الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيم والدين

داود روفائيل خشبة

2012 / 7 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يبدأ الشيخ جمال قطب مقاله "الخلافة" فى جريدة "الشروق" يوم السبت 21 يولية 2012 بهذه العبارة: "كل مسلم عاقل يقر أن قيم الدين ومقاصده هى إطار عام لحياة الأمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما أن أحكام الشريعة هى السقف الأعلى للتقنين الحاكم للعلاقات والتصرفات بين سائر المواطنين."
هذا الكلام الهادئ العاقل المتزن الذى يتردد ويتكرر حتى يصبح فى مصاف البديهيات التى لا تقبل جدلا ولا نقاشا ولا مساءلة هو أفدح ضررا من الكلام الأهوج الذى يطنطن به غلاة الأصوليين والسلفيين. فهذا الكلام الهادئ العاقل المتزن، إلى جانب ما يكتنف مفرداته من هلامية وغمامية تفتح المجال لتأويلات لا تحدّها حدود، وإلى جانب الإيحاءات المستترة – عن قصد أو عن غير قصد – خلف بعض المفردات، فإنه ينطوى على مغالطات بعيدة الأثر. فلنحاول أن نمضى مع هذه العبارة خطوة خطوة.
"كل مسلم عاقل" – لن أتوقـّف طويلا لأسأل: لماذا المسلم تحديدا؟ ما دمنا نتحدث عن القيم وعن الإطار العام للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعن التقنين للعلاقات والتصرفات بين سائر المواطنين، فلماذا نختص المسلم؟ لماذا لا نتحدث عن كل إنسان أو عن كل مواطن؟ لن أطيل الوقوف عند هذه النقطة ولو أننا قد نرى فيها ملمحا من الإقصائية الدفينة فى الفكر الدينى عامة والفكر الإسلامى على الأخص، ومن هذا القبيل الإشارة إلى "إطار عام لحياة الأمة" بدلا من الإشارة إلى حياة الشعب أو الوطن أو المواطنين، ولا يخفى أن "الأمة" فى الوجدان الإسلامى هى أمة الإسلام. هذه كلها ملاحظات هامشية، فلنمض إلى بيت القصيد.
يقول الشيخ جمال قطب أن "قيم الدين ومقاصده هى إطار عام لحياة الأمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا" وهذا القول فى باطنه زعم زائف تشارك فيه كل "الأديان السماوية" إذ تقرر فى يقينية زاعقة أن كل القيم والمبادئ الأخلاقية والمُثل العليا ترتبط بالدين وبالإيمان بإله خالق وبحياة ما بعد الموت وما فيها من ثواب وعقاب، وتؤكد هذه "الأديان السماوية" أنه بغير الدين وبغير هذا الإيمان فإنه لا يمكن أن يلتزم الإنسان بالقيم والمبادئ والمُثل الأخلاقية ولا بد حينئذ أن يحيا الإنسان حياة بهيمية. وتزرع التربية الدينية هذه المغالطة فى عقول المتديّنين فتصبح عندهم مسَلـَّمة بديهية لا تحتاج إثباتا أو برهانا ولا تقبل التمحيص أو المساءلة.
المسلم البسيط يعتقد أو يتصور أن البشر قبل الإسلام كانوا يعيشون فى جهالة تامة، لا يعرفون شيئا عن العدل أو الرحمة أو الأمانة أو العفة، بل إن الكثيرين ممن هم على حظ طيب من التعليم والوعى، وإن كانوا فى باطن عقولهم ‘يعرفون’ غير هذا، إلا أنهم فى تفكيرهم وفى حديثهم العفوى يصدرون من هذا الاعتقاد بفعل ما زرعته فى نفوسهم التربية الدينية.
هؤلاء الذين يقررون أن الأخلاق تنبثق من الدين لا يفتحون عقولهم على حقائق التاريخ الإنسانى. إنهم لا يدركون أو لا يتبيّنون، عن جهل أو عن عمد، أن أقدم ما وصلنا من سجلات التاريخ الإنسانى، من مصر القديمة ومن بلاد ما بين النهرين، تعبّر فى وضوح عن أسمى وأنقى البصائر الأخلاقية. صحيح أن تلك البلاد وتلك المجتمعات كان فيها دين، ولكن الدارس لا يسعه إلا أن يتبيّن استقلال المصدر الأخلاقى عن المصدر الدينى، فبينما كان الفكر الدينى والممارسات الدينية ينشغلان بمحاولة حل ألغاز الكون والطبيعة من ناحية ومحاولة التأثير، بالسحر وبالتقدمات والقرابين، على قوى الطبيعة من ناحية أخرى، كانت قيم ومبادئ الأخلاق تصدر، من ناحية، من مشاعر التعاطف والود الفطرية التى نجدها عند معظم الثدييات، ومن ناحية أخرى من حاجة الإنسان للعيش فى جماعة. ويمكننا التحقق من كل هذا بملاحظة نمط الحياة عند الكثير من الشعوب والقبائل البدائية.
