الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: الفاتحة (1/5)

السيد نصر الدين السيد

2012 / 7 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم يكف الإنسان، منذ أن وعى بوجوده، عن محاولة فهم وتفسير ما يدور حوله من أحداث وما يتبدى من ظواهر فى الواقع الذى يعيش فيه سواء كان هذا الواقع واقعا طبيعيا أو واقعا إجتماعيا، وعن محاولة تغييره لصالحه. وهى المحاولة التى عادة ما تبدأ بطرح مجموعة من الأسئلة التى تشكل إجاباتها ما يعرف بـ "الرؤية الكلية" Worldview. ولـ "الرؤية الكلية" التى يتبناها مجتمع ما، كأساس لثقافته، ست مكونات هى: "نموذج الحاضر"، نموذج الماضى"، "نموذج المستقبل"، "نظرية القيم"، "نظرية الأفعال"، "نظرية المعرفة"(السيد, 2010).

وأول هذه المكونات هو "نموذج الحاضر"، أو "المكون الأونتولوجى"، يتعلق بتصور أفراد المجتمع لطبيعة الواقع الذى يعيشون فيه. ولايقتصر مفهوم الواقع هنا على العالم المادى بل يمتد ليشمل الواقع المعنوى بما يتضمنه كيانات وعلاقات إجتماعية. ويتشكل هذا المكون من إجابات على أسئلة من قبيل: ماهى طبيعة العالم الذى نعيش فيه؟ وكيف يعمل؟ وماهى طبيعة العلاقات بين الموجودات؟ ومن نحن؟ وهى كلها أسئلة عما هو كائن بالفعل أى عن "الحاضر". وثانى مكونات الرؤية الكلية هو "التفسير" Explanation، أو "نموذج الماضى"، الذى يتشكل من إجابات على أسئلة من قبيل: من أين نعيش فيه؟ ولماذا أتى العالم الذى إتخذ شكله الموجود عليه وليس شكلا آخر؟ ومن أين أتينا؟ أى أنها الأسئلة التى تدور حول "أصل وفصل" الإنسان والكون الذى يعيش فيه. وتمثل إجابات هذه الأسئلة محاولة تفسير الإنسان لما يدور حوله من أحداث. وإذا كان أول مكونات الرؤية الكلية عن "الحاضر" وثانى مكوناتها عن "الماضى" يصبح من المنطقى أن تكون ثالثة مكوناتها عن "نموذج المستقبل" أو عن "التنبؤ" بأحداثه لتكتمل بذلك حلقات مسيرة الإنسان من الماضى إلى المستقبل عبر الحاضر. لذا تعتبر إجابة الإنسان على سؤال "إلى أين نحن ذاهبون؟" أو "ماهو مصيرنا؟" أهم العناصر التى يتشكل منها هذا المكون. ويتعلق المكون الرابع بـ "نظرية القيم" (أو الـ "أكسيولوجى" Axiology) ويتكون من إجابات الإنسان على الأسئلة الأساسية التالية: ماهر الخير؟ وماهو الشر؟ ولماذا هذا الشيئ خير؟ ولماذا هذا الشيئ شرير؟. وتعتبر الإجابات على هذه الأسئلة بمثابة الأهداف التى يسعى الإنسان لتحقيقها وتمنحه معنى لحياته كما تعتبر بمثابة المحددات الهادية لأفعاله. وإذا كان المكون الرابع للرؤية الكلية يزود الإنسان بمجموعة من المفاهيم والأفكار عن مايجب عليه فعله وماينبغى عليه تجنبه فإنه لايحدد له كيفية تنفيذ الأفعال الرامية لتحقيق الأهداف ولاطريقة تنظيمها. وهنا يأتى المكون الخامس ليبين كيفية تحويل الأفكار إلى أفعال فهو عن "نظرية الأفعال" (أو الـ "براكسيولوجى" Praxiology). ونصل فى النهاية إلى آخر مكونات الرؤية الكلية وهو عن "نظرية المعرفة" (أو "الإبستمولوجى") والذى يتعلق بالمعايير التى نستخدمها لتحديد "صدق" أحكامنا وتصوراتنا عن الواقع أو "كذبها".

وبالطبع لايمكن الإجابة على كل هذه الأسئلة دون توفر منظومة ذهنية تقدم للإنسان الأدوات التى تعينه على إدراك معطيات هذا الواقع وتنظيمها فى بنى متسقة وتتيح له إستخلاص ردود مقنعة على هذه الأسئلة. وهكذا لم يتوقف الإنسان عبر تاريخه الطويل عن إبتكار وتطوير وإستخدام العديد من المنظومات الذهنية بدءا من الأساطير ومرورا بالدين وإنتهاءا بالعلم الحديث بشتى صوره. وبالطبع يتوقف نجاح هذه المنظومات، ومن ثم التمسك بها، على أمران. الأمر الأول هو قدرتها على تقديم تفسيرات مقبولة لأحوال الإنسان وأحوال الواقع الذى يعيش فيه. ومن الجدير ذكره فى هذا السياق أن قبول ماتقدمه هذه الأدوات من تفسيرات من عدمه يرتبط إرتباطا وثيقا بقدر ومستوى المعرفة المتوفرة لدى الإنسان. أما الأمر الثانى فهو قدرتها على تقديم حلول فعالة للمشاكل الذى يواجها هذا الإنسان فى حياته. وهكذا يدفع إخفاق المنظومة الذهنية، السائدة فى فترة ما، فى أى من هذين الأمرين أو فى كليهما الإنسان لتطويرها أو حتى إستبدالها كلية بمنظومة جديدة أكثر فعالية.

ولقد شهد تاريخ الفكر الإنسانى العديد من النقلات الفكرية التى إنتقلت بالإنسان من منظومة ذهنية إستبان عجزها وظهر قصورها لمنظومة أخرى أكثر فعالية. ولقد شكلت هذه النقلات ملحمة لم تنتهى فصولها بعد. ملحمة رأينا من فصولها حتى الآن أربعة فصول هى:
 منظومة الفكر الأسطورى (الخرافى أو الغيبى)
 منظومة الفكر العلمى التجزيئى (العلم الحديث فى صورته الأولى)
 منظومة الفكر العلمى المنظومى (العلم الحديث فى صورته الثانية)
 منظومة الفكر العلمى اللاخطى أو "علوم التعقد"Complexity Sciences (العلم الحديث فى صورته الثالثة)

أربعة منظومات ذهنية أسهمت، ولاتزال تسهم، فى تشكيل المجتمعات البشرية وتحديد مسار تطورها بدءا من مجتمع "حضارة ما قبل الزراعة" وإنتهاءا بمجتمع "حضارة ما بعد الصناعة" مرورا بمجتمعى "حضارة الزراعة" و"حضارة الصناعة" (السيد, 2006). أربعة منظومات لاغنى عن دراسة مدى إسهام كل منها فى تشكيل الثقافة السائدة فى مجتمع ما ومن ثم قابليته لإستيعاب مقتضيات التطور وتقبل متطلبات التحديث.

المراجع
السيد, ا. ن. 2006. التنوير الغائب القاهرة: دار العين للنشر.
السيد, ا. ن. 2010. ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة. القاهرة: دار المحروسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - امة محمد
بلبل عبد النهد ( 2012 / 7 / 2 - 13:41 )
الامة الاسلامية لا زالت تعيش منظومة الفكر الاسطوري

اخر الافلام

.. قلوب عامرة - د. نادية عمارة توضح ما المراد بالروح في قوله تع


.. قلوب عامرة - د. نادية عمارة تجيب عن -هل يتم سقوط الصلوات الف




.. المرشد الأعلى بعد رحيل رئيسي: خيارات رئاسية حاسمة لمستقبل إي


.. تغطية خاصة | سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال عهد رئ




.. تربت في بيت موقعه بين الكنيسة والجامع وتحدت أصعب الظروف في ا