الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديمقراطية تكره نفسها

أبو العباس ابرهام

2012 / 6 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في المعارك كل شيئ معقول، كما استنتج الضبع في الأحدوثة الموريتانية. و ليست المعارك الانتخابية بدعا من هذا. و لذا ظهرت الحركات الشريعاتية في زمن الانتخابات بلافتة جديدة تقول "الحرية أولا و الشريعة ثانيا".هكذا تمت أنسنة الشريعة من وسيلة للاصلاح إلى غاية لاحقة و ترفية بالنسبة لهذا الاصلاح. هكذا أصبحت الشريعة هي بومة مينرفا التي لا تأتي إلا بعد الغروب.

ولكن شيخ الأصولية، العتيبي، لم يكن مسرورا بهذا التنازل. و خرج بهذا التوفيق العجيب: الحرية المقصودة هي الحرية السياسية، لا الحرية الأخلاقية. العتيبي هو أحد عباد الله النادرين الذين- مثلهم مثل ملالي طهران- ما زالوا يعتقدون أنه يمكن الفصل بين الحرية في السياسية و بينها في الأخلاق. و كان بعض الطالبانيين يعتقدون أنهم يمكن نزع حرية الفرد في الحركة و النوم و تأخير الصلاة و في نفس الوقت المن عليه بالحرية أو علاج رأسه (بطريقة عنترة بن شداد الذي كان يعالج صداع أعدائه بقطع رؤوسهم) في حالة قوله أن النظام القائم (المتلفع بالاسلام) لا يأتي بالحرية.

ما آمن به العتيبي هو إيمان جماعات إسلامية كبيرة لأسباب تتعلق بمنشأها المحافظ. و لكنه ليس حكرا على الجماعات الدينية. و العلمانجية العربية والاسلامية التي ولدت في أجواء محافظة قامت بحماية هذه المحافظة في التواصل العام و بآليات الدولة الحديثة، و بأكثر من جماعات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و جوالة طالبان.

و من الصعب إرجاع كل شيئ إلى التحليل الثقافي و لكن سوريا العلمانية حافظت على فصل الذكور و الإناث في التعليم أكثر مما فعلته الجمهورية الاسلامية الموريتانية. السبب ثقافي دوما: عاشت موريتانيا منذ ما قبل الميلاد في ثقافة أمومية تسمح بتواصل الرجال و النساء بينما عاشت سوريا تحت وصاية الأبوية الدينية و الطائفية. و في المرة الوحيدة التي نجح فيها أصولي موريتاني في تمرير قانون فصل البنات و الذكور من خلال ثانويتي البنات و البنين في نواكشوط فإن المشروع فشل ولم يعد قابلا للتعميم. و ينتظر كشطه قريبا.

و بالعودة إلى فصل الحرية الأخلاقية عن السياسية فإن الموضوع ليس بدعا من بنات أفكار العتيبي أو الجماعات الاسلامية و جنودها السلفيون. بل إنه يكاد يكون كلاسيكيا في تاريخ الأفكار. هنالك من جزم بأنه يمكن السماح بالحرية السياسية و الحجر على التحرر الأخلاقي. توما الأكويني و القديس أغسطين كانا مثالين. و الكنيسة كانت أكثر طموحا: لم تعط حرية سياسية أو حرية أخلاقية. و لكن ممالك شبه كنسية سمحت بالأمر. و الحقيقة أن الاصلاح اللوثري (ثورة في الواقع، حسب جاك برزان) ما كان يمكن أن يحدث في إلا في وجود دولة حرة سياسيا و غير حرة أخلاقيا. فقد سمح فريدريك، ناخب ساكسونيا، المتنور بأن يواصل لوثر نقده للكنيسة دون أن يتعرض لأذى سياسي إلى أن اختطفه شارل الخامس بمجموعة من الفرسان المتنكرين كما تختطف الشرطة الموريتانية أو النظام السوري الطلاب و الناشطين.

ولكن في المقابل كان هنالك من اعتقد أنه يمكن أن تحدث حرية أخلاقية بدون حرية سياسية. و لا شك أن علمانويات بائسة قامت بهذا من أتاتورك إلى بن علي. و لكن الأمر قديم فلسفيا أيضا فقد اعتقد أرسطو ، بل نظَّرَ و دعى، إلى نظام سياسي ديكتاتوري يقهر المواطنين و يراقبهم و يشن الحروب لا لشيئ إلا لإشغال المواطنين و إلهاءهم عن السياسية. و لكنه اعتقد أن نظاما كهذا يجب أن يضمن حرية الفكر ة الثقافية. و لقد نسي أرسطو أنه في نظام أرسطي لا يمكن أن يظهر أرسطو، تماما كما لا يمكن أن يظهر أفلاطوون في مدينة أفلاطون أو فرويد في العالم الفرويدي لأنه ما إن يوجد نظام من الديكتاتورية المثقفة حتى يلغي وجود المثقفين أنفسهم. يحتاج إلى وجودهم و لكن مصلحته القضاء عليهم، تماما ككتاب فيتغنشتاين الذي لا يقرأه المرأ و يفهم معانيه إلا لمعرفة أنه بلا معان. (الدليل على هذا هو أن الاسكندر الأكبر نذر بأرسطو لو أمسك به، لولا أنه انشغل بغزو الهند. و في غضون ذلك أمسك الاسكندر بالفيلسوف الذي خلف أرسطو و وضعه في قفص متجول ثم رماه للأسود).

إن الفصل بين الحرية الأخلاقية والحرية السياسية ليس إلا نكتة عتيبية فماهي الحرية السياسية في النهاية؟ أليست أخلاقا؟ إن كل ما يصل إلى مقام الرغبة أو حتى الوعي العام يصبح سياسة. و ليس صدفة أن الديمقراطية اليونانية لم تكن ديمقراطية إلا في الأساطير الحداثية (التسي تسللت إلى دستور الاتحاد الأوربي) ففي العهد اليوناني كانت مفهوم الديمقراطية مناقضا لمفهوم الحرية. و الأمر واضح في توصيفات بريكليس و ثوكيدس. و كما يبين لوسيانو كانفورا الذي أعاد الزيارة إلى الديمقراطية اليونانية فإن الديمقراطية الحقة لم تتحقق إلا لاحقا بإدماج الحرية الاجتماعية و الضمانات الاجتماعية في نظام قائم. لقد عرفت هذه التقاليد بالاشتركية التي التهمها ستالين ذات صباح. و في غير هذا فإن الديمقراطية التمثيلية ظلت تأكل من معاني الديمقراطية بديكتاتور جيد و فعال هو السوق.

نعم السوق، معبود فوكوياما. و في الديمقراطية الاسلامية التي تظهر الآن في العالم العربي فإن هذا الديكتاتور هو السوق المتحالف مع الورع البرجوازي و القروي. في مصر، صاحبة أكبر مشروع إسلامي مدني أظهرت النتائج الانتخابية في أول انتخابات ديمقراطية (موصوفة غباء بأول انتخابات منذ 7000 سنة و كأن للديمقراطية هذا العمر التوراتي) أن الناخبة الاسلامية تتمركز في الصعيد المحافظ فيما يقع غرماؤها في الدلتا و مناطق الانفتاح البحري. و في تاريخ أندونيسيا نجحت الأصولية الاسلامية ممثلة في حركة "نهضة العلماء" الأصولية المحافظة (التوصيف قادم من إسلامي سياسي تربى في الحركة و قادها هو عبد الرحمن وحيد) في القضاء على أكبر حزب شيوعي خارج الكتلة الشرقية في منتصف الستينيات. و قد قامت الحركة الأصولية باستخدم أحكام قتل الكفار و المرتدين في قتل اليساريين بالتعاون مع سوهارتو و السي آي أيه و الموساد (انظر الكتاب الهام في الموضوع لروبرت هفنر المعنون "الاقتصد السياسي لجبل جافا: تاريخ تأويلي"). و هكذا في خمسة اشهر قضت الأصولية المحافظة من ملاك الأراضي علىنصف مليون يساري. (بقي عبد الرحمن وحيد الذي تمرد على أصولية نهضة العلماء حليفا للموساد حتى وفاته).

و من الخطأ الاعتقاد أن الديكتاتورية هي مسألة ثقافية. حاشا. و ليس المقصد هو القول أن البحر مكان الحرية و أن الصحراء أو الجبال مكان الانغلاق. هذا توصيف لم يجرأ عليه حتى جارد دياموند. ما أود أن أشير إليه أنه يمكن قياس الدمقرطة بخصوبة المجتمع المدني و تنوع أنماط الانتاج. و لا شك أن الانتقال الديمقراطي يواجه دوما تحدي الثقافة الاحتكارية للسياسية (و في مصر أظهر كل من المجلس العسكري و الاخوان المسلمون نزوعا واضحا إلى احتكار السلطة). إن الديمقراطية التي لا تتحرر من الوصاية الميكروثقافية و نزعات المجموعات الانغلاقية إلى فرض تصورها للحياة الرشيدة سوف لن تكون ديمقراطية إلا بالمعني الذي فهمه بريكيلس و هو أنها مناقضة للحرية. و من سوء حظ الديمقراطيات العربية في ألفيتنا أنها سقطت في أيدي الثقافة السياسية المعادية للديمقراطية فلسفيا و مصلحيا. في اليمن وصل النظام القائم إلى السلطات بأكثر انتخابات شرعية في تاريخ العرب و لكنه لم يقدر حتى على حل مشاكل المجاعة (هذه قضايا ديمقراطية من منظور الديمقراطية الشعبية). و في العراق تقوم ديمقراطية المالكي بقتل و تشريد مالم يقتله صدام حسين في كل عقوده الطويلة.و لم تفلح ديمقراطية تونس الوليد في لجم السلفية وهيئات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الالتزام بالعقد الديمقراطي و التوقف عن فرض تصوراتها الاجتماعية على الآخرين. و في مصر تتقاتل ديكتاتوريتان على ديمقراطية بريكليسية.

ما زال للديمقراطية قضية عندنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran


.. 72-Ali-Imran




.. 73-Ali-Imran