الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر الفكر العلمى التجزيئى (3/5)

السيد نصر الدين السيد

2012 / 7 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ظل الإنسان لعشرات الآلاف من السنين يعتمد على مصدرين يزودانه بالمعارف اللازمة للتعامل مع الواقع الذى يعيش فيه ولتفسير ما يجرى فيه من أحداث. المصدر الأول هو "التجربة والخطأ" Trial and Error أو الخبرة العملية التى يكتسبها الإنسان نتيجة نجاحاته وإخفاقاته فى التعامل مع ما يواجهه من مشاكل أو ما يتعرض له مواقف. أما المصدر الثانى فهو "منظومة الفكر الخرافى"، بصورتيها الأسطورية والدينية والتى عرضنا لها فى مقالتنا السابقة، بما تنطوى عليه من تصورات وتهيؤات ينشئها خيال الإنسان وتشكلها البيئة الطبيعية التى يعيش فيها. وهكذا كانت معرفة الإنسان عن الواقع معرفة "خاصة" ترتبط إرتباطا وثيقا بسياق إنتاجها طبيعيا كان أو إجتماعيا. معرفة يقوم التحقق من صدقها، ومن ثم قبولها، على معايير ذاتية مبعثها تصورات الإنسان وأساطيره. ولقد أسهمت هذه المنظومة، فى صورتها الأسطورية، فى تشكيل مجتمع "حضارة ما قبل الزراعة" بينما أسهمت، فى صورتها الدينية، فى تشكيل مجتمع "حضارة الزراعة" (السيد, 2006). إلا أن السيطرة المطلقة لمنظومة الفكر الخرافى بدأت فى التآكل تحت وطأة حركة فكرية كانت بدايتها فى مطلع القرن الخامس عشر ببزوغ عصر النهضة الأوروبية وﺇستمرت حتى ظهور حركة التنوير فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وقد تشكلت هذه الحركة من ثلاثة مكونات رئيسية هي: حركة اﻹجتهاد الدينى والحركة الإنسانية والحركة العقلانية (زيادة, 1987). وفى أحضان هذه الحركة كان ميلاد "منظومة العلم الحديث" فى صورته الأولى.

العلم: ثورة الفكر الكبرى
شهد تاريخ الفكر الإنسانى العديد من النقلات الفكرية التى إنتقلت بالإنسان من منظومة ذهنية إستبان عجزها وظهر قصورها لمنظومة أخرى أكثر فعالية. إلا أن أهم هذه النقلات وأبعدها أثرا وأكثرها تأثيرا حدثت فى القرن السابع عشر بظهور"منظومة العلم الحديث" كمنظومة ذهنية تتيح للإنسان، بما تقدمه له من أدوات، فهما أفضل لما يدور حوله من أمور. فما إن قارب القرن السادس عشر على الإنتهاء حتى بدأت ملامح ثورة ذهنية كبرى فى التشكل والظهور فيما يعرف فى أيامنا بأوروبا الغربية. وكانت الثورة هى "الثورة العلمية" التى تضافرت عدة عوامل على تهيئة البيئة الصالحة لظهورها مثل: الرغبة فى حيازة القوة، النظر لظواهر الطبيعة بصفتها موضوعات تتطلب البحث والتقصى وليس بصفتها رموزا أو تجليات لكائنات أسطورية، وأخيرا تطور أدوات البحث والتجريب (Pekelis, 1974). وتأتينا الأخبار بأسماء الرواد الأول وأعمالهم فنجد من أبرزهم فرانسيس بيكون (1561-1626م) مؤلف الـ "أورجانوم الجديد" Novum Organum، وجاليليو جاليلى (1564-1642م) صاحب الـ "حوار حول النظاميين الرئيسيين للعالم"، رينيه ديكارت (1596-1650م) ومؤلفاته العديدة. وتعود الأهمية غير المسبوقة لهذه الثورة فى تاريخ الإنسان إلى ماجاءت به من آليات وأدوات ذهنية للنظر فى أحوال الواقع المحسوس، وإلى ماأنتجته هذه الآليات والأدوات من معارف غير مسبوقة فى خصائصها الفريدة. ولقد شكلت هذه الآليات والأدوات مجتمعة مايعرف بـ "منهج التفكير العلمى" القائم على ثلاثة ركائز هى:
1. الإمبريقية: وتعنى الإعتماد على الشواهد المحسوسة فلا مكان فى العلم للشواهد القائمة على السمع أو على العنعنات ولا تلك القائمة على شهادة أفراد ولا على تلك القائمة على الإلهام أو العاطفة. أو بعبارة أخرى "مرجعية الواقع".
2. العقلانية: وتعنى إستخدام العقل وملكاته وأدواته مثل أدوات التفكير المنطقى فى تحليل الشواهد الإمبريقية وإستخلاص النتائج منها.
3. الشك: ويعنى خضوع المعرفة التى ينتجها العلم للنقد الدائم بهدف التأكد من صحتها ولتعديلها عند الضرورة. فالمعرفة العلمية هى تلك المعرفة القابلة لـ "التفنيد" Falsifiability وذلك طبقا لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر. فمنهج العلم، طبقا لبوبر هو: "منهج صياغة الفروض الجريئة والمحاولات البارعة والعنيفة لتفنيدها" (Popper, 1965). ويكمن فى هذه الركيزة سر قدرة منظومة العلم الدائمة على التطور والتنامى والتكيف وعلى التغلغل فى شتى أمور حياة الإنسان.

وهكذا ولدت "منظومة العلم الحديث"، كـ "منظومة تعلم" وكـ "منظومة معارف"، تسعى للكشف عن أسرار الإنتظام فى أحوال الكون وإن سادتها بعضها العشوائية واللا إنتظام وأحوال المجتمع وإن إتسمت بالتعقد المتزايد والتبدل السريع.

العلم كمنظومة تعلم
تعرف موسوعة ستانفورد للفلسفة العلم بأنه "أى نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا وتتضمن قدر كبير من الشواهد الإمبريقية" (Plantinga, 2008). أى أنه يمكن النظر للعلم بوصفه "منظومة تعلم" Learning System أو مباراة عقلية، تستخدم أدوات ذهنية مقننة وتحكمها قواعد محددة. مباراة بين الإنسان كطرف والواقع، طبيعيا كان أو إنسانيا، كطرف آخر (Checkland, 1976, 1991).

ويقوم العلم، كـ "منظومة تعلم" تهدف إنتاج المعرفة، على ثلاثة مفاهيم رئيسية هى: "الإختزالية" Reductionism، "التكرارية" Repeatability، "الإختبارية" Testability. أى أن العلم، كمنظومة تعلم، يسعى إلى بناء "المعرفة العلمية" بالواقع وذلك بـ "إختزال" تعقده إلى موضوعات Subjects يمكن فحصها كل على حدة بواسطة تجارب منمطة ومحكمة يمكن "تكرارها" ويمكن "إختبار" التفسيرات الممكنة لنتائجها.

ولمفهوم "الإختزالية" ثلاثة أوجه مختلفة وإن كانت متكاملة. يتعلق الوجه الأول من أوجه الإختزالية بـ "التفكيك" (أو التجزئة أو التحليل Analysis) وهو الوجه الذى يعنى بكيفية التعامل مع التعقد الشديد الذى يميز الواقع بكثرة مكوناته وتنوعها وتشابك تلك المكونات وتأثيرها المتبادل بين بعضها البعض. ودراسة هذا الواقع المعقد لايمكن القيام بها إلا بإنتقاء أحد جوانبه المتعددة وحصر الإهتمام به فقط كموضوع مستقل وقائم بذاته يمكن دراسته وفحصه بتفكيكه هو الآخر إلى أجزاء تسهل دراسة كل منها على حدة. وترتكز صلاحية هذا المنهج على "الإفتراض الكارتيزى" Cartesian Assumption الذى مفاده أن "خصائص وسلوك الجزء الذى فصل عن الكل الذى يضمه لاتتأثرا بهذا الفصل". ويتعلق الوجه الثانى من أوجه الإختزالية بـ "التجريب" Experimentation، حيث يمكن فحص الموضوع المنتقى وأجزائه فحصا دقيقا ومستفيضا بإخضاعهم للتجريب، مشاهدة وقياس أو تجارب معملية محكومة، بهدف الحصول على نتائج محددة وغير غامضة فيما يتعلق بسلوكه. أما الوجه الثالث لمفهوم الإختزالية فيتعلق بـ "تفسير" Explanation نتائج التجريب. وتعنى الإختزالية هنا ""إستخدام أقل عدد ممكن من الإفتراضات عند شرح أو تفسير النتائج التى تم الحصول عليها". ويقوم هذا الإستخدام على المبدأ المعروف بإسم "شفرة أوكام" Ockham s Razor الذى وضعه ويليام أوكام W. Ockham (1300-1349م) وينص فى إحدى صيغه على أنه "عندما تتوفر عدة تفسيرات محتملة لنفس الظاهرة ينبغى إختيار أبسطها".

ويقوم المفهوم الثانى، "التكرارية"، على "عمومية" المعرفة العلمية. إذ تتميز المعرفة العلمية بكونها "معرفة عامة" Public knowledge لايتوقف قبولها والإقرار بصحتها على المزاج الشخصى لفرد ما أو مجتمع بعينه. فقبولنا، على سبيل المثال، لقانون التربيع العكسى ليس مبعثه تقديرنا لشخص من إكتشفه ولاإعجبانا ببساطته، بل مبعثه تواتر النتائج التى يتنبأ بها هذا القانون. أى أن "عمومية" المعرفة العلمية تعود إلى إمكانية تكرارها إذ أن "مايحدث فى تجربة علمية ما" يتكرر بغض النظر عن زمان أو مكان إجراءها وبغض النظر عن الأشخاص القائمون بها. وقد تختلف التفسيرات ولكن تظل النتائج واحدة. وهذه "العمومية" هى مايميز المعرفة العلمية عن "المعرفة الخاصة" Private knowledge التى تشمل كافة المعارف البشرية الأخرى التى تعتمد على خصوصية الإنسان فردا كان أو مجتمعا.

وأخيرا يرتبط المفهوم الثالث، "الإختبارية"، إرتباطا وثيقا بالمقاربة العلمية الذى يتبناها الباحث فى محاولته الكشف عن أسرار الطبيعة عقلانية كانت أو إمبريقية. وهنا ينبغى التمييز بين نوعين رئيسيين من أنواع التجارب العملية: "التجارب البيكونية" Baconian Experiments التى تهدف إلى جمع الحقائق عن عالم الواقع بالملاحظة المتأنية لظواهره والقياس الدقيق لمعطياته وتسجيلها، و"التجارب الجاليلية"Galilean "Experiments التى تسعى لإختبار الفروض النظرية أو التمييز بين التفسيرات المحتملة لظاهرة ما.

العلم كمنظومة معارف
والآن، وبعد أن إستعرضنا بالتفصيل للمفاهيم الرئيسية الثلاث التى قام على أساسها العلم الحديث فى صورته الأولى كـ "منظومة تعلم"، حان وقت النظر إليه كـ "منظومة معارف". فالمعرفة العلمية هى مجموع الحقائق المؤقتة والقابلة للتفنيد التى تصف ظواهر الواقع وتحاول تفسير أسباب حدوثها وسلوكها. وتتمتع "المعرفة العلمية" بالعديد من الخصائص التى تميزها عن غيرها من المعارف التى تنتجها طرق التفكير الأخرى مثل التفكير الفلسفى أو الدينى أو الأسطورى (زكريا, 1978). وأولى خصائص هذه المعرفة هى "التواصلية" التى تعنى تواصل المعرفة العلمية المتوفرة فعلا مع تلك المستجدة أو مع تلك التى يمكن إستحداثها. ويأخذ هذا التواصل أشكالا متعددة: فهو قد يكون إضافة لمعطيات جديدة أو لنظريات مبتكرة، وهو قد يكون نقدا أو تفنيدا لما هو موجود من معطيات أو نظريات، وقد يكون تعديلا وتطويرا لها. وهكذا يتطلب الشروع فى إنتاج معرفة علمية جديدة حول موضوع معين الإطلاع على ماهو موجود منها عنه فى الأدبيات العلمية المتخصصة. وبهذا يحدث تراكم المعرفة العلمية عبر الأجيال ويزداد الرصيد المعرفى للإنسان. أما ثانى هذه الخصائص فهى خاصية "المشاعية" التى تجعل من المعرفة العلمية "معرفة عمومية للإنسانية" ينتجها البعض ويتاح للبعض الآخر التحقق من صحتها وإستخدامها. وتنشأ هذه الخاصية كمحصلة للعديد من الصفات الجزئية التى تتميز بها المعرفة العلمية مثل طبيعنها اللاشخصية التى تجعلها غير مرتبطة بثقافة أمة بعينها، وطبيعة اللغة والصياغات القياسية التى تستخدم فى وصفها. وقد عززت تكنولوجيا المعلومات من مشاعية المعرفة العلمية بما وفرته لها من وسائط حفظ غير تقليدية ووسائل بث آنية وتقنيات بحث وإسترجاع فائقة القدرة. والخاصية الثالثة من خصائص المعرفة العلمية هى صفة "التجددية" النابعة من أنه لاتوجد، فى عرف العلم، حقائق نهائية لاتقبل النقض والتفنيد. فالمعرفة العلمية، كمنظومة من الحقائق المؤقتة، هى منظومة منفتحة تقبل إستبعاد أو تعديل مايثبت خطأه أو ماتتأكد عدم فعاليته من حقائق، وهى فى الوقت نفسه تتقبل كل ماثبتت صحته وتأكدت فعاليته. وهذا ما يطلق عليه مبدأ "التفنيد" Falsifiablity الذى يؤدى بالضروة أنه "لا عصمة" Fallibility للمعرفة العلمية فهى ليست معصومة من الوقوع فى الخطأ.

كانت هذه ملامح "منظومة العلم الحديث" فى صورته الأولى التى شكلت أهم الأسس التى قام عليها المجتمع الحديث مجتمع "حضارة الصناعة". وهى المنظومة التى تتمتع بقدرة غير مسبوقة على التطور والتجدد والتى سيكون الحديث عن أطوارها اللاحقة موضوع مقالاتنا القادمة.

المراجع
Checkland, P. 1976. Science and the Systems Paradigm. International Journal of General Systems, 3(2): 127-134.
Checkland, P. 1991. Systems Thinking, Systems Practice. Chichester: John Wiley & Sons.
Pekelis, V. 1974. Cybernetics: A to Z. Moscow: Mir Publisher.
Plantinga, A. 2008. Religion and Science. In E. N. Zalta (Ed.), The Stanford Encyclopedia of Philosophy: http://plato.stanford.edu/archives/win2008/entries/religion-science.
Popper, K. 1965. The Logic of Scientific Discovery. New York: Harper Books.
السيد, ا. ن. 2006. التنوير الغائب القاهرة: دار العين للنشر.
زكريا, ف. 1978. التفكير العلمى: الكويت.
زيادة, م. 1987. معالم على طريق تحديث الفكر العربى. الكويت: عالم المعرفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر وتحية وتقدير
محمد البدري ( 2012 / 7 / 21 - 19:48 )
تحية لك يا عزيزي الفاضل د. نصر السيد علي هذه الورقة القيمة التي تلخص الخبرة الانسانية من اجل معرفة صحيحية ورصينة أصبحنا بفضلها نقبل التصحيح الدائم من اجل الارتقاء والنمو ولا نقف مكبلين امام كل ما هو ماضي فكري او عقلي. ولعل كتاب حكمة الغرب الصادر عن عالم المعرفة العددين 364 و 365 يلخصان من وجهة نظر فلسفية تاريخ تطور العقل الانساني في صراعة من اجل ايجاد المنهج السليم لانتاج المعرفة حيث اصبح التامل النظري والتجربة العملية متلاحمين بعد أن كانت الحرب الضروس قائمة بين العقلانيين والتجريبيين معطلة للعمل كفريق واحد. ولعلنا لو اوصلنا لما في مقالاتك القيمة من لب فحواها الي المواطن العادي سنتجنب اعاقته المستمرة للتقدم الذي يسعي السياسيون والنخب المهمومة به، فلنقل له ان مهمتنا في الحاضر هو كشف ما في معارفنا مما لا تثبته التجربة وان نتخلص مما يوقف تراص المعارف مع بعضها البعض لتكون متماسكة البناء فالعلوم اصبحت تتقارب فيما بينها وتغلق الفجوات بينما الخرافة التي تروجها النظم السياسية العربية والاسلامية تفتت ليس فقط في عقل الفرد بل وفي بنائة الاجتماعي والسياسي فيجعله هشا امام اقل الاخطار.


2 - https://www.facebook.com/Christmas-gift-ideas-22053722169284
Christmas Gifts To Make ( 2016 / 11 / 11 - 14:09 )
Great paintings! That is the kind of information that are meant to be shared around the net. Shame on the seek engines for not positioning this put up higher! Come on over and talk over with my web site . Thanks =)

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال عهد رئ


.. تربت في بيت موقعه بين الكنيسة والجامع وتحدت أصعب الظروف في ا




.. عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال


.. 175--Al-Baqarah




.. المرشد الأعلى الإيراني: لن يحدث أي خلل في عمل البلاد