الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الشعر والسحر

نافذ الشاعر

2012 / 7 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما الشعر وما السحر؟
الشعر هو تعبير عن تجربة شعورية في صورة حية. والتعبير عن هذه التجربة الوجدانية يكون إما شعراً وإما نثراً. واشتقاق كلمة شعر من "الشعور"، فالشعر هو تمرير للإحساس والشعور من شخص إلى شخص من خلال الكلمات والألفاظ.
ومنه قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) الشعراء 224
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) هو ما يفسر لنا هذا الأمر، ومعناه أن الشعراء يستطيعون نقل تجارب شتى وانفعالات مختلفة إلى الآخرين فينفعل الآخرون بها حتى لكأنهم عاشوها تماماً، في حين أن الشاعر نفسه قد لا يكون عاش هذه التجربة، وإنما زيفها بما له من قدرة على النفاذ إلى كل تجربة وتلبسها ونقلها إلى الآخرين بمكر ودهاء؛ وهذا هو معنى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يعني يوهمون السامع أنهم فعلوا ما قالوا، وذاقوا ما وصفوا..
نأخذ مثلا ما حدث عندما ولّى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "النعمان" ولاية، وكان شاعراً فقال:
ألا هَلْ أتى الحَسْناءَ أنَّ حَلِيْلَها... بِمَيْسَانَ يُسْقى في زُجاجٍ وحَنْتَمِ
إذا شِئْتَ غَنَّتْني دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ... وصَنّاجَةٌ تَجْذُو على حَرْفِ مَنْسِمِ
فإن كُنْتُ نَدْماني فبالأكْبَرِ اسْقِني... ولا تَسْقِني بالأصْغَرِ المُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أمِيـْرَ المؤْمنينَ يَسُـوْؤُهُ ... تَنَادُمُنا فـي الجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ

فلما بلغ هذا القول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: وأيم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فقال النعمان: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وما ذاك الشعر إلا شيئاً طفح على لساني [1]
والشاهد هنا قول النعمان: " ما شربتها قط! " ولكن سامع أبياته يعجب من صدق تجربته الشعورية التي نقلها بدقة أو قل زيفها بدقة لدرجة أنها تهيّج في نفس بعض السامعين الحنين والذكرى والشجن.. ولربما دفعت من أقلع عن الشراب حديثاُ ولا زال يتذبذب بين الإقدام والإحجام عن الشراب.. لربما بسماعه هذه الأبيات تترجح لديه داعية الإقدام، وتطيش لديه كفة الميزان، فيسارع للعودة إلى الشراب، مع أن قائل هذه الأبيات الذي أوحى بما أوحى لم يشربها قط !..

وعلى هذا ليس الشعراء هم الذين يكتبون القصائد العمودية ذات الوزن والقافية أو التي تخلو من الوزن والقافية؛ إنما "الرواية والقصة" التي يكتبها كبار الأدباء هي "شعر" أيضا..
ألم تر إلى الأديب الواحد يكتب رواية فيصور بطلها متديناً شديد التدين، حتى تكاد تجزم أن هذا الأديب عاش حياة البطل وأنه عرف حقيقة الدين ومشاعر المتدينين. ثم يكتب رواية أخرى فيصور بطلها عاشقاً ولهانا.. فيطلعك على خفايا قلبه وخلجات نفسه فتجزم أنه عاشها وعلمها علم اليقين. ثم يكتب لك قصة أخرى فيصور لك بطلها لصاً ضليعاً في السطو والإجرام يقتفي مشاعره ويصور أحاسيسه حتى لكأنه كان لصاً يوما ما ؟! ويقرأ الناس هذه الروايات المتعددة الأبطال والوجوه فيأخذ كل قارئ منها ما يتفق مع مشربه وهواه مما يدفعهم إلى مزيد من الجرأة والفعل والإقدام.. أليس يصدق على هذا قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)

إذن، يتمثل "شعر" هذا العصر في "الرواية" وما لحق بها من أفلام ومسلسلات.. أما قديما فقد كان "الشعر" يحل مكان "الرواية" لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال أن الرواية لم تكن معروفة ولم ينبغ كتابها بعد، وسبب آخر وهو أن الشعراء الأقدمين كانوا يمتلكون ناصية البلاغة والفصاحة على حد سواء.. فإذا قال الشاعر قصيدة أصاب المعنى في عبارات قليلة موجزة، ثم فهمها السامع قبل أن يفهمها القائل.
وسبب آخر وهو وجيه وهو ما كان للكلمة عامة وللشعر خاصة من مكانة في النفس قد بلغت حد القداسة والإجلال فلا يستطيع أن يعرض عن سماعه إنسان، فتجد أن بيتا من الشعر يُقال فينقش على صفحات الزمن قبل أن يخط على صفحات الورق!
وليس في الحاضر مكاناً للمقارنة أو المقاربة بين هذه الحال وتلك، أو التفتيش عن أمثال هذه القداسة في دنيا الناس اليوم التي لو خُيّر الكثيرون فيها لاختاروا طبقاً من الفول على ديوان شعر يضم بين دفتيه قصائد فحول الشعراء.
وعلى هذا فالممثل شاعر، والقصاص شاعر، والأديب شاعر، والخطيب شاعر، والمتحدث اللبق شاعر....إلخ.
والشاعر في هذا يقابل الساحر الذي يوحي إليك من طرف خفي بأفكاره وآرائه التي تسيطر عليك وتغير تفكيرك وسلوكك دون ملاحظة منك أو شعور، ودون وعي بهذا التحول أو مصدره.. ولهذا ندرك سبب اتهام كفار العرب للنبي صلى الله عليه وسلم، بالسحر.
فالشاعر كالساحر يصيب المستمع بحالة استرخاء وفتور ودغدغة، ويقف به في منطقة حرجة حيث تبدأ أفكاره وآرائه تنفذ إلى باطنه وتشكل وعيه، بعدما اخترق الأنساق الداخلية للسامع.

وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"[2] يعني هناك من يملك ناصية القول لدرجة أنه يغير أفكار السامعين وآراءهم، دون شعور منهم لسبب هذا التغيير.. فقد جاء تعريف السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، ويقال سحره أي خدعه، ومنه قوله تعالي على لسان المشركين: (إنما أنت من المسحرين) يعني من المخادعين. ويقال للحنجرة واللهاة سحر، لأنها خافية، ويقال للطعام الذي يؤكل في الليل سحور لأنه يؤكل في الظلام [3]

فالسحر أنواع منه سحر التخييل أو الشعوذة.. ومنه سحر الصرف، وهو صرف الشخص من حال إلى نقيضها: من الحب إلى الكره، ومن الكسل إلى النشاط وهكذا.. وهذا هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" يعني هنالك من الأقوال التي تعمل في القلوب والنفوس عمل السحر، ومنه قوله تعالى:(ومن شر النفاثات في العقد)
لأن معنى "العقد" في القرآن الكريم هي الرابطة القوية التي تقوم بين الناس، فعقدة النكاح وردت في أكثر من آية بمعنى رابطة الزواج، قال تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) (البقرة237) فمعنى (ومن شر النفاثات في العقد) أن هناك من الناس من ينفث سمومه، ويبث أكاذيبه في الجماعات المتحابة المترابطة التي تقوم بينها آصرة الصداقة والقربى؛ ليوهن هذه الرابطة، ويجعل بدلا منها العداوة والبغضاء والفُرْقة، بدلا من المحبة والألفة.
يقول الفخر الرازي: {ومن شر النفاثات في العقد} أي النساء توهن في عزائم الرجال وآرائهم؛ وهو مستعار من عقد الحبال.. فمعنى الآية أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال فيحولنهم من رأي إلى رأي، ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن كقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فلذلك عظّم اللهُ كيدهن فقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}[4] .
ويقول الزمخشري في تفسيره: معنى (ومن شر النفاثات في العقد): "يجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات، من قوله: (إن كَيْدَهُنَّ عظِيمٌ) تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد.. أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم بمحاسنهنّ، كأنهنّ يسحرنهم بذلك [5]

وعلى هذا فالشاعر والساحر يقومان مكان القوة المادية في تحقيق النتائج المرجوة، لأن الشعر مفهوم عام وظيفته نقل شعورنا للآخرين والتأثير عليهم وقلب قناعاتهم من النقيض إلى النقيض، وتغيير الأحوال التي كانت قائمة بهدوء ورصانة باقتناع أو بدون اقتناع..

