الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم -اللوح المحفوظ- في ضوء العلم الحديث

نافذ الشاعر

2012 / 6 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


للوح كل صحيفة عريضة خشبا أو عظما، تلوح وتظهر فيه الكتابة، لأن لاح يلوح بمعنى ظهر. وهذا هو الفرق بين اللوح وبين الورق الذي يمكن طيه، فميزة هذا اللوح المفتوح أن كل واحد سيقرؤه، فيشيع بين جميع الناس.. لكن عيب اللوح المنشور بين الناس أنه سيكون عرضة للتلاعب والمحو والكشط لكونه مفتوحا على الدوام، ولذلك زاد الله هنا كلمة "محفوظ" عند وصف القرآن الكريم، فقال في لوح محفوظ، أي أن مزاياه أنه سيصل إلى أيد كثيرة، وينتشر انتشارا واسعا، ويقرأه كل واحد، ولكنه مع ذلك سيظل محفوظا من تلاعب المتلاعبين، بمعنى أنه يتميز بميزة الكلام المكتوب على اللوح، ومع ذلك سيظل محفوظا من العيب الموجود في اللوح.
ولتقريب فكرة اللوح المحفوظ نستعير من علماء البيولوجيا تعريفهم للجينوم البشري، حيث يوصف بأنه الكتاب العظيم، أو الكتاب المجهول، ويوجد في هذا الكتاب حوالي بليون كلمة، أو ما يعادل مليون صفحة، وكيف يمكنك أن تتصور كتابة هذه الصفحات في حيز ضيق هو نواة الخلية، الذي لا تتجاوز أبعاده بضعة ميكرونات.. (علما بأن السنتيمتر الواحد يساوي 10 آلاف ميكرون) وهذه الموسوعة الضخمة يمكن تقسيمها إلى 23 جزء، وكل جزء منها يسمى كروموزوم..
فالخريطة الوراثية لكل شخص مكتوبة داخل نواة الخلية، وفي حال فهم الخريطة الجينية، سوف يمكن فهم الآلية التي تعمل بها مورثاتنا، وسوف يتم تزويد كل شخص ببطاقة خاصة تحمل سيرة حياته المستقبلية، وما يعتريه من أمراض واختلالات، وفي أي عُمر سوف تصيبه الأمراض في المستقبل، بل وفي أي عمر يحين موته..
والخريطة الوراثية المكتوبة في نواة الخلية ليست مكتوبة بكلمات وحروف، وإنما مكتوبة بطريقة رقمية في سلاسل طويلة من السكر والفوسفات تسمى جزيئات (د.ن.أ) وهي تشبه طريقة الكتابة في الأقراص المدمجة CD حيث تُخزن المعلومات أو الموسيقى بلغة رقمية هي الواحد والصفر، ثم تقوم دوائر خاصة في مشغل الأقراص بقراءة ذلك التيار الساري من الأصفار والآحاد؛ لتحوله إلى نبضات الكترونية، ومن ثم تتحول إلى لغة مكتوبة..
هذه اللغة الرقمية في نواة الخلية جاءت إليها الإشارة بقوله تعالى:(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ) (المطففين:9) فكأن هذه الجينات أو المورثات سجن أو سياج يحصر سلوك الشخص في داخله فلا يستطيع تخطيه أو تجاوزه، كما يحصر السجن السجين بين جدرانه..

فهذه الخريطة الجينية هي بمثابة اللوح المحفوظ الذي خُط فيه قدر الإنسان، وهذا مثل تقريبي لتصور اللوح المحفوظ، الذي حُفظ فيه قدر الكون، والكون لابد صائر إلى قدره الذي خط له، فاللوح المحفوظ بمثابة قاعدة بيانات لنظام الكون، وهو يسير وفقا للبيانات المبرمجة فيه، وليس معنى الكتابة في اللوح المحفوظ أنها كتابة عربية أو لاتينية أو سريانية، إنما هي بيانات وثيقة الصلة بهذا الكون كالصلة تماما بين الإنسان وجيناته، فالعلاقة بين اللوح المحفوظ والكون علاقة عضوية حية...
وهذا ما جاء إليه الإشارة بقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ، إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)
وهذا ليس معناها الجبر وسلب حرية الاختيار، كلا!.. فهناك حرية متاحة للإنسان، وبالرغم من ذلك كله فإنه يستطيع أن يختار بين البدائل، لأن أي استبطان بسيط للذات يكشف أننا لا يجب أن نفعل أمرا دون أمر آخر، فنحن قادرون أن نفعل الخير، وقادرون كذلك أن نفعل الشر بمحض إرادتنا، فنحن قادرون أن نعلو فوق حتمياتنا الوراثية..
فاللوح المحفوظ يؤثر فينا ونحن نؤثر فيه كذلك!..، وكما نحن نفعل ما كتب لنا فيه، كذلك نحن نكتب فيه أفعالنا، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39)
إن المعاصي التي يرتكبها الناس لا تنتهي بموتهم أو بتوبتهم، وإنما تجلب الشؤم عليهم وعلى الأجيال اللاحقة لهم من بعدهم؛ لأن للمعصية شؤم لابد أن ينزل بمرتكبها، وقد خط عليها الثمن خفيا.. فالمعصية التي يقترفها الناس تكتب في سجل الكون وتنحت فيه كما تنحت الكتابة في الصخرة الصماء؛ فتزداد مع الأيام في الدرجة والنوع، وتزداد مع التكرار رجسا وشرا، وإلى هذه الكتابة جاءت الإشارة بقوله تعالى: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)(يونس21)
والمقصود بالرسل في الآية جند الله في الكون.. ومعنى (يكتبون) يعني يجعلوه مبدءا كونيا وسنة طبيعية تندمج في فطرة الناس وعقولهم، وتنطبع في قلوبهم ونفوسهم، وتصبح سهلة الاقتراف، تتراءى للإنسان في حله وترحاله. فإذا اقترفها الإنسان فإنها تكون بمثابة جرح في جسم الإنسان تبقى آثاره حتى وإن التئم هذا الجرح وتم برؤه وشفاؤه. فإذا جُرح مرة أخرى في نفس الموضع سوف يزداد الألم ويتضاعف العذاب؛ لأن الألم عند ذاك سيكون ألم الجرح القديم مضافا إليه ألم الجرح الجديد، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالي: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(الجاثية21) وقوله (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)(الأنعام60).

ومعنى (يكتب) في قوله تعالى (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) أي يثبتوه ويجعلوه حقيقة واقعة في الكون يتعلمها الناس كما يتعلمون الاكتشافات الجديدة.. فكل معصية يقترفها الإنسان لأول مرة في الكون تكون بمثابة اكتشاف واختراع، ومن ثم تصبح شيئا عاديا وأمرا طبيعيا شائعا بين بني الإنسان، لكنها تكون أمعن في التعقيد والخفاء مع مرور الزمن، ومن ثم تزداد سوءا إلى سوء بكثرة الاقتراف والشيوع، كما قال تعالى {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون}الروم10.
فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى معصية (الجحود)، كأن يبتلى الإنسان بمصيبة، فيسارع إلى التضرع والدعاء، فإذا كشف الله عنه تلك المصيبة سارع إلى الجحود والكبرياء، وربما سارع إلى المكر والدهاء أكثر من ذي قبل.. ويضرب الله بذلك مثلا الرجل الذي يكون في خضم البحر فيأتيه الموج من كل مكان فيدعو ربه مخلصا له الدين لأن أنجاه من هذه المحنة ليكون من الشاكرين، فإذا نجاه من هذه المحنة عاد إلى الفساد والعصيان بصورة أخبث وأشد، وإلى هذا جاءت الإشارة بقوله تعالى: َ(وإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ، وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم، مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس21-23)
وقريب من هذا المعنى، معنى رسوخ المعاصي كمبادئ بعد ارتكابها؛ قريب من هذا المعنى رسوخ الأفكار التي يضمرها الإنسان في نفسه قبل النوم مباشرة، فالإنسان تنطبع في نفسه الأشياء الذي كان يفكر فيها قبل النوم، فإذا وضع رأسه على الوسادة وهو يفكر في شيء ونام، فإن هذا الشيء هو أول شيء يتبادر إلى ذهنه عند اليقظة من نومه، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: (وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ)(النساء 81) ومعنى (يكتب) أي يثبته كحقيقة واقعة حسب ما نوى وبيت وعزم وقرر.. لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي المسلم بأن يوتر قبل أن ينام، وينام على طهارة وهو يتلو بعض الأدعية والأذكار.

