الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنتحار ثلاثون عبدا

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2012 / 7 / 21
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


كان تجار العبيد يأتون من وراء البحار، بسفن ضيقة تنبعث منها روائح كريهة، تدفعها رياح أطماعهم التي لا تعرف حدا، كانت وجوههم بلون الغبار، وقد خبا بريق عيونهم، وصار شررا ينذر بالحريق .. كان السكان يسمونهم "الطوبوب"، ويحذرون أبناءهم أن يمشوا فرادى في الغابات، حتى لا يختطفهم الطوبوب فيأكلونهم، أو يرسلونهم إلى الطرف الثاني من الكوكب، حيث السماء صفراء، والأرض يباب قاحلة ممتدة بلا نهاية، والهواء مثقل برائحة البارود، ولا يُسمع في مدى الصمت إلا فحيح الأفاعي، وقصص العصابات، ومن يصل هناك لا يعود أبدا.

في الليالي الظلماء التي امتدت مائة عام، كان الطوبوب يصطادون الرجال بشباك الخونة، النساء والأطفال كان صيدهم أسهل، يقتادونهم فرادى وزمرا مقيدين بسلاسل من حديد، يملئون بهم السفن، ثم يمضون. في الطريق الطويل نحو المجهول بدى المحيط أكبر بكثير مما كانوا يظنون، وأكثر قسوة، كانوا مكدسين على رفوف معدنية وهم مكبلين، كما لو أنهم أكياس بطاطا، يخرجونهم بين فينة وأخرى لتنهال السياط على ظهورهم، وتحفر فيها أخاديد متفاوتة العمق، وترسم على جلودهم خطوطا في كل الاتجاهات، وعندما تتقيح جروحهم يرشقونها بماء البحر المالح، فتكمل الشمس جريمتهم.

مزق أبيضٌ ثياب إحداهن، وتجمهر بيض آخرون من حولها، بدأت تغني بنحيب، بلغة إفريقية لا يفقهونها: أقتلوا الطوبوب اقتلوا الطوبوب .. لكن أخوتها كانوا عاجزين حتى عن سماعها، قالت لهم بأسى: دعوني أريكم رقصتي، تباعدوا من حولها، قفزت إلى الماء، كان لونه أزرقا كسحابة خجولة؛ فصار بقعة حمراء تحوم حولها أسماكا لها زعانف مثلتة سوداء .. كانت رقصتها الأخيرة.

على امتداد أشهر ثقيلة، بطيئة، ظنوا أن أنهم سيقضون ما تبقى من حياتهم في هذا المحيط، لكنهم تفاجئوا أن للطوبوب يابسة، وأنهم لا يريدون قتلهم، بل يريدونهم عبيدا، وعرفوا فيما بعد أن هذه اليابسة اسمها "أريزونا"، وذاك النهر اسمه "الميسيسبي"، وهؤلاء القوم بلا رحمة، وأن مستقبلهم قد تحددت ملامحه بكل قسوة وبمنتهى الصرامة.
منحهم الطوبوب أسماء جديدة، وأكواخ من صفيح، ومعاول يحرثون بها مزارعهم، حاولوا الهروب بلا جدوى، أين المفر في هذه الأرض الغريبة ؟؟ منهم من رُوِّضت روحه تحت لهيب السياط، ومنهم من أبى، ثلاثون عبدا اتفقوا دون أي اجتماع، أمسكوا بأيادي بعضهم، وتعانقوا، وراحوا يمشون باتجاه النهر، وهم يصدحون بأغاني أسلافهم، وقد زأرت في دمائهم أسود إفريقيا، ظللوا يمشون ويغنون غير آبهين بتهديدات أسيادهم، حتى وصلوا النهر، ضحك البيض عليهم وهم موقنين أنهم وصلوا طريقهم المسدود، وأنهم سيلهبون ظهورهم هذا المساء، لكنهم واصلوا السير .. وقد صار صوتهم أعلى، ولحنهم يقطر بالحنين .. استمروا بالغناء حتى ابتلعهم هذا النهر الذي لم يعرفوا كيف يلفظون اسمه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الصديق العزيز عب الغني سلامة المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 7 / 21 - 16:44 )
تحية وتقدير
ها انت روائي محترف لتنقل لنا قصة واقعية لكن باسلوب يدخل القلب ويحز فيه رغم معرفته بان اكثر فضاعة من تلك قد جرت
قتلوا بهذه الطريقة عشرات بل مئات الملايين واليوم كل بلادهم بما على ارضها او فقها او تحتها لا تسد (دية) من قتلوا وقتلوا
لكنة الضمير الميت لبلد انبنى بعجينه من دماء الغير وهم فرحون اليوم انهم اعترفوا بتلك الجريمه لكنهم وكونهم المنافقين الاشهر في التاريخ لا يحاسبوا القتلة
قالوا حررنا العبيد لكنهم حرروهم بعد ان اصبحت تكاليف معيشتهم اكثر من انتاجهم ليتركونهم جياع تفتك فيهم الجرائم والمخدرات والامراض
بعد انتجوا الاله التي عوضتهم عن عضلات السود وغيرهم ليستمروا فيما جبلوا عليه بتسخير تلك الاله للقتل ايضا وهم مستمرين و مستمرون
تقبل تحياتي ورمضان كريم لكم ولعائلتكم الكريمة الصغيره و لعائلتكم العزيزه الكبيره هناك و في كل مكان ودمتم بخير م


2 - مقال جميل
هوزان خورمالى ( 2012 / 7 / 21 - 19:07 )
واللة يا اخي سلامة الحياة المقيد ة بسلاسل المجرمين عبا على اهلها الانتحار افضل من العيش تحت الذل ولهوان الف مرة ما هي الحياة ونحن عبيد عبيد الحياة عبيد الساسة مسجونن مرة في نفسنا وفي بجسدنا اى حياة تستحق العيش ويموت يوميا الاف من الابرياء باللة عليك كم يحترق قلبك عندما ترى طفلا يبكي على جثة ابية الهامدة يبكى على مصر امة المسكينة وهي مرتين عبيدة مرة عبيد التخلف والنظام الاجتماعي الفاشل ومرة عبيد الظروف الاقتصادية والسياسية ,نحن عبيد شنا ام ابينا عبيد منذو اليوم الذي تحول البشر الى اسد اليف والحياة الى غابة مزدهرة بتكنولوجيا وقلبونا باتت كا كونكريت الذي يندم على خلقة الاسمنت عزيزي الاستاذ سلامة نحن ماضون في العيش لا حول ولا قوة وليكتب علينا التاريخ كبشر مالنا وما علينا وشكرا لك عزيزي


3 - الصديق عبد الرضا
عبد الغني سلامه ( 2012 / 7 / 22 - 08:04 )
أخي وصديقي عبد الرضا
تحليلك حول مأساة العبيد في أمريكا وقصة تحررهم صائب 100% وبالفعل كما تفضلت فقد ماتت أعداد لا حصر لها أثناء نقلهم في المحيط
في الشمال كانت الصناعة والتجارة هي المسيطرة وكانت هذه لا تحتاج إلى قوى بشرية كالعبيد أما في الجنوب حيث الاعتماد على الزراعة أكثر كانوا بحاجة للعبيد
وحصلت الحرب الأهلية التي نتج عنها تحرير العبيد بعد أن أصبحوا عبئا وخطرا ديموغرافيا وقد تم إعادة جزء منهم إلى أفريقيا وشكلوا منهم دولة ليبيريا
شكرا على تعليقك القيم
وتقبل مودتي


4 - الأخ الفاضل هوزان
عبد الغني سلامه ( 2012 / 7 / 22 - 08:07 )
تحياتي واحترامي لك أيها الصديق الكردي
وأذكرك بأغنية الفنان السوري الكبير سميح شقير
لي صديق من كردستان اسمه شيفان
ويبدو أن لي صديق اسمه هوزان
شكرا على مرورك الكريم ومشاعرك الإنسانية المتدفقة
تقبل مودتي


5 - اين الله ؟!
هوما ( 2012 / 7 / 22 - 11:35 )
اين هو في كل ذلك وماذا يقول المتاسلمون في شانهم والملايين وعلى مر العصور متى تنتهي اللعبة ؟!


6 - أغلبنا يولد وهو عبد ، ويموت كذلك
الحكيم البابلي ( 2012 / 7 / 23 - 22:03 )
مقال رائع جداً
ولكن ... لماذا نذهب بعيداً لإختيار قصص مؤلمة عن العبيد والأسياد ، اليست بلادنا الشرقية كلها خير مثال للعبودية ؟
كبداية ... فنصف مجتمعاتنا المتكونة من النساء هي مستعبدة للرجال ، والرجال أنفسهم مستعبدين للحاكم أو للأجنبي أو لرجال الدين والأنبياء والله
وهكذا يصبح العبد الأفريقي الأسود في الماضي مرادفاً للعبد العربي الأبيض اليوم
العبودية هي عنكتا يشعر الإنسان أنه ليس بإمكانه التصريح أو الإختيار أو التفكير حتى ، العبودية هي عنما يختار لنا الآخرون ما نفعله وما نؤمن به وعندما يقومون بالتفكير نيابة عنا وتحديد سلوكنا كبشر وكأنهم أوصياء علينا وعلى عقولنا وأذواقنا وأجسادنا ، وبحسب كل ذلك فأغلبنا مستعبدون
وسؤالي : هل تحس بأنك إنسان حر في مجتمعك الشرقي ؟
أغلب الأمور الحياتية تأتينا بأوجه وأقنعة مختلفة ، والشاطر يفهم
شكراً على المقال الجميل أخي غني سلامة ، وليس عبد الغني سلامة
حاول التخلص من كلمة ( العبد ) التي في إسمك ، والسخرية إنها عبدٌ للغني !!! لا أعرف كيف إبتلعتها لحد الأن !!!!!؟

اخر الافلام

.. حزب العمال ببريطانيا ينتزع السلطة من المحافظين بعد 14 عاما


.. محمد نبيل بنعبد الله، ضيف برنامج -بدون لغة خشب-




.. أعادت حزب العمال للحكم.. تعرف على نتائج الانتخابات العامة ال


.. بريطانيا تنتخب حزب العمال.. وفرنسا تتجه صوب اليمين المتطرف |




.. هل يجني البريطانيون ثمار اختيارهم السياسي بعد فوز حزب العمال