الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنهج الجدلي لابن حزم في تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 7 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يختزل ابن حزم أسلوب التقييم ويرميه إلى ميدان الجدل. ومن خلاله يحاول كشف ترابط واختلاف الآراء حول القضايا المثيرة للجدل. وهو أسلوب أسس له في مقدمته النظرية، التي سعى من خلالها بيان ما أسماه "ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها". وقد بناها على أساس مدركات الحس الخمس وما اسماه بالإدراك السادس (البديهة). وذلك لان الحواس تدرك أن الرائحة الطيبة مقبولة للطبع بطبعها والرائحة الرديئة على العكس، وأن اللون الأحمر يختلف عن الأخضر، أما الإدراك السادس فمثل إدراك كون الجزء أقل من الكل، وعدم كون الجسم الواحد في مكانين في نفس الزمن، ولا فعل إلا لفاعل. وليست هذه كلها سوى "أوائل العقل" التي لا يمكن الاختلاف فيها إلا في حالة افتراض المغالطة والمكابرة مثل المغالطة في رفض "أن الشيء لا يكون إلا في زمان". وبغض النظر عن الصعوبات التي تلازم الجدل، إلا أنها ترجع في نهاية المطاف إلى حقائق بسيطة. يقوم فحواها في مدى القرب أو البعد عن مدركات الحواس والبديهة. ذلك يعني أن الصعوبة بالنسبة له تقوم في مستوى تعقد الظاهرة لا في "الحقيقة كما هي". إذ "ما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال" كما يقول ابن حزم.
مما أدى إلى أن يكون البحث عن الحقيقة موضوعا للجدل. من هنا ضرورة تحديد معيارها، وذلك لأهميته بالنسبة للتقييم والفكر. من هنا انتقاده للسوفسطائية ونزعة الشك. وكتب بهذا الصدد يقول، بان اعتراضات السوفسطائية الخالصة لا معنى لها "لأن الخطاب وتعاطي المعرفة إنما يكون مع أهل المعرفة". وإن "حسن العقل" يبرهن على الفرق بين ما يراه النائم والمستيقظ، وضعف الإحساس أحيانا وحتى خطأ أحيانا أخرى في بعض الأمور هو "لآفة في حس الحاس لا في المحسوس". أي أن الشيء موجود، وبالتالي يمكن إدراكه ومعرفته كما هو. أما طرق السوفسطائية ومساعيها للحصول على برهان لكل برهان، تنفي أساس المعرفة وأساس مقدماتها الخاصة. فمن يطلب برهان على برهان فهو مثبت لبرهان ما معين، كما يقول ابن حزم. أمام نفي الحقائق فهو مكابرة للعقل والحس. بينما لا يقدم الشك إجابة كاملة، بسبب استناده إلى أرضية هشة. وذلك لان البرهنة على الشك هو تثبيت "حقيقة ما". وفي حالة نفيهم ينفون شكوكهم. كما واجه أفكار واعتراضات النزعة العنديّة (أو ما هو شائع في العربية الحديثة بمصطلح الذاتية. وهو مصطلح خاطئ من حيث الأصل والجذر والمعنى. والأدق مصطلح عنديّ. وهو مصطلح عربي وأسلامي قديم) بفكرة وحدة الحقيقة وموضوعيتها وإمكانية معرفتها. وكتب بهذا الصدد يقول "إنما يكون الشيء حقا بكونه موجودا ثابتا سواء أعتقد أنه حق أو أعتقد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان الشيء معدوما موجودا في حال واحدة في ذاته".
لم تقف مأثرة ابن حزم في علم الملل والنحل وثقافة التقييم عند حدود الجدل، بل وتعدته إلى مختلف ميادينه ومعضلاته الفكرية. فنراه يجمع في آن واحد ويناقش مختلف القضايا الفلسفية المتعلقة بالكون ووجوده وكذلك معضلات الفكر الكلامي الإسلامي. كما ادخل في فلك جدله الفكري وتقييمه مختلف الأديان، مثل اليهودية والنصرانية. وأخضع كتبهم المقدسة لدراسة دقيقة ومقارنات متفحصة، محاولا الكشف عن "تحريفاتها" المنافية للعقل والمنطق. كما ادخل في منهجه التقييمي أسلوب المقارنة بين الاتجاهات والفرق الإسلامية على أساس الابتعاد والاقتراب من مذهب "أهل السنة والجماعة". مما حدد بدوره تصنيفه للفرق الإسلامية وموقفه المتميز منها مقارنة بمن سبقه في هذا المجال. فقد قسم ابن حزم الفرق الإسلامية إلى خمس فرق عامة وهي أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والخوارج والشيعة. ويتفرع كل منها إلى فرق عديدة. ذلك يعني أنه لا يحصر نفسه بحديث انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. وعوضا عنه وضع "السّنة" في أساس مواقفه وتقييمه للفرق، وجعل منها محورا تلتف حوله المدارس الإسلامية قربا وابتعادا. وبغض النظر عن عقائدية هذا الأساس والمحور، إلا أنهما أديا إلى صياغة مبدأ عام في تقييم الفرق والمدارس. ولم ينف هذا المبدأ العام إمكانية المقارنة. على العكس! أنه وّسع إمكانياته من خلال تحريره من قيود "الحروف المقدسة"، مع أن ذلك ليس بالضرورة ضمانة الوصول إلى نتائج سليمة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن محور "السّنة" الذي جعله البغدادي محكا لتقييم الفرق هو ليس مقياس البغدادي المذكور أعلاه. وذلك لأن ابن حزم لم يتكلم عن "الفرقة الناجية" بل عن منظومة سنيّة، هي منظومته الظاهرية، كما هو جلي في تقييمه لاقتراب هذه الفرقة أو تلك من "السّنة" أو ابتعادها عنها. وطبق موقفه هذا على الفرق الخمس العامة الآنفة الذكر. فنراه يعتبر المرجئة من أتباع الإمام أبي حنيفة النعمان (ت - 150) الأقرب إلى السنّة، بينما اعتبر الجهمية أصحاب الجهم بن صفوان (ت - 128) ومحمد بن كرام (ت - 255) والأشعري أبعدهم عن السنّة.