ويوضح معنى "يكتب" أيضا حديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ (دَعَتْنِى أُمِّى يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِى بَيْتِنَا فَقَالَتْ تَعَالَ أُعْطِيكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ». قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ) ومعنى كتبت عليك كذبة، أي أنك إذا لم تعطه التمرة التي وعدتي الصبي بها، لكتب انطباع في نفس الطفل أن أمه كاذبة، وهذا الانطباع في نفس الصغير سوف ينقش في قلب الصغير فلا يمحي أو يزول من نفسه بعد ذلك أبدا!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حديث نبوي ينفي فكرة المقال
حكيم فارس ( 2012 / 6 / 22 - 11:37 )
السيد الكاتب المحترم ان محاولة التوفيق بين فكرة هل الانسان مسير ام مخير لحل التناقضات الناتجة عن الكتابة المسبق باللوح المحفوظ هي مجرد محاولة لانقاذ النص مما يحتويه من متناقضات ولا يمكن اعنماد فكرة ان الانسان مخير بظل الاصرار على الايمان بوجود الكتابة المسبقة باللوح المحفوظ واليك الحديث التالي
حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق ، قال : إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ، ويقال له : اكتب عمله ، ورزقه ، وأجله ، وشقي أم سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع ، فيسبق عليه كتابه ، فيعمل بعمل أهل النار . ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3208
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]


2 - حديث نبوي ينفي فكرة المقال
حكيم فارس ( 2012 / 6 / 22 - 11:55 )
من الحديث الذي اوردته في التعليق السابق فهو ينفي امكانية اضافة مكتوب جديد او الغاء مكتوب سابق مهما فعل الانسان كما استشفيت من فكرة المقال وهذا واضح عندما يقول حول الشخص الذي كتب له النار منذ ان كان جنين بانه مهما عمل وتعبد واصبح بينه وبين الجنة ذراع فيسبق كتابه ويقوم بعمل من اعمال اهل النار كي يتحقق ما كتب له اليس كذلك ارجو الاجابة


3 - ساحاول الاجابة على هذا الحديث في المقال القادم
د.نافذ الشاعر ( 2012 / 6 / 22 - 14:13 )
اشكرك حكيم فارسي على مرورك ، انا لم ابحث فكرة القضاء واتلقدر في هذا المقال وإنما كانت محاولة حداثية لتقريب معنى اللوح المحفوظ، وسوف أنشر اليوم باذن الله ردا على سوالك حول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إن الانسان يجمع يف بطن أمه..الحديث) ولك مني الشكر

اخر الافلام

.. أزمات إنسانية متفاقمة وسط منع وصول المساعدات في السودان


.. جدل في وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن الخلافات العلنية داخل




.. أهالي جنود إسرائيليين: الحكومة تعيد أبناءنا إلى نفس الأحياء


.. الصين وروسيا تتفقان على تعميق الشراكة الاستراتيجية




.. حصيلة يوم دام في كاليدونيا الجديدة مع تواصل العنف بين الكانا