الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الإيمان عند الغزالي (1-2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 8 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد واجه الغزالي إشكالية الإسلام والإيمان كما تبلورت في تقاليد الكلام والتصوف. وانطلق منها في مواجهة مختلف جوانبها. من هنا توكيده على تجاهل الإفراط في استعراض آراء الفرق الإسلامية واختلافاتها بهذا الصدد. وفضل الاستعاضة عن ذلك بما اسماه "بالتصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له" . أما إهماله "لنقل ما لا تحصيل له" فمرتبط أولا وقبل كل شيء بإدراكه الجديد للطابع العملي لمختلف جوانب هذه الإشكالية. ومن ثم أهميتها بالنسبة للروح الاجتماعي والأخلاقي الإسلامي. ذلك يعني أن إهماله "لنقل ما لا تحصيل له" يتضمن على إدراك خاص لتجاهل ما لا قيمة له في جدل الكلام وتقاليده المذهبية والمدرسية الضيقة. وهو موقف كان يحتوي في أعماقه على إدراك نظري وعملي جديد لإشكاليات الإيمان. وهو إدراك وثيق الارتباط بما يمكن دعوته بالتجديد المنظومي للإيمان، باعتباره جزءاً من مهمة الإحياء الشامل للأمة. لهذا حاول منذ البدء، شأنه في مواقفه من كافة القضايا، تحديد معنى المفاهيم والكلمات، من اجل مناقشة مضامينها الفكرية. من هنا تأكيده على ما اسماه بالمباحث الثلاثة المتعلقة بكشف حقيقة الإسلام، والإيمان، وعلاقتهما المتبادلة.
وهي مباحث تتطابق من حيث مضمونها مع فكرة المستوى والأسلوب. وهو تطابق يتضمن محاولة لمّ شمل الوحدة المجزأة للإيمان والإسلام كل لحاله، والانفصام أو الفطام الفكري والروحي بينهما من خلال إعادة الوحدة إليهما عبر تأسيس الصلة الداخلية بين الأسلوب والمستوى والمعنى. من هنا نراه ينطلق مما اسماه بالمبحث اللغوي لكلمة الإيمان من خلال إبراز معنى التصديق فيها، أي أن معنى الإيمان هو معنى التصديق. أما الإسلام فهو التسليم بالإذعان والانقياد. والتصديق محله القلب واللسان، بينما التسليم محله القلب واللسان والجوارح. ومن هذه المقدمة اللغوية (أو التفسير الظاهري) حاول بناء استنتاجه القائل، بان كل تصديق بالقلب هو تسليم، وكل إيمان هو إسلام. وبالتالي فان الإسلام اعمّ والإيمان اخص. ومن ثم، فأن الإيمان اشرف أجزاء الإسلام. وذلك لان كل تصديق تسليم وليس كل تسليم تصديق .
أما النوع الثاني من المباحث فهو ما جاء به إطلاق الشرع، الذي ميز بين مفهوم الإسلام والإيمان، بوصفهما صيغاً متباينة أما على سبيل الاختلاف وأما على سبيل التداخل أو الترادف. فالاختلاف هو كما في الآية"وقالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا". أما التداخل فحسب ما ورد في الحديث "أن أفضل الأعمال هو الإسلام. وعندما سئل عن أي الإسلام أفضل، أجاب: الإيمان". أما الترادف فهو كما في الآية "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين". وليست الصيغ الثلاث المذكورة أعلاه سوى الصيغ الشرعية لعلاقة الإسلام بالإيمان. ففي الاختلاف يظهر الإسلام تسليما بالظاهر، والإيمان تصديقا بالقلب. أما في التداخل فالإسلام هو تسليم بالقلب والقول والعمل جميعا، والإيمان هو بعض ما دخل في الإسلام، أي التصديق بالقلب. في حين يتطابق الإسلام والإيمان في الترادف. انطلاقا من أن الإسلام والإيمان كلاهما تسليم بالقلب والظاهر. وذلك لان التسليم الظاهر بالقول والعمل هو ثمرة تصديق الباطن .
أما المبحث الثالث فهو الحكم الشرعي. بمعنى أن الإسلام والإيمان حكمان آخروى ودنيوي، أو مجرد وملموس، ميتافيزيقي وواقعي، خيالي وحقيقي. فالأخروي منها على سبيل المثال هو الإخراج من النار ومنع التخليد فيها استنادا إلى الحديث القائل، بأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وهي "الذرة" الهلامية التي احتدم حولها صراع المدارس والفرق منذ نشوء الخلافة حتى عصر الغزالي من اجل تدقيق حدها وتحقيق ماهيتها. وهو صراع عمق روح التفاؤل في إدراك ماهيتها من جهة، وساهم في تشطيرها غير المتناهي من جهة أخرى. وهي عملية عادة ما ترافق صيرورة التجزئة والوحدة الملازمة لتطور الفكر والثقافة. وفيها ومن خلالها يجري توليف المنظومات الشاملة في مساعيها إعادة توحيد الأجزاء المتناثرة للتجربة الاجتماعية والسياسية للثقافة. وهو السر القائم وراء مواقف الغزالي "المتعالية" من "خلافات واختلافات الفرق والمدارس في قضايا الإيمان وماهيته"، وبالأخص تجاه المواقف الثلاث الكبرى التي بلورتها الثقافة الإسلامية تجاه هذه القضية. والمقصود بذلك الموقف القائل، بأن الإيمان هو مجرد العقد، وأن الإيمان هو عقد بالقلب وشهادة باللسان، وأخيرا أن الإيمان هو عقد بالقلب وشهادة باللسان وعمل بالأركان.
وعندما ننظر إلى آراء الغزالي بصدد هذه القضية، فإنها تبدو في مظهرها تجميعا للمواقف الثلاثة المذكورة أعلاه. فهو يؤيد من يجمع بينها. لهذا نراه يضع الموقف القائل، بان الإيمان هو قول وعقد وأعمال في ما اسماه بالدرجة الثانية. وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه المعارض لما دعاه "غلو المعتزلة وإفراط المرجئة"، انطلاقا من أن عدم الأعمال بالجوارح لا ينفي الإيمان في حالة وجود التصديق بالقلب والشهادة باللسان. ومع انه عارض "إفراط المرجئة" في مواقفها من الإيمان، فانه اتفق معها فيما يخص فكرتها القائلة بأن عدم النطق بالإيمان لا يعدمه أن كان في القلب، كما انه لا ينعدم بانعدام الفعل .
فقد قرن الغزالي ظواهر الغلو والإفراط المميزة لبعض الاتجاهات الإسلامية وفرقها الكلامية بانتقائها بعض عبارات الشرع وأحكامه. فعندما ناقش على سبيل المثال، مسألة الحكم الدنيوي في الإسلام فانه ميز بين درجاته المتباينة في الظاهر والباطن، أي في مستوى العلاقة بالدولة ومؤسساتها، وفي مستوى العلاقة بين الإنسان والله. فالمستوى الأول هو ميدان الحكم الفقهي (القانوني المباشر) بينما الثاني هو ميدان حكم الباطن (الله فقط). فما يجمع الإحكام الفقهية المختلفة بصدد قضايا بالإرث والزواج وغيرها هو كونها مباحث فقهية ظنية مبنية على ظواهر ألفاظ الشرع والأقيسة (العقلية). من هنا حكم الغزالي القائل، بأنه لا ضرورة للظن، بأن "المطلوب منه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام" . ومن هذه المقدمة العامة رد على مقالات مختلف الفرق الكلامية في مواقفها من الإيمان.
لقد أراد القول، بان آلية الجزم القاطع المميز لمختلف فرق الكلام في إدراك الحقائق هو الذي حدد فهمها ومواقفها من "حقائق الإيمان". وفي هذا يكمن سر ما أسمته المتصوفة بتضييق الرحمة الإلهية. وهو أمر جلي حالما نظر إلى آراء ومواقف مختلف الفرق مثل المرجئة والمعتزلة والاشعرية . إذ استند كل منها إلى بعض الآيات القرآنية المنفردة واعتبارها بحكم الجزم القاطع. فالمرجئة، على سبيل المثال، استندت إلى آيات عديدة مثل "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا"، و"الذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون"، و"لا يصلاها إلا الاشقى"، وغيرها من الآيات. ولم يجد فيها حجة مقنعة لاستنتاجهم القائل بأن المؤمن لا يدخل النار وان أتى بكل المعاصي. إذ ليس الإيمان هنا سوى ذاك الذي أريد به مع العمل. ثم أن المرجئة لم تفعل إلا أن عممت العموميات، في حين أن القرآن يحتوى على مضاداتها العامة مثل "ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها"، و"إلا أن الظالمين في عذاب مقيم" بعبارة أخرى، أن الغزالي يدرك كون معارضة العموميات بالعموميات لا يشكل دليلا برهانيا. لهذا اعتبر التخصيص ضرورة. في حين أنكر الاشعرى وطائفة من المتكلمين صيغة العموم باستنادهم إلى بعض الآيات مثل "كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها"، أي فوج من الكفار. لهذا طالب بالتوقف في تأمل هذه الألفاظ إلى حال ظهور قرينة تدل على معناها. في حين سارت المعتزلة في الاتجاه المضاد للمرجئة. بمعنى استنادها إلى العموميات التي تؤكد على وحدة القول والعمل مثل "واني غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى"، و"العصر أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، وغيرها من الآيات.
لقد وجد الغزالي في هذا الأسلوب مجرد عموميات مخصوصة. بمعنى إضافة القرآن كلمات مثل "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، إي نفي إمكانية بقاء المشيئة لله في مغفرة ما سوى الشرك. غير أن ذلك لا يعني وقوف الغزالي بالضد من ربط الإيمان بالعمل. لاسيما وان العمل يمكن أن يكون من الإيمان. وذلك لان جوهر الإيمان هو التصديق بالقلب. فالرأس والبدن من الإنسان، كما يقول الغزالي، لكن في حالة إزالة الرأس منه فانه يكف عن أن يكون إنسانا. بينما يبقى الإنسان إنسانا في حال قطع اليدين. والشيء نفسه يمكن قوله عن الإيمان، بمعنى بقائه مع التصديق وعدم انعدامه بإزالة الأعمال الظاهرة. ومن هذه المقدمة حاول إزالة التعارض الشديد والأحكام الجازمة في الفكر والمواقف من المؤمن والكافر. وذلك لان الإيمان درجات، وأساسه في التصديق بالقلب. فعندما نقول عن العاجز بأنه ليس إنسانا، فان المقصود بذلك فقط هو فقدان الكمال بوصفه حقيقة الإنسانية . وينطبق هذا بالقدر ذاته على المؤمن بغير عمل، بمعنى عدم كمال إيمانه لا انعدامه. ومن هذه المنطلقات العامة حدد موقفه من إحدى القضايا التي أثارت الجدل آنذاك وهي قضية الزيادة والنقصان في الإيمان. فعلى الرغم من أن الإيمان في جوهره هو التصديق بالقلب، لكنه قابل في نفس الوقت للزيادة والنقصان. فالزائد موجود مثل وجود النقصان، رغم أن الشيء لا يزيد بذاته. فنحن لا نقول بان الإنسان يزيد برأسه، بل بلحيته. كما أن الصلاة لا تزيد بالركوع والسجود، بل بالآداب والسنن. وبالتالي فان الإيمان موجود، أما زيادته ونقصانه فشيء آخر.
ولم يقف الغزالي بصدد هذه القضية عند حدود انتقاداته المذكورة أعلاه، بل دفعها صوب نهايتها المنطقية، أي صوب معارضة ودحض الغلو والإفراط المميزين للاتجاهات الإسلامية وفرقها الكلامية المتصارعة. بعبارة أخرى، لقد كانت مواقفه بهذا الصدد جزءاً من أسلوب نقض المذهبية الضيقة والتعصب العقائدي للفرق. ولعل موقفه من تحديد هوية الإيمان وحقيقته ودرجاته، نموذجا جليا بهذا الصدد. فالإيمان حسب نظره، اسم مشترك يمكن إطلاقه، في الإطار العام، على أوجه ثلاثة، وهي نفسها درجاته العامة. الأولى وهي التصديق بالقلب على سبيل الاعتقاد والتقليد. والثانية ما يراد به التصديق والعمل جميعا. والثالثة التصديق اليقيني على سبيل الكشف . وهي درجات متباينة لكنها لا تنفي أو تفقد حقيقة الإيمان فيها جميعا. أما الخلافات الممكنة هنا فهي درجات كمال الإيمان في كل منها. وهو الشيء الذي حاول كشفه في موقفه من الإيمان بذاته. فالإيمان بالنسبة للغزالي هو ليس كيانا ما محدودا، بل كينونة دائمة غير متناهية في تجلياتها. لهذا وقف بالضد من تحديد الإيمان بصيغة واحدة. وذلك بفعل تباين تجلياته في ميادين المعاملة والمكاشفة، رغم ترابطهما الوثيق. فمعرفة المعاصي المهلكات من الإيمان، لكن ليس كل الإيمان. وذلك لأنها علم يؤدي إلى عمل. كما أن من الممكن افتراض أن يكون المرء مؤمنا في علم المكاشفة، بمعنى معرفته الله ووحدانيته وصفاته، ويقترف المعاصي في الوقت نفسه. وهو أمر يشير إلى نقص الإيمان لا عدمه. فالإيمان حسب نظر الغزالي، هو ليس "بابا واحدا، بل هو نيف وسبعون