فى محاورة "كريتون" لـ أفلاطون يقول سقراط: "ينبغى ألا ننتقم أبدا أو نردّ الشرّ بالشرّ لأىّ أحد، مهما كان الشرّ الذى كابدناه منه"، وفى محاورة "جورجياس" يقرر سقراط أن اقتراف الظلم شرّ أفدح من معاناة الظلم. قال سقراط هذا قبل المسيح بأكثر من أربعة قرون وقبل الإسلام بأكثر من ألف عام. وفى محاورة "يوثيفرون" عندما يقرر يوثيفرون أن الصلاح هو ما ترضى عنه الآلهة يسأله سقراط: هل الصلاح صلاح لأن الآلهة ترضى عنه أم أن الآلهة ترضى عنه لأنه صلاح؟ وفى باطن هذا السؤال فكرة بعيدة الغور، فلو أن الصلاح هو صلاح لأن الآلهة ترضى عنه نكون بإزاء أخلاقيات سلطوية تجعل منا عبيدا، أما إذا قلنا إن الآلهة ترضى عن الصلاح لأنه صلاح نكون بإزاء أخلاقيات تلقائية يتحتم حتى على الآلهة أن تلتزم بها. إذا لم تنبعث الأخلاق من داخلنا، من إنسانية الإنسان، فلا كرامة للإنسان ولا قيمة ذاتية له.
بدلا من الحديث عن "قيم الدين ومقاصده" ينبغى أن نتحدث عن القيم الحضارية التى أوجدها الإنسان وإذ أوجدها أوجد إنسانيته وقيمته وحقيقته من حيث هو إنسان، هذا إن أردنا أن نفكر فى وضوح وأن نمضى على بصيرة فى إقامة دولة مدنية تكون الوعاء لمجتمع إنسانى غايته توفير الحياة الكريمة للإنسان وأسباب ارتقاء الإنسان.
لنأخذ الآن الجزء الأخير من عبارة الشيخ جمال قطب: "كما أن أحكام الشريعة هى السقف الأعلى للتقنين الحاكم للعلاقات والتصرفات بين سائر المواطنين." لنتجاوز عن ضبابية "السقف الأعلى للتقنين"، فما هى "أحكام الشريعة" هذه التى يراد لها أن تكون سقفا أعلى للتقنين؟ من المعروف أن الخلاف بين "علماء الدين" حول مفهوم "أحكام الشريعة" خلاف غويط متشعّب يجعل من هذا المفهوم متاهة بأدق معنى للكلمة. اسأل "عالما" من أكثرهم تبحّرا فى العلم أن يحدثك عن حدود أحكام الشريعة، فيحدثك حديثا لا ينقطع على مدى ساعات، حديثا ثريّا بمصطلحات وتمييزات تذهلك، وفى النهاية تجد نفسك عاجزا عن أن تخرج منه بأى شىء محدّد. ما علينا؛ لنترك متاهات الفقه والبحث النظرى لأهلها، فما معنى الاحتكام لأحكام الشريعة عمليا؟ أحكام الشريعة أحكام محدّدة وُضِعت لأوضاع محدّدة فى ملابسات محدّدة، فكيف يكون تطبيقها والدنيا قد تغيّرت وتتغيّر على الدوام؟ لكن حتى هذا أنا مستعدّ للتجاوز عنه. عن نفسى، أنا لا يضيرنى أن تصدر غدا قوانين تطابق "أحكام الشريعة" فى كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ما يعنينى هو كيفية مناقشة وإقرار تلك القوانين. لا أقبل أن يُفرض على قانون بناء على نصّ جامد مهما زُعِم للنص من قدسية. أقنعنى بأن هذا التشريع المعيّن المحدّد فيه فائدة للناس وفيه نفع للمجتمع فأقبله، لكن لا تقل لى يجب تطبيق هذا لأن سلطة فوقية قضت بهذا.
يذكر الشيخ جمال قطب "المواطنين" فى آخر عبارته، لكن المواطنة لا يكون لها أى معنى إلا فى سياق دولة مدنية علمانية.
الاحتكام لغير العقل إهدار لكرامة الإنسان واغتيال لإنسانية الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دولةةمدنية
Baz ( 2012 / 7 / 23 - 01:50 )
الدين يفرض على الناس المتدينيين أن يلتزموا به و يقوموا بتطبيقه حيثما استطاعوا لأن فيه كل الخير لهم على الأرض و فى السماء أيضا. الناس المتدينيين البسطاء لا يسعهم إلا الالتفاف حول الشيوخ أو الكهنة الذين سوف يروهم الطريق إلى الجنة! لذا فلا أرى فى محاولة الاسلاميين لتطبيق الشريعة الاسلامية أى فجاجة.


2 - الحل ؟
حائر ( 2012 / 7 / 23 - 10:40 )
فصل الدين عن الدولة هو الحل لازمة العالم العربي!!!!!!!

اخر الافلام

.. اليهود المتشددون -الحريديم- يدعمون -مقترح بايدن- بشأن الحرب


.. مستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى بالأعلام الإسرائيلية




.. مئات المستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى.. ويرقصون على أب


.. بروفايل| الداعية الطبيب سعيد عبدالعظيم.. أحد مؤسسي السلفية ب




.. مستوطنون يؤدون رقصات داخل المسجد الأقصى في مدينة القدس