وتعريف السحر كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، وسحره أي خدعه.. هذا التعريف ينير لنا السبيل لفهم قوله تعالى: (يعلمون الناس السحر.. ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) (البقرة102)
هذا التعريف يبين لنا أن قوله تعالى: (يعلمون الناس السحر) معناه أن شياطين الجن والإنس أصبحت تعلم الناس الأسرار وكيفية استخدام الحيل والخفاء في صناعاتهم وشئون حياتهم؛ لأن الحضارة الحديثة كلها تقوم على الخفاء، والتحكم في الأشياء عن بعد بلا رباط مادي ملموس، وقد كانت تلك الأشياء في الماضي من قبيل المعجزات، التي لا يتصور أحد حدوثها بحال من الأحوال، فقد كانت كل الأشياء في الماضي ظاهرة للعيان ملموسة بالحواس لا تقوم على الخفاء، على عكس علوم اليوم التي تقوم كلها على الخفاء الذي لا يمكن تعلمه بسهولة، ولا يستطيعها إلا الأذكياء النابهون.

أما معنى قوله تعالى:(ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) في ضوء تعريف السحر بأنه كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، ويقال سحره أي خدعه:
يعني لا يتعلم الناس من هذه العلوم الحديثة إلا ما يسبب الفراق بين الرجل وزوجته وأهله وأصدقائه وأقاربه.. أي أن الناس دوما يميلون إلى طلب الجانب السيئ من هذه الوسائل الحديثة، سواء في وسائل الاتصالات أو في المحطات الفضائية وما تبثه من برامج ومواد تحريضية تحرض الرجال على النساء وتحرض النساء على الرجال دون شعورهم وإدراكهم بذلك، أي يكون فعل هذه البرامج فعل السحر الذي يقود الإنسان إلى فعل أمر من الأمور دون أن يكون على وعي تام بما يفعل، ولهذا فإن حالات الطلاق والشقاق تكثر في البيوت من وراء هذه الوسائل الحديثة.
فعلى سبيل المثال كشفت دراسة إيطالية أن 90% من حالات الخيانة الزوجية كانت بسبب المحمول [6]، حتى لكأن المحمول هو (القرين) الذي قال الله فيه: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

ولهذا فإن مفهوم الشعر لم يعد ثابتاً كما في الماضي، ولم يعد له صورة واحدة متمثلة في قصيدة موزونة ومقفاة، وإنما هو مفهوم متغير ومتحول حسب الزمان والمكان فيستلهم الجديد كي يصبح في ثراء متواصل وعطاء متجدد.. ويمكننا القول إن المجالات الإعلامية وما يتعلق بها من إشهار ودعاية وترويج وأفلام.. كل هذه الأساليب أصبحت شعر العصر الحديث(‍!)

إذن فالشعر يوجد اليوم في فنون غير الشعر وعلى وجه الخصوص في الرواية والقصة وما تبعها من أفلام وتمثيليات.. وقد جاءت الشاعرية في بعض الروايات أعمق وأخصب مما جاءت في كثير من الشعر، إلا أن الشعر استمر مهيمناً على كل أشكال وأساليب التعبير الأدبي الأخرى على مر العصور، وكان هو ملجأ الشعراء الوحيد الذي يودعونه عواطفهم وانفعالاتهم إلى أن ظهرت الرواية فأخذ الشعر في التقهقر حتى تربعت على عرشه واستولت على ملكه. وما نراه اليوم مما يسمى شعراً فليس بشعر في حقيقة الأمر، إنما هو شكل من أشكال التعبير الأدبي الفلسفي هيأت له الظروف أسباب الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير ابن كثير ج4/160
[2] سنن أبو داود: باب ما جاء في الشعر
[3] تفسير النيسابوري: غرائب القران ورغائب الفرقان ج1/500
[4] تفسير الفخر الرازي: سورة الفلق
[5]الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: سورة الفلق
[6] صدمة الانترنت وأزمة المثقفين: احمد صالح، ص 194








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح