الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرافة اسمها الحقيقة

ابراهيم هيبة

2012 / 7 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا توجد كلمة في القواميس اكرهها بقدر ما اكره كلمة الحقيقة. ولو أمكننا أن نردَّ كل صراعات البشر، فيما بينهم، إلى سبب واحد، لانتهينا إلى أنها كلها صراعات على "الحقيقة". ترى أحيانا رجلا يتخبط في أوحال قضية ما؛ تسأله لماذا يتكبد كل ذلك العناء، فيجيبك بأن كل شيء هو لأجل الحقيقة. ولكن ما هي الحقيقة؟ هذا ليس سؤالا فلسفيا؛ إنه سؤال ديني قديم طرحه حاكم روماني حائر على يهودي يدعِّي بأنه جاء ليخلّص العالم.
في كل جماعة بشرية هناك دائما رجل مهووس بنزوة أو رغبة ما. ولأن المجتمعات لا تقبل بسهولة الأفكار والرغبات الجديدة، ينطلق ذلك الرجل في اصطياد أي مبرر سيكولوجي أو سياسي لفكرته، فتراه يساندها بقوة العقل والمنطق، ويغلفها بسحر البلاغة وجمال الشعر. وهكذا لن ينتظر هذا الرجل لأكثر من عقد من الزمن حتى يسير وراءه آلاف السذج والمرضى، فتتحول رغبته تلك من نزوة طائشة إلى معتقد لا يطاله الشك أو فكرة تصنف في عداد البديهيات.
نيتشه على حق: الحقيقة نتاج لمفاعيل اللغة. في كل مرة تقف فيها أمام خطيب ما، تجده يتلفظ مفردات "كالحقيقة" و"الفضيلة" على نحو فيه الكثير من الانتشاء والتلذذ . ولا عجب في الأمر ، فالمرء لا يتلذذ أحيانا ببعض الأشياء إلا لأنه يجهل طريقة اشتغالها. كل مثلنا ومفاهيمنا، ابتداء من الذات، مرورا بالهوية ، وانتهاء بالعقيدة والله ، هي مفردات لغوية تخلو من أي وجود فعلي. أنا احكم هذا البلد، إذن لا بد من أن هناك من يحكم هذا الكون. أنا ألزم الآخرين بالطاعة لي، إذن لابد من الله يفعل نفس الشيء. كم كان اسبينوزا محقا ! لو كان بإمكان المثلث أن يتكلم لقال بان لله ثلاثة أضلع. عندما نتحدث عن الحقيقة لا يجب أن يغيب عن أذهاننا، ولو لحظة واحدة، بأن الأمر يتعلق بسلسلة من الاستعارات والإسقاطات الذاتية التي يضفيها البشر اعتباطا على وجودهم. إنها ليست بأكثر من أشباح نسينا، من شدة تعلقنا بها، بأنها مجرد أشباح.
تلا ذات مرة صاحب اللزوميات قصيدة له على جمع من الناس؛ فلما انتهى، قال له بعضهم: "أين شعرك هذا من فصاحة القرآن وعذوبته؟"، فأجابهم الشاعر قائلا:"رتلوا شعري هذا في المحاريب والمعابد لمائة سنة مقبلة، وسترون كيف سيصير." لقد كانت لهذا الرجل فكرة واضحة عما تتأسس عليه معتقدات البشر: التكرار وبلادة الاعتياد.
من وجهة نظري ، لا يؤمن بالحقيقة إلا أولئك الذين لا يزالون يتحركون على المستويات السطحية للأشياء. ولا يسجن نفسه في معتقد ما إلا ذاك الذي لم يعمِّق شيئا. وعندما تجمعني الظروف بشخص لا يتكلم إلا عن الحقيقة، أحرص دائما على أن أضع مسافة بيني وبينه؛ فمن يقرأ تاريخ الحقيقة لا يمكن إلا أن يصدمه حجم الإقصاء المتبادل الذي يبادر به البشر بعضهم ببعض. ولهذا السبب، أجدني لا أحس بالأمان إلا بالقرب من العدميين و الشكوكيين وأصحاب الأمزجة الكلبية.
الحوار مستحيل مع كل شخص يكتب الحقيقة بالحرف الكبير أو يرشح نفسه للاستشهاد. أنت، بالنسبة له، لا يمكن أن تكون إلا موضوع تبشير أو موضوع رجم؛ وما من تفسير لهذا التوجه سوى أن كل عقيدة لا تنفصل عن مزاج صاحبها. إنها تخضع لتوترات الأعصاب وتشنجات القلب. ولهذا السبب، قلما تجد شخصا وثوقيا يخلو من بعض المس أو الاضطراب في المزاج ؛ بل ويمكنني القول بأنه ما من كتاب يزعم امتلاك الحقيقة إلا وهو كتاب تحريضي. وهذا ما يفسر انه لا توجد حروب طاحنة إلا ووراءها كتاب مقدس. والحق أن البشرية ألَّفت الكثير من الكتب، لكن اللافت للنظر هو أنها لحد الآن لم تكتب كتابا في الشك أو اللامبالاة.
عندما ينبح كلب على ظل، تبدأ آلاف الكلاب تنبح هي الأخرى معتبرة ذلك الظل حقيقة. نفس الشيء ينطبق على البشر في علاقتهم بعقائدهم وأفكارهم. و في الواقع، يضم هذا العالم من الأخطاء والأوهام أكثر مما يضم من الحقائق. ومن يتأمل سلوك الإنسان جيدا، لابد وأن يلاحظ بأن هذا الأخير لا يحب الحقيقة لذاتها. إنه لا يتعلق إلا "بالحقائق" التي يصنعها هو. حقيقة فيزيائية بسيطة كدوران الأرض حول الشمس ظلت تنتظر، على هامش الأفكار والعقائد، لآلاف السنين حتى تُقبل بعد ذلك على أنها من البديهيات.
جون كوكتو على حق: الحقيقة عارية إلى حد أنها لا تثير شهوة احد. و لا غرابة في الأمر، فالإنسان يفضل الأوهام التي تثير ميوله وغرائزه على البديهيات التي لا تحرك فيه شيئا.
مند الأيام الأولى للفلسفة ونحن نبحث عن الحقيقة، واستمرارنا في البحث عنها إلى يومنا هذا يؤكد على أننا لم نفهم صلب المشكلة: الحقيقة لا وجود لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ملاحظه
منجى بن على ( 2012 / 7 / 12 - 01:35 )
الكلاب لاتنبح على الظل(الا اذا كانت هذه الاستعار لخدمت الغرض..ومهما يكن من امر يجب ان نوضح شى عن سلوك الحيوانات او الكائن الحى اجمالا)بل كل كلب عندما ينبح فهو يعلن عن نفسه وعن حوزته فيرد عليه الاخرين بالمثل... الحيوان ليس بالغباء الذى يظنه الانسان فهو لاينبح لاعلى ظل ولا على اشباح كما يدعى الكثير من البشر.....ليس من الضرورى ان تكون عالم ولكن يمكنك ان تتابع البرامج الوثائقيه وهى ستفتح ذهنك لكثير من الامور

اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا