الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حاذث النصف متر تجاوزكل الأمتار

هدى توفيق

2012 / 7 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذه الرواية القصيرة أو البسيطة، كما يطلق عليها النقاد، للأديب الكبيرصبرى موسى ، هى ليست رواية بسيطة بالمرة ، فتلك الرواية بمقياس الزمن والمرحلة التى كــُتبتْ ونــُشرتْ فى ذاك الوقت (عام 1965) هى تعبير قوى ومؤشر وباب نفذ إليه كثيرون من المُبدعين الشباب ، لإتباع هذا النهج فى الكتابة ، ببنائها البسيط ، وإنْ كان عميقــًا وساحرًا ، من خلال شخصيتيْن رئيسيتيْن ، هما محور عالم الرواية ، ومن هنا جاء تعبير (الرواية البسيطة) بينما التفاصيل ، والأحداث الجانبية ، والشخصيات الثانوية ، هى ما تجعل تلك الرواية ، تــُقدّم رؤية واسعة وشاملة للعالم ، واستكشاف والتوغل داخل ذات الآخر، بكل مصداقية وشفافية ، برع المُبدع فى التعبير عنها .
تتكون الرواية من خمسة أجزاء ، ويعترف المُبدع منذ الصفحة الأولى التى بها عنوان الرواية (حادث النصف متر) قصة حب بسيطة ، ثم تأتى الأجزاء الخمسة تحت العناوين الآتية :
الجزء الأول : التاريخ السرى لرجل عادى .
الجزء الثانى : فكرة الوقوع فى الحب .
الجزء الثالث : الرجل السابق المجهول .
الجزء الرابع : مفاتيح بيوت لا نملكها .
الجزء الخامس : الخروج من عنق الزجاجة .
والأجزاء الخمسة عبارة عن متوالية ، إذْ أنّ كل جزء يُسلم نفسه للجزء التالى له ، فى تسلسل سردى مُمتع حتى تنتهى قصة الحب تمامًا ، وبينما الرواية تنطلق فى بداية الحكى من نقطة إنتهاء كل شىء ، وأنّ هذا الحادث البسيط ( الذى حدث بالمصادفة ) فى الأتوبيس ، ليس مجرد حدث عابر، يحدث لكثيرين فى حياتهم اليومية ، لذا فإنّ المُبدع إبتدأ به ، فجاءت واقعته ، وجاء البناء الروائى مُتكاملا ، وله مذاق ورؤية تعبيرية عن هذا الجيل من الشباب ، وكل ذلك بعمق فنى ، موجز ومؤثر فى روح المتلقى ، حيث يستهل الجزء الأول قائلا على لسان الرجل ((أنا رجل عادى على وجه التقريب .. وجميع غرائزى تطل برأسها من داخلى فى حذر.. وهى ترمق قوانين المجتمع بنصف عين))
هذا الجيل الذى عاصرحربيْن عالميتيْن كبيرتيْن ، ويختار طريقه ، بعد يوليو1952، جيل جديد يسعى دومًا للخروج من عنق الزجاجة ، ويبحث للخروج عن المألوف ، وهو ينتمى إلى الطبقة المتوسطة ، التى تعيش بين طبقتيْن لهما طابع وتأثير وأغراض مختلفة تمامًا عن متطلبات طبقته. وقد عبّرالمُبدع عن رؤيته لمفهوم الطبقة المتوسطة بفقرة بديعة فكتب ((والطبقة التى بين هاتيْن الطبقتيْن ، سكانها فرديون ، شديدو الأنانية، لايهتمون بشىء سوى ذواتهم . إنهم يواصلون التسلق ، زاحفين فى إلتواء وخبث على أعتاب الطبقة العليا ، بينما القلق يطحنهم ، لأنّ الرعب من السقوط فى الطبقة السفلى لايُزايلهم لحظة واحدة)) إنّ قصة الحب – حكاية هذه الرواية- ما هى إلا ّقناع لمفهوم واسع للحياة أمام الإنسان المعاصر : الحب ، الجنس ، العمل ، الأصدقاء ، التقاليد ، الموروث والصراع بين القديم والحديث . ولعلّ هذا مغزى قوله (كنتُ قد أصبحتُ أميل إلى طريقة الحياة الأوروبية) بينما الطرف الآخر(الفتاة) عللتْ فقدانها للعذرية بتفسير واه، نتيجة ممارستها لبعض التمارين الرياضية الصعبة. ولأنّ الشكّ يخص (الذكرالشرقى) تصوّرأنه ليس الأول فى حياة فتاته ، وهوشك موروث ومُتجذر، لاتقتلعه إلاّثقافة جديدة وفلسفة مُغايرة. ورأى المُبدع أنها جينات وراثية من رواسب باقية فى داخله : كيف تعطى قلبك لامرأة كانت لرجل آخر قبلك ، والحب بالنسبة إليه مازال مرتبطــًا بصورة الامتلاك الكامل . وهذا الشك يُجرح رجولته ، وذلك عكس ثقافة رجل آخر عبّر عن مدى اشمئزازه من تجربة الشرق ، بالمقارنة بما عاشه فى الغرب من تجربة حية فقال ((إنهم هناك يعتبرون تجربة الحب الكاملة ، إحدى التجارب الرئيسية الهامة ، فمن خلالها يستطيع الشباب أنْ يكتشف نفسه.. ويثق بها))
تــُدين الرواية العالم المُزيف ، المدهون بالحضارة (الشكلية) وإدعاء التعامل مع القيم الجديدة، لكنه فى حقيقة الأمرعالم راكد ، تقاليده وأعرافه لا تتغير، ولا تـُنبتْ روح المغامرة والجرأة ، فهم يتوارثونها من جيل إلى جيل ، والمُبدع لاينكرهذا، بل يقولها بكل بساطة وأريحية صادقة وروحه تدمى لتلك الحقائق دون أمل أو قدرة على التجاوز. حادث النصف متر، رؤية بديعة من خلال عاشقيْن فى مواجهة العزلة والوحدة والاغتراب ، عن عالم عنيف وصدامى فى أحكامه. خاصة قهر الإنسان (المرأة والرجل) ومقاومة هذا العالم المُعادى لرغبات الإنسان المشروعة ، تكون فى التفانى فى العشق ، حتى ولو كان داخل غرف مغلقة.
تلك الرواية صدرتْ طبعتها الأولى وبصحبتها بضع قصص قصيرة فى العدد 67من الكتاب الذهبى عام 62، بعد أنْ نـُشرتْ مسلسلة فى مجلة صباح الخير فى العام نفسه. وقد أثارتْ وقتها ضجة اجتماعية كبيرة لدرجة أنّ بعض أعضاء مجلس الأمة طالبوا بوقف نشرها. فقد كانت تلك الرواية تعبيرًا مثاليًا عن تراجيديا الإنسان المعاصربين التقدم العلمى المُذهل الذى فتّتْ المسافات وقرّب الآراء ووحّد الأفكار، وبين مخزون داخلى لإنسان مُثقل بالمرورث والطقوس البدائية ، التى كانت تعبيرًا عن مجتمعات الكهوف منذ آلاف السنين ، وبالتالى فإنّ من يتمسكون بذاك الموروث يعيشون فى عالمنا المعاصربأجسادهم فقط ، بينما عقولهم متوقفة عند عالم الكهوف .
أيضًا تلك الرواية التى مرّعلى نشرها حوالى 40سنة ، نموذج عالى القيمة ، إذا أراد الجيل الجديد أنْ يتعلم منها الكتابة الروائية الرفيعة. وهوما ألمحه فى إبداع بعض الشباب الذين يكتبون الرواية الحديثة والمُغايرة تمامًا لما سبق كتابته. ولأنه همٌ إنسانىٌ واحدٌ يجمع كل الأجيال ، جاءتْ رواية صبرى موسى قديمة وحديثة ومعاصرة، تـُناسب كل زمان ومكان، فالجيل المُعاصرأيضًا بلاشك يعانى من مشاعرالاغتراب التى عانى منها بطل الرواية، فهم يعيشون حالة الشد والجذب بين القديم والجديد ، التظاهربالعصرنة ، بينما فى اللاشعوريقبع القديم الذى دهسه قطارالتطور. العصرنة هى التى تـُحقق الحرية الحقيقية فى شكلها ومضمونها . وقد عبّرالمُبدع فى تعبيربديع وصادق وهويصف شعوره المؤلم بوخزالضميرحين طلب من فتاته أنْ تـُجهض الحمل للتخلص من زواجها ((لكننى للأسف فى هذا الموضوع بالتحديد ، كنتُ أشبه غالبية الرجال . كنتُ أفكر وأتألم ، ولكننى كنتُ أفتقرإلى التصميم . كنتُ أفتقرإلى إرادة التنفيذ)) بينما الطرف الآخر(الفتاة) العاشقة التى لها تجارب مع آخرين ، ترفض التصريح بهذا ، وتبذل قصارى جهدها لتستأثربه وتمتلكه وتـُعطيه أقصى ماعندها من الغرام والعشق حتى تناله، وتمحى آثارأى خبرات سابقة مع رجال آخرين ، فتفشل فشلا ذريعًا ، حتى بحيلة كاذبة ، أسقطتها فى سريرالمرض ، فقد كانت تـُعذبها الرغبة المُهيمنة على روحها لتمتلكه، حتى ولوبإدعاء أنها حامل منه. لكنها قاومتْ الحب والرغبة، وسلكتْ الطريق الأوحد الذى فرضه عليها المجتمع ، حينما وجدتْ واختارتْ الزوج المناسب والحياة المُستقرة والآمنة، حتى ولوكان ذلك على حساب مشاعرها وعواطفها المُنتهكة من حبيبها الأول والأخيرفى حياتها ، رغم تعدد علاقاتها فى الماضى . كما أنها لقنتْ هذا الحبيب الظالم درسًا قاسيًا عن التهذيب الحضارى وبطريقة عصرية للغاية، وبمراعاة أنها محاطة بكل مظاهرالكبرياء، بينما لم يبق للبطل غيرثمرة حزن سوداء تتدلى داخل هذا القلب ونصف زجاجة خمربيضاء، تحت مقعده ، يُقدّمها للتلميذات، كل الصباحات الشتوية التى أصبحتْ مُتشابهة، حتى يُقرّرأنْ يحكى قصته البسيطة والعميقة فى آن واحد ، فيما يمكن أنْ نـُطلق عليه (مُتعة المأساة) إذْ قال بكل صراحة ((جميع الحوادث تبدوفى نظرى الآن مُتكافئة فى جودتها ، بالنسبة لى ، كراوى قصة مسلية)) قدّم المُبدع بداية مُثيرة ومُحفزة على القراءة والمتعة بلغة السرد الفنى ، والحكى المُتدفق ، من خلال فقرات وعبارات قصيرة مُكثفة وحاسمة ، كالريبورتاج الصحفى ، فخلق التوترالفنى الثرى والحميمى ، لأنه كتب ببساطة وحنكة ، مُشبّعة بالسخرية الحادة ، فى هذا العمل الروائى البديع المُتميز .
• الأعمال الكاملة : صبرى موسى (حادث النصف متر، فساد الأمكنة) هيئة الكتاب المصرية- عام 1987.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال