الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محروس بحرز السيِّد، شرهان

مديح الصادق

2012 / 7 / 18
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


لم يكن الأول في تسلسل من أنجبتْ ( محبوبة ) من الأولاد والبنات؛ بل هو السادس من أولئك العشرة من كلا الجنسين، رغم أن مستوى دخل الأسرة ما كان بحال يلبي جميع احتياجات هذا الفريق، إذ ليس من مصدر للرزق سوى مهنة خدمية يؤديها الوالد للفلاحين الذين لا يختلفون عن مستواه المعاشي، إن لم يكونوا أدنى منه، وكل واحد من هؤلاء العشرة ينال نصيبه من حماية ( السيِّد ) منذ اللحظة الأولى التي تشعر فيها بأولى علامات لا تخفى على معشر النساء، ولابد ان يكون نصيب ( السيِّد ) دسما مما وفَّرتْه ليوم الحاجة من نقود، أو دواجن، وأحيانا بضع كيلات من الشعير أو الرز محشاة ببيضات من دجاجاتها، كان الأحق أن تكون طعاما لفريق الصغار الجائعين، وفي تموز موسم التمر لا تبخل عليه بعرجون أو أكثر من برحية الدار، مع قبلة على كفه يصحبها خشوع مذنب ساعة الاعتراف

والسيد يستحق كل هذا وأكثر - لو كانت الكف ملآى - فهو الذي من بخته، وبشفاعته يُحاط أولادها بسور من الأمان من أي أذى أو أمر مكروه، ومع ولادة كل طفل جديد يكون ( حرز السيد ) جاهزا قبل ذلك الوقت، تعويذة ملفوفة بإحكام بقطعة من قماش أخضر ناعم، وما عليها سوى أن تثبته بدنبوس على قماط الرضيع ريثما يكبر؛ فتعلقه في جيده بخيط غليظ من الصوف، وهذه الحال تكررت مع الجميع، والحرز يجدده السيد كل عام بعد انتهاء مفعوله؛ ليقبض ما اعتاد عليه بعد تجديد الصلاحيات، والحرز هذا لا يمكن بأي حال الاستغناء عنه، أما من يستخف به من الأولاد فتلك مصيبة، لا حل لها غير أن تهرول إليه حاملة الهدايا، والتوسلات خشية أن يكون على علم بما ناله من استخفاف، وهو الذي يمتلك من القدرات ما لم يتمتع بها غيره من الناس

شرهان - أيها الوغد - كم أنت متمرد على الأعراف والتقاليد، ألا تخشى غضبة السيد، ما أن انفكت عقدة لسانك حتى بدأت تتساءل بلا وجل، بكل وقاحة: "كيف تحميني من الهلاك تعويذة من ورق ملفوف بالقماش لا أفقه ما مكتوب عليه؟" وأكثر من مرة ضبطتك أمك وأنت تحاول فك هذا اللغز الذي حيرك، وقض مضجعك، ومذ ساعتها أدركَتْ - بقلب الأم - أن شيئا يثير الخوف قد تأجج في صدرك، وأن بوادر التمرد على الحواجز قد لاحت مبكرا في سلوكك، وأنت تسأل عما لا يجرؤ عليه من هم أكبر منك سنا بكثير، لم تزجرك صفعات الكبار وهم ينفخون في أزرارهم مستغفرين، سائلين الرب أن لا يسائلهم فيك، وقد يبعثون بالنذور إلى السيد لعله يشفع لهم عند رب العباد

استمر خوف الأم، وزاد يوما بعد يوم على شرهان أكثر من خوفها على أخوته الآخرين، ففي تساؤلاته وما يطرح؛ وقاحة لا تطاق، وفي تصرفاته ينكر كل ما لا يقبله العقل، وما لا يثبت بالحجة والدليل، وكبرت معه المشاكسات كلما تقدم في السن، وارتقى في سلم التعليم، والأدهى من كل ذلك أنه قد خالف وصيتها: "من يتزوج أمك فهو عم لك، وإياك والتدخل في شؤون الحكومة فهي في مقام الأب" هكذا قال السيد؛ بل شدد في القول، والنتيجة أن زار السجن أكثر من مرة؛ وما بيدها من حيلة إلا أن تتسلل إلى دار السيد وتحت العباءة ما هو مقسوم كي يزودها بحرز جديد، أو دعاء تحرقه مع البخور وقت الصلاة

حين اخترقت صدره رصاصة نفذت إلى موضع الموت واقفا يتحدى قاتليه الجبناء؛ لم يكن قد علَّق في جِيده ( حرز السيد ) فهو لم يحمله معه يوم التحاقه في جحافل الثوار إلا استجابة لرجائها، وتوسلاتها ساعة الوداع، خذه ياولدي؛ فإنه سيحميك من شر الأشرار، ودَسَّه في جيبه تذكرة من قلب أم حنون، أفنت حياتها في السهر عليه وعلى إخوانه الآخرين، وكان هو أشقاهم؛ بالنسبة لها مصدر القلق الوحيد، والخوف الدائم من مصير لا تحمد عقباه، وفي لحظات راحة المقاتلين يحلو السمر؛ كي تتجدد الحياة، وتُبعث فيهم من جديد روح التحدي والصمود، في كل مرة يُخرج من جيبه شرهان ذلك الحرز، تعويذة السيد، ملوحا به، مشفقا على شريحة واسعة ما زالت تعبد الأصنام، وتعشق الغيبيات، بل تتمادى في التعمق بتلك الغيبيات؛ هي تزداد فقرا وحرمانا؛ وسادتها ينعمون بما لذ وطاب من الخيرات، وحين أكرم الرفاق جثته، أعادوا إلى أمه متاعه الذي لم يرافقه سواه حين فرَّ بجلده من الطاغوت، ودسُّوا فيه ذلك الحرز

مزقت ثوبها أم شرهان، بترت ضفائرها، بالوحل تمرغت، لم يظهر منها سوى عينين بارقتين تخفيان خلف ذلك الحزن الأسطوري أملا في أن الظلام لابد أن يزول، وأن سيف الجلاد من كفه سيسقط يوما حتما؛ وسقط الجلاد! فسارعت مع باقة ورد على قبرابنها، تحمل له البشرى أن قد سقط الجلاد، وأن السيد قد نصَّبوه وزيرا؛ حتما سيُنصفها وهي أم الشهيد، كما سيُنصف مثلها كل أمهات الشهداء؛ لكن ( السيِّد ) لا يملك وقتا للتكريم، وليس لديه فائض من المال للإنصاف، أغرقها بحزمة من خطب رنانة تشيد بدور الشهداء الذين لولا تضحياتهم؛ ما تربع هو وزبانيته على كراسي الحكم؛ فاقتسموا الغنائم والثروات، ناولها صندوقا صغيرا مطرزا بقماش ذهبي، الصنع في كرمنشاه، بداخله حرز جديد، من طراز جديد؛ اذهبي - أم الشهيد - وعلقي الحرز على قبره؛ فسوف يحميه ويفتح له أبواب الجنة بلا حساب

تموز - 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دمت ودام أدبك الراقي مديح الصادق
د. خالد الحيدر ( 2012 / 7 / 19 - 04:48 )
رائعة جديدة للأديب القدير مديح الصادق يجسد فيها مدى جسامة تضحية الشهيد البطل ويعري فيها دجالة الأمس ومنتفعي اليوم من الفاسدين تجار الدجل والمحاصصة الطائفية، بإسلوب أدبي رفيع يسمو بجدارة لأدب الشهداء


2 - لن تضيع هدرا دماء الشهداء
مديح الصادق ( 2012 / 7 / 20 - 00:06 )
عزيزي الدكتور خالد الحيدر المحترم، شكرا لمرورك ومتابعتك لكل ما يضع في أول الاختيارات قضية شعبنا العراقي وما يعانيه من تحكم الطائفيين والفاسدين والإرهابيين في مقاليد أموره، وتوزيعهم للأدوار فيما بينهم على مرآى ومسمع أسيادهم المحتلين، مستهزئين بما قدمه خيرة أبناء الشعب من تضحيات بأرواحهم ومستقبل عوائلهم وأطفالهم؛ ليتربعوا على كراسي الحكم ويقتسموا خيرات البلاد، الخزي والعار لهم، والمجد للشهداء الابرار الأحياء

اخر الافلام

.. جغرافيا مخيم جباليا تساعد الفصائل الفلسطينية على مهاجمة القو


.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza




.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع


.. اشتباكات بين الشرطة الأميركية ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين ب




.. رئيسة حزب الخضر الأسترالي تتهم حزب العمال بدعم إسرائيل في ال