاها نيتشه بأخلاق العبيد. و تحولت مع التكرار كما يقول دولوز.. و نتيجة للصيرورة و التاريخ، لسلاح يدعم قوة الإرادة القوية. يعني قوة الأسياد. ضد العبيد و الصغار و الشعوب. لكن يبقى استثناء مهم هنا. و هو أن إرادة العبيد أو الفقراء أو الشعوب- في تاريخ الأمم - تخفي بشكل طبيعي سلاح القوة ضمنا. يعني أن القوة الفعلية للإرادة المضادة، ضرورة، رهينة بوعي الفقراء بسلاح تحريرهم من الطغيان المكبل لقوة إرادتهم. و من هيمنة قوة الإرادة الحاكمة و المستبدة. و هو الأمر الذي تعيه جيدا هذه الأخيرة. فتحارب أسباب و شروط وجوده و اندلاعه. و من أهم أسبابه الأنظمة التعليمة و قيم العلم و الفكر. باعتبار أن إرادة القوة هي إرادة الحياة. كما يقول نيتشه نفسه. و لا حياة لمن لا يريد الانفلات من قيود الضعف بالفكر. و التمرد على قيم الهيمنة و الاستعباد باعتماد قيم العلم و التعليم.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رثاء نيتشه
عبد الله اغونان ( 2012 / 6 / 19 - 04:01 )
مسكين نتشه حدثنا عن فلسفة القوة ومات ضعيفا معتوها دون حب ولاقوة
خذوا منه العبرة
ولاحول ولاقوة الابالله


2 - قوة الفكر هي الأهم.. عند نيتشه
محمد بقوح ( 2012 / 7 / 19 - 02:31 )
العبرة تكون بقوة الفكر الفلسفي الذي تركه فيلسوف الإرادة الإنسانية.. و ليس بضعف الجسد و لا حتى بزواله. الخلود للإبداع
مودتي

اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تفض بالقوة اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة


.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: مسودة الاتفاق بين حماس وإسرائيل




.. جيروزاليم بوست: صحفيون إسرائيليون قرروا فضح نتنياهو ولعبته ا


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. فلسطيني يعيد بناء منزله المدمر في خان يونس