من هنا لا معنى للأحكام التي يوردها البعض حول ما يسمى بسوء فهم ابن حزم لآراء الأشعري، بسبب عيشهما في زمان متقارب، وبالتالي لم يطلع على آراء الاشعري تفصيلا بل جملة. لاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأشعري من البصرة وابن حزم من الأندلس. أما في الواقع، فان الأشعري توفي عام 324 وتوفي بن حزم عام 456. من هنا صعوبة توقع عدم وصول كتب الأشعري إلى الأندلس. إضافة لذلك أن الفارق الزمني بين كتابة "مقالات الإسلاميين" و"الفصل" لا يقل عن مائة عام. ثم أن هناك معلومات كثيرة تؤكدها كتب التاريخ والفكر والطبقات عن دراسة شخصيات أندلسية ومغربية عديدة في الشرق، نقلت آراء الاشعري وكتاباته نقلا وافيا.
بعبارة أخرى إن موقفه من الأشعرية بوصفها تيارا مرجئيا مبني على تقييم خاص في الموقف من السنّة، كما فهمها ابن حزم. ومن هذا الفهم بنى حكمه وتقييمه للاشعري، باعتباره ممثلا لفرقة المرجئة. وهو تقييم شاطر بعض جوانبه الكثير من ممثلي علم الملل والنحل المسلمين. ولعل ذلك كان مرتبطا بعدم تحول الاشعرية آنذاك إلى مدرسة خاصة مؤثرة ليس فقط في علم الكلام، بل وبمجمل الثقافة الإسلامية. فالبغدادي، على سبيل المثال لا يوردها ضمن تصنيفه للفرق، واعتبر الاشعري شيخا من شيوخ أهل السنة والجماعة، يعتمد عليه بوصفه مصدرا من مصادر العلم. أما الشهرستاني فقد أدرجه ضمن مدرسة الصفاتية.
مما سبق يتضح، بأننا نقف أمام ظاهرة جديدة في التقييم مبنية على أساس إفراز مبدأ عام تصنّف الفرق على أساسه. من هنا اختلاف ابن حزم عن الشهرستاني من حيث الموقف الخاص من الاشعري والاشعرية والتقاءهما من حيث الموقف المنهجي المجرد. لهذا توصل ابن حزم استنادا إلى مبدأ القرب والبعد من "السّنة"، إلى أن الاشعري ليس ممثلا لمدرسة مستقلة خاصة بل هو جزء من المرجئة، بينما اعتبره الشهرستاني استنادا إلى فكرة الصفات، ممثلا للصفاتية، التي أشرك فيها إلى جانب الاشعري فرقة الكرامية.
وطبق ابن حزم موقفه هذا على الفرق جميعا. فقد اعتبر الفرقة النجارية أتباع الحسين بن النجار (ت - 230) من بين فرق المعتزلة الأقرب إلى السنة، بينما اعتبر الهذيلية أتباع أبي الهذيل العلاف (ت - 226) أبعدها عنها. واعتبر الفرقة الصالحية - البترية أصحاب الحسن بن صالح بن حي (ت - 168) من بين فرق الشيعة الأقرب إلى السّنة، بينما اعتبر فرقة الامامية أبعدهما عنها. وأعتبر فرقة الإباضية من بين فرق الخوارج الأقرب إلى السّنة، بينما اعتبر الأزارقة أبعدهم عنها. كما نراه يخرج من أهل الإسلام فرق الخابطية وغلاة الروافض والمتصوفة والبطيحية و"من خرق الإجماع من العجاردة".
غير أن مبدأ الاقتراب والابتعاد من السنّة عند ابن حزم هو ليس مبدأ دينيا صرفا، بل مبدأ منظومي حاول تطبيقه المنفرد على كل فرقة من الفرق وبما تتميز به من مبادئ أساسية خاصة بها. فقد افرز عند المرجئة كلامها عن الإيمان والكفر ثم الوعيد، وعند المعتزلة كلامها عن التوحيد ثم القدر، وعند الشيعة كلامها عن الإمامة وتفضيل الإمام علي، وعند الخوارج كلامها في الكفر والإيمان والإمامة. وبني تقييمه عن الاقتراب كل منها أو ابتعاده عن السنّة، على أساس اقترابها أو ابتعادها من منظومته الخاصة في تناول المبادئ الأساسية المميزة لهذه الفرق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن