الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضريح الولي والميت كلب

طريف سردست

2012 / 6 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في صغري كنت اسمع رواية شائعة، لاادرى مدى الحقيقة فيها، كنت اعتبرها نكتة، كانت تتحدث عن شخصين مسافرين مع حمارهم. في الطريق يموت الحمار فيدفناه ويذهب كل منهما في طريقه. في السنة التالية كان احدهم يمر من المكان نفسه فشاهد ضريح وعليه اعلام فدخل اليه ليجد صاحبه القديم جالسا وهو يضع لفة على رأسه وقد اصبح راعيا الحضرة ويأتيه الزوار بالتبرعات والاضاحي. عندما طلب منه تقاسم التبرعات رفض صاحبه وهدده انه سيجلب على نفسه انتقام الولي. فأجابه:" تقصد الحمار الذي دفناه سوياً"؟".
وعند بحثي في غوغول مستخدما كلمة " ضريح حمار" ظهرت لي العديد من القصص الجديدة في هذا الشأن. غير ان قصة مماثلة ، حقيقية، موجودة في التراث المسيحي الاوروبي. والفرق بين قصصنا وقصصهم هو الفرق بين الماضي والحاضر.

فترة طويلة بقيت الكنيسة ترسل دعاتها في انحاء اوروبا، لمحاربة بقايا الاديان والاعتقادات والتقاليد القديمة. كان الرهبان الدومينيكان والفرنسيسكان يلعبون دور يشابه دور " هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" الوهابية وأتباع الحسبة والدعاة في العصر الراهن. كانوا ذراع الكنيسة الكاثوليكية. حوالي عام 1231 أوكل اليهم البابا غرغيوريوس التاسع مهمة " التفتيش". كان من واجبهم التجول والتأكد فيما إذا كان الفلاحون مسيحين جيدين ام انهم يمارسون الخرافات وامور تتعلق بعقائد قديمة.

الراهب الدومينكاني Êtienne of Bourbon من ضمن المكلفين بالتفتيش ، لم يصدق أذنيه وهو يسمع المرأة العجوز تروي بأيمان كامل عن المعجزات التي كانت تجري في الغابة خارج قرية فرنسية تسمى Villars-les-Dombes. الكثير من النساء كانوا ينصتون للرواية ويؤكدون ان الامهات كن يرافقن اطفالهن المرضى الى حد خطير وعند الوصول الى الحرش كانوا يعقدون قطعة قماش من ملابس الطفل على شجرة من الشجيرات. أما إذا تركت الام طفلها ايضا هناك، وعادت اليه بعد بضعة ايام، فأنه سيشفى بمعجزة بفضل سانت غوينيفورت (Sankt Guinefort), حيث كان ضريحه هناك.

هذه القديسة كانت مجهولة تماما لدى الراهب الدومينكاني، والرواية ينضح منها رائحة الخرافة، التي جاء للقضاء عليها. لهذا السبب شعر ان من واجبه ان يقوم بالمزيد من الاستطلاعات. بعد بضعة ايام من البحث تكونت لديه صورة عن مجرى الاحداث. يكتب الراهب الدومينكاني في تقريره قائلا" في البداية أعتقدت ان الكلام يجري عن قديس انسان، لذلك استمريت بسؤال الناس. في النهاية فهمت ان الامر يدور عن كلب". (De Supersticione).

حسب سكان قرية دومبس فإن الكلب (القديس) غوينيفورت قتله ، بدون ذنب او سبب، صاحبه الذي ينتمي الى النبلاء. عندما كان النبيل في رحلة صيد بقي الكلب في البيت يحرس ابن النبيل الذي كان طفلا يستلقي في سريره. عندما عاد النبيل الى البيت رأى على فم الكلب دم. من رعبه وغضبه سحب سيفه وقتل الكلب بضربة واحدة إذ انه أعتقد ان الكلب قد قتل الكلب. غير ان الطفل كان سليم والدم جاء من افعى قتلها الكلب ليحمي الطفل. النبيل خجل مما فعله وقام بدفن الكلب المخلص في بئر قديم وزرع حوله الورود، ورفع عنده لوحة تذكارية.

لم يطول الوقت حتى بدأ الناس يحضرون الى الضريح لقراءة الدعوات. كانوا يعتقدون بقوة ان هذه الدعوات ستعطي اطفالهم الصحة. لقد كان غوينيفورت، في أعينهم، حامي الاطفال.

كانت القصة مثيرة للاعجاب ولكنها لم تؤثر في الراهب الدومينيكاني الذي كان مصرا على إقتلاع رأس الكفر. حسب معتقدات الكنيسة الكاثوليكية، يمكن للبشر وحدهم ان يكونوا اولياء، وليس الحيوان. لذلك قام الراهب المحتسب بأمر صاحب الارض بقطع أشجار الحرش في منطقة الطقوس. احجار ضريح الولي الكاذب جرى هدمها وتم نبش القبر واخراج جثمان الكلب وحرقها. وكل من جازف بالاستمرار بزيارة المكان يتعرض للغرامة الثقيلة أو مصادرة املاكه.

كان الراهب الدومينكاني فخورا بالانجازات التي قدمها للعقيدة وعاد عام 1262 الى مدينة ليون، معتقدا انه تمكن من إنتزاع الايمان بالقدس المزيف من قلوب الناس. غير ان الكاثوليك في جنوب اوروبا استمروا بالايمان بالولي الصالح الكلب غوينيفورت.

بسرعة نسيت الكنيسة طقوس تقديس ضريح الكلب في حين ان الفلاحين الفقراء، لم يتمكنوا من نسيان العمل النبيل للكلب، الذي اصبح رمزا في صراعهم مع جوع وموت الاطفال الرضع.

في منطقة Villars-les-Dombes كانت تنتشر الاراضي المغمورة بالماء والبركات تسمح بتكاثر البعوض وانتشار الملاريا. في الواقع ان غمر اراضي الفلاحين بالماء كان بنتيجة نشاط احد النبلاء الذي رغب برفع مستوى المياه ليتمكن من انتاج اسماك من اجل بيعها في فترة الفصح المسيحي، لكون الصيام يحرم عليهم اكل اللحم ولكن ليس أكل السمك. هذا الطمع لدى الاغنياء أدى الى انتشار الامراض والمجاعة تضرر منه بالدرجة الاولى اطفال الفقراء في المنطقة.

غير ان سمعة غوينيفورت على شفاء الاطفال المرضى انتشرت بسرعة الى بقية اطراف فرنسا. في القرن الثالث عشر اندمجت رواية الكلب المخلص غوينيورت مع أسطورة عن أنسان برأس كلب غونيفورتو Guniforto, وهي اسطورة عن قديس حقيقي تعترف به الكنيسة وكان قد مات بسهم. على مدى المئة عام اللاحقة كان يجري الدعاء لغونيفورتو-غوينفورت في كنائس فرنسا الجنوبية وفي مدن بافيا وميلانو الايطاليتين. كان الاعتقاد ان هذا القدس الصالح فعال على الاخص في مكافحة الطاعون.

فقط منذ عام 1879 ارتأى المؤرشف الكنسي لويس اوغسطين فايسليريه Louis Augustin Vayssiêre, ان من الضروري إعادة النظر في خلفية هذا القديس. لقد عثر على الوثائق التي كتبها المُحتسب الدومينيكاني ايتينيه وقرر إعادة دراستهم. كان اهتمامه نابع من كون الاحداث جرت في المنطقة التي ينتمي اليها. وبعد التدقيق ظهر له ان الفلاحين في المنطقة لازالوا حتى الان يذهبون للدعاء الى ضريح الولي، عالمين انه في الاصل كلب. فايسليريه آشار الى ان ذلك ممارسات جاهلية بوضوح " السكان يمارسون عبادة اصنام".

سيعتقد المرء ان الكنيسة ستقوم على الفور بإدانة "الخاطئين" ولكن ماحصل هو العكس تماما. عام 1886 كتب الخوري J. Delaigue مداخلة استنتج من خلالها ان المحتسب الدومينيكاني أخطأ في حقيقة الامور وجرى خداعه.

حسب الخوري ديدلاغو كان هناك بعض المازحين الذين ارادو ان يضحكوا قليلا فأقنعوا المحتسب الدومينيكاني ان الحجاج كانوا يتوجهون بالدعاء لكلب. بمعى اخر فالحجاج لايمكن ان يعتبروا خطاة لانهم، في حقيقة الامر، كانوا يتوجهون بالدعوات الى انسان. بل ويجب بناء كنيسة فوق الضريح الشريف حتى يتاح للمؤمنين بالقدس سانت غوينيفورت ان يهنئوا ويزداد عددهم، حسب اقتراح ديلاغو.

لم يجري بناء كنيسة، ولكن التيار بقي قويا. حتى بدايات القرن التاسع عشر كانت النساء لازالن يأتين الى الضريح للدعاء طالبات شفاء اطفالهن الرضع. كانوا يلقون بقطع نقدية مالية على الضريح تماما كما يحدث اليوم على اضرحة الائمة. كما كانوا يضعون احذية اطفال على الضريح على أمل ان يساعد ذلك على نمو الاطفال الى مرحلة المشي.

حوالي عام 1930ماتت طقوس عبادة الكلب، على الاغلب بسبب تغير مستوى الحياة في المنطقة وبقية اوروبا، وأضمحلال امراض الاطفال الى حدود دنيا. اليوم، في اوروبا، لم يعد الفلاحون محتاجون الى عبادة ائمة وقديسين وأولياء من اجل جلب السعادة لهم وحمايتهم من الفقر والكوارث وشفائهم من الامراض.

في الواقع عبادة غوينفورت ليست عبادة الكلب الوحيد في تاريخ ايقونات الكنيسة الكاثوليكية، إذ توجد عبادة اقدم منها، تعود الى القرن المئتين. قبل ان يتحول القديس سانت كريستوفير Sankt Kristoffer, الى المسيحية كان، حسب الارثوذكسيين (اصحاب العقيدة الصافية) شخص بطول مترين ومن آكلة البشر وله رأس كلب. حسب الاسطورة قرر كريستوفر ان يخدم السيد الاعظم بين الجميع. في البداية ذهب الى الملك الذي كان يعتبر اكبر الملوك. غير ان كريستوفير اصيب بالخيبة عندما علم ان الملك يخاف من الشيطان. لذلك ذهب الى الشيطان لعرض خدماته، على إعتبار انه الاقوى. ولكن ظهر ان الشيطان يخاف يسوع المسيح. لذلك اعتنق كريستوفير المسيحية واصبح يساعد اخوته في العقيدة في عبور النهر. في احدى المرات كان ينقل طفل. في الخطوة الاولى كان الطفل خفيف الوزن، ومع كل خطوة كان الوزن يزداد حتى اصبح لايطاق. لقد ظهر ان الطفل هو يسوع يحمل خطايا البشرية، ليصبح كريستوفر القديس الذي حمل يسوع.

الييزنطيين كانوا يصورون ايقونة القديس كريستوفير وهو برأس كلب. مع الزمن اختفى هذا التصوير واصبحت الكنيسة ترسم ايقوناته برأس رجل وهو يحمل طفل عبر نهر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سيدي طريف
الباشت ( 2012 / 6 / 17 - 19:08 )
الخلاصة أن التاريخ الديني جميعه ما هو إلا تراكمات أسطورية حملنها على رؤسنا زمناً كافيا وحان وقت طرحها أرضا


2 - العنوان هزلي لكنه ضربة معلم
رمضان عيسى ( 2012 / 6 / 17 - 23:18 )
ضريح الولي ، والميت كلب : جذبني عنوان المقال لأنني أحسست أنني أريد أن أبتسم ، ولكنه كان ضربة معلم ، فالأساطير في التاريخ وفي ميثولوجيا الشعوب ترتدي ثوب القداسة ، واذا تجسدت في أشياء ، شجرة ، صخرة ، كهف ، بيت ، فيتحول التقديس لهذا الشيء ، ومن الصعب ازالته من تفكير الناس ، قبل حوالي 70 سنة ، كان عندنا رجل يسير عاريا في الشارع وفي الأسواق ، اسمه - الشيخ علي - وعندما مات دُفن بالقرب من مسكنه ، وصار قبر الشيخ ، وبعده قبر الولي الشيخ علي ، والان تدور روايات عن كراماته ،
بعد الموت تكثر الأساطير عن الأشخاص الذين يتميزون بصفة كأن لم يستطيعوا الكلام بسهولة ،أو يتميزون بضخامة في الجسم ، وكثير منهم أصبحوا أولياء بعد موتهم ، فكثير من الصخور والحجارة وعيون ماء تقدس هذه الأيام لكونها تدور حولها بعض القصص والأساطير مع أنه قد مضى عليها آلاف من السنين ، وصارت زيارتها وسيلة لارضاء الرب ، وللخلاص من الذنوب , أو الشفاء من الأمراض ولو قلت لأحدهم لماذا تفعل هذا ؟ سيقول : هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وأنا أصدقه فالأموات يحكمون الأحياء ولو بالأساطير . ،


3 - قريباً جداً تسقط آخر أوراق التوت عن عورة الأديان
الحكيم البابلي ( 2012 / 6 / 18 - 22:54 )
زميلي العزيز طريف سردست
مقال أكثر من رائع ، شكراً لك
كذلك أشكر السيد ( الباشت ) تعليق # 1 ، فخيرُ الكلام ما قل ودل ، وكان بودي أن أذكر نفس المعنى الذي حواه تعليقه ، لكنه سبقني
لو تتبعنا كل المعتقدات والثوابت والممخرقات الدينية فسنتعجب من كثرة ما هو مسروق أو مُقتبس منها من خرافات وأساطير التأريخ ، وهذا يخص بالذات الأديان التوحيدية ( اليهودية والمسيحية والإسلام ) ، لكن مشكلة الشرق أنه لا يقرأ ، وحتى حين يقرأ فقراءاته محدودة جداً وإنتقائية بحيث لا تزيد أحياناً عن قراءة الكتب المقدسة وما يتعلق بها من كتب تفسير توضيح ، وأسميها : كتب إعماء وتخدير وإستغفال وجهالة
وكم هي صحيحة الملاحظة التي تقول أن كل من قرأ كتب العلم والأدب والثقافة العامة في عمر المراهقة فسينشأ على الغالب علمانياً وديمقراطياً وعادلاً بنسبة كبيرة
شئنا أم أبينا يبقى الإيمان الديني عنواناً للخرافة والجهل ونكران الحقيقة التأريخية التي تُثبت قطعاً أصل الديانات التوحيدية المسروقة أساساً من حضارات وادي الرافدين ووادي النيل ، ولا نعرف كم من الكلاب المطمورة عبد أجدادنا !، لكننا نرفض اليوم أن نكون أضحوكة لمن دفنها أصلاً
تحياتي

اخر الافلام

.. استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال غرب جنين بالضفة الغرب


.. إدارة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تهدد بفض الاعتصام المؤيد ل




.. صحيفة تلغراف: الهجوم على رفح سيضغط على حماس لكنه لن يقضي علي


.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية




.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس