الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشكلة الوجود الإنساني

نعيم إيليا

2012 / 7 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا نتوخى من حديث اليوم عن الإنسان، بما هو عنصر مادي داخل خلية كونية، أن نقدَّم تصوراً يتغلغل في طبيعته، وما يتفرع عنها من معضلات نفسية، معتمداً على السؤال الشائع: ((ما هو الإنسان؟)). لا ..! فقد رأينا أهل النظر منذ أقدم العصور، سبقوا إلى حدّ طبيعته، وأوغلوا فيها بحثاً واستقصاء وعلاجاً، حتى لم يدعوا للمتأخرين أن يزيدوا على ما انتهوا إليه من أمر ذلك التحديد شيئاً، أو كادوا. ولعلنا نذكر هنا نتفاً من أقوالهم في هذا المضمار، من نحو: إنه خلية في جسد الكون، أو إنه كونٌ صغير، أو إنه حيوان ناطق مركَّب من نفس وجسد تأتلف فيه قوى ثلاث: العقل، المشاعر، الغرائز وفق نسب متباينة، أو إنه عبدٌ مخلوق مسخَّر لخالق، أو إنه عينُ شاهدٍ على الكون، أو إنه عقلُ هذا الكون وجهازه العصبي، أو إنه جوهرٌ طبيعته التفكير، وإنما نتوخى إثارة الفضول حول مشكلة وجود الإنسان في صيغة هذا السؤال: لماذا الإنسان؟
ولا مرية في أنّ الإجابة عن سؤال مصدَّر (بلماذا)، أشدّ صعوبة ومشقة من الإجابة عن سؤال مصدر (بما) أو بغيرها. ومن هنا، فإن الوثوق بنتيجة مأمونة لا يشوبها ريب، تتحصَّل من النظر في مسألة معقدة كهذه المسألة، سيكون ضرباً من الغرور.
هذا، ولا بد في أول الأمر، من التلميح إلى الرأي المقدَّم، الذي يرى أن الغاية من وجود العالم، ومن الحياة عامة، ليست شيئاً آخر غير الوجود، والذي ما تقدّم إلا لارتكازه على قاعدة منطقية صلبة ملاكها أنّ الوجود الكليّ أزليّ؛ وبما أنه كذلك، فإنه قد امتنع أن يُتصوّر معه أن يكون ناشئاً من وجود آخر، أو أن يكون ناشئاً من عدم. فلما كان الأزلي هكذا حاضر الوجود منقطعاً عن الزمان؛ قضى ذلك بألا تكون له غاية غير وجوده الدائم؛ فإنه لو كانت له غاية غير وجوده، لكان مخلوقاً لأجل هذه الغاية، وكانت هذه الغاية سابقة لوجوده حتماً، فيكون مثله في هذه الحالة، كمثل الجنين يتكوَّن في الرحم لتحقيق غاية تسبق وجوده: هي حفظ جينات والديه من الاندثار. أو كمثل الآلة يخترعها الإنسان، إثر أن دعت إليها الحاجة. ولكن الوجود الكلي مبرّأ من أن يكون مخلوقاً؛ فهو إذن ليس له من غاية غير وجوده بذاته ولذاته في حركة مطلقة دائبة لا بداية لها ولا نهاية.
وإذما تكن الغاية من الوجود ليست إلا وجوده، فلا بد من أن تكون جميع موجودات الوجود وأعيانه، وإن كانت حادثة من حركته الدائمة، كالأفلاك: نجومها، كواكبها، ثقوبها السوداء، جسيماتها الدقيقة المضيئة أو المظلمة ...الخ ، وكالحياة المتنوعة على الأرض، وربما على كواكب أخرى، بشتى صنوفها وألوانها وأجناسها وأنواعها: من الخلية الواحدة إلى الإنسان، لا غاية لها أيضاً غير وجودها بماهياتها، وذلك قياساً على مبدأ محاكاة الجزء للكل في خصائصه العامة وأغراضه القريبة أو البعيدة، نحو: يَد الإنسان، فإنها جزءٌ من بنية الإنسان الكلية، وهي تتكوَّن مما تتكون منه بنيته الكلية، ولها وظيفة أو غاية تدعم وجوده الكلي؛ فهي إذاً في وظيفتها الخاصة جزء من الوظيفة العامة للجسد بمجموعه، لا غاية لها غير أن تشارك في تحقيق الغاية الكبرى من وجود الإنسان.
وإنّ الإنسان، لفرع من فروع الحياة: فإذا كانت غاية الحياة بأشكالها المتعددة أو ماهياتها، أن تكون موجودة لغاية الوجود؛ فإنه يلزم من ذلك أن الإنسان، شأنه شأن الحياة، موجود لغاية هي عين وجوده.
بيد أن هذه النتيجة - وإن بدت منطقية معقولة - لا تكتفي بذاتها، ولا تكتسب الإقرار بصحتها، حتى يؤتى لها ببرهان وثيق، اقتداء بما هو شائع من ذلك في القضايا العقلية المشاكلة لها، فهل ثمة من برهان؟
الحق أن البرهان ليس معدوماً، وليس قليلاً؛ بل هو كثير قائم في طبيعة الإنسان وتكوينه المادي والنفسي، وحاضر في حياته العملية. فإنَّ نظرة متأنية شيئاً إلى الإنسان وأحواله، قمينة بأن تستتنبط وفرة من البراهين على سلامة هذه القضية بغير مشقة. فمن ذلك: أن للإنسان مقوماتٍ فطرية تدعى الغرائز، والغرائز كثيرة، منها: غريزة الأمومة، غريزة الدفاع عن النفس، الخوف، الطعام والشراب، النوم، الجنس... الخ. فإن يتحرَّها المرء مريداً العلم بعلة قيامها في تركيب الإنسان، يجد أنها لا تنفك عن كونها وسائل لحفظ وجوده، ودرء الانحلال عن ماهيته:
فلولا غريزة حب الأم لوليدها، وعطفها عليه، وشمولها له بحنانها الثرِّ، ما تمكن الوليد من تحقيق وجوده.
ولولا التزوّد بالطعام والشراب، لجفَّ بدن الإنسان جفوفاً، واستحال في أيام غازاً وتراباً.
ولولا غريزة الجنس، ما كان التكاثر الذي يضمن بقاء الإنسان وووجوده.
ولولا الخوف، لتهوَّر الإنسان أمام الأخطار المحدقة به، فما يبالي بها وهي تتهدَّد وجوده فتبيده.
ولولا غريزة الدفاع عن النفس، لقد أمسى الإنسان عرضة للهلاك السريع.
ومن ذلك أيضاً، أنّ للإنسان حواساً خمساً: الرؤية، اللمس، الذوق، الشم، السمع. وهي ليست عند التحقيق إلا جوارح وأدوات وظيفتها أن تمكِّن الإنسان من التفاعل مع بيئته تفاعلاً حميماً لا استغناء للإنسان عنه ولا محيد، وهو يخوض معركة الوجود بضراوة. فإنّ الرؤية، على سبيل المثال، تتيح له الحصول على الغذاء، كما تتيح له أن يتفادى الأخطار، التي تتربَّص بوجوده الدوائر.
ومن اجتماع الغرائز والحواس والعقل، ومن حركة هذه القوى التفاعلية مع الطبيعة، واندماجها معها في عمليات التأثير والتأثر المتبادلة، تنشأ الأخلاق والأفكار والمشاعر والمعارف، التي تنتهي جميعاً إلى مصب واحد؛ هو وجود الإنسان بما هو موجود.
تأمل نزوع الإنسان إلى التملك والسلطة والصراع على أشكاله، وتأمل التزامه بالشرائع والقوانين والخلائق، وتأمل انقياده لمشاعره، وتحصيله المعارف، وابتكاره العلوم، واختراعه الآلة، فماذا تستجلي من غاية خلف كلّ هذا الركام الوجودي المتخلف عن الإنسان في علاقته مع الطبيعة، غير غاية الوجود للوجود؟
ما المغزى المستفاد من تملك الثروة؟
ما المغزى المستفاد من التضامن والإيثار والاستئثار والشجاعة والكرم والبخل، ومن تحريم القتل أو إباحته، ومن الصدق والكذب، ومن السرقة والاستلاب، ومن الإيمان؟
ما المغزى المستفاد من اختراع العجلة والكتابة، ومن ابتكار الأدوية وأساليب التطبيب، ومن وضع قواعد التفكير، ومن ابتداع النظريات السياسية والعلمية، ومن مزاولة الفنون والآداب؟
ما المغزى المستفاد من الانفعالات الشعورية: من غضب، وحلم، ومودة، ومتعة، وعطف، وحنان، وازدراء، وحقد، ولؤم، ومقت، وحبّ؟
أثمة من مغزى غير مغزى الوجود؟
لا إخال...
ولكن، ماذا لو أن مستريباً أو مشاكساً، اعترض هنا فقال: وما مغزى الوجود ذاته؟
لماذا الوجود؟
عندئذ لا بد من الزعم بأنّ الوجود أزلي، وأنه ليس حرّاً مخيراً بين وجود وعدم. وما دام الوجود منزهاً عن العدم؛ فهو إذن ليست له غاية غير الوجود إطلاقاً.
وكذلك الوجود الإنساني، الذي هو ظاهرة من ظواهر الوجود الكلي، فإنه مسيَّر مقيَّد خاضع للحتمية الوجودية لا يملك أن يختار ولا أن يسلك في دروب الحياة بحرية وإرادة فاعلة. إنه موجود؛ لأنه مرغم على الوجود، ولا شيء غير الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية وتقدير
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 7 / 10 - 18:36 )
الاستاذ الفاضل نعيم ايليا المحترم
اكرر التحيه
اقول:لماذا الانسان؟ربما لانه افضل انتاج للطبيعة واخطرها عليها
لماذا الانسان؟
لانه يملك او امتلك العقل الذي يبني ليدمر ويدمر ليبني
في الكثير من الغرائز والحواس يشترك الانسان مع حيوانات اخرى
تحيه لكم استاذنا على هذه الاطلاله على الانسان


2 - تحية وشكر للصديق الشاعر عبد الرضا جاسم
نعيم إيليا ( 2012 / 7 / 10 - 22:45 )
لشاعرنا المجلي تحية جميلة، وله الشكر على ومضته الفكرية
قد يكون الإنسان -أفضل انتاج للطبيعة وأخطره عليها- فوق كوكب الأرض، ولكن
لماذا أوجدته الطبيعة وفضلته ومنحته قوى لا تأمن من خطرها عليها؟
ما معنى أن يكون موجوداً ومفضلاً وخطيراً ؟
هل هو خطير على الطبيعة حقاً؟
كيف؟ أئذا دمر الطبيعة مثلاً والكائنات ونفسه، فقدت الطبيعة والحياة وجودها
؟
طيب ، إذا كان وجود الطبيعة والحياة قابلاً للزوال والعدم، فلماذا الحرص على
الوجود؟ أليس العدم - لو كان العدم حقيقة - خيراً من الوجود؟
عندي أن العدم خير من الوجود. وليت أمي لم تلدني


3 - الصديق الكريم الاستاذ نعيم ايليا
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 7 / 11 - 18:39 )
اكرر التحيه
الكثير من الاحياء تنتج معها ادوات موتها اما كناتج عرضي اهمالي كما يفعل الانسان في قسوته على الطبيعه التي ترد على جحوده ردات فعل قاسيه تريد منها ان تنبهه اوكفعل مقصود منه بان يصنع المواد متعددت الاستعمالات للبناء والتدمير ولم ينفع نوبل ووسامة في منع التدمير من استغلال انتاجه
الذكر الطيب للسيده والدتكم فقد قدمت لنا اخا وانسان محب يقدم الخير
هناك موضوع سننشره قريبا تحت عنوان الكائن الذي يقتل نفسه وسنهديه اليكم استاذي الفاضل اتمنى قبوله ليزيدني ذلك شرفاً
فيه بعض الشيء عنا تفضلتم به
دمتم بتمام العافيه لتتحفونا بالشذرات النعيميه التي تحرك كتلة التفكير


4 - الحتمية الوجودية
نعيم إيليا ( 2012 / 7 / 11 - 21:09 )
وأنا أكرر شكري وامتناني للصديق العزيز المبدع عبد الرضا جاسم
وأنتظر الموضوع متشوقاً.
عزيزي، الإنسان لا يملك حرية الوجود، ولذلك فكل ما يصدر عنه، فإنما هو صادر عن حتمية وجوده. التدمير أو البناء مثلاً يقترفهما الإنسان ولكن ليس بإرادته الحرة. إنه مرغم على اقترافهما، يرغمه على اقترافهما وجوده: فالبناء يعزز وجوده، والتدمير يعزز وجوده أيضاً. لا يملك الإنسان أن يكون حراً ولا حتى في الخيال. الخيال مشدود إلى الواقع الوجودي أيضاً، فمثلاً حين تخيل جدي نفسه يطير في الفضاء الخارجي، تخيل نفسه محمولاً على جناح نسر طائر، لم تكن الظائرة في عصر جدي موجودة. أما أنا فقد تخيلت نفسي أحلق في الفضاء الخارجي بمركبة فضائية
كل فعل وكل حركة نفسية فإنما تتحكم بهما عوامل خارجية أو داخلية، وهذا يعني أن الإنسان، ليس حراً في إتيان أفعاله أو انفعالاته. فأنا لست حراً الآن في أن أكتب إليك، فهناك دافع يدفعني دفعاً إلى الكتابة إليك، ولست حراً كذلك في ألا أكتب إليك، إذ ثمة دافع يرغمني في هذه الحالة على ألا أكتب إليك
وأنا أميز بين الوجود الكلي، والحياة، والإنسان، ولكنني لا أرى للجميع غير غاية مشتركة واحدة هي الوجود

اخر الافلام

.. غزة ..هل يستجيب نتنياهو لدعوة غانتس تحديد رؤية واضحة للحرب و


.. وزارة الدفاع الروسية: الجيش يواصل تقدمه ويسيطر على بلدة ستار




.. -الناس جعانة-.. وسط الدمار وتحت وابل القصف.. فلسطيني يصنع ال


.. لقاء أميركي إيراني غير مباشر لتجنب التصعيد.. فهل يمكن إقناع




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - نحو 40 شهيدا في قصف إسرائيلي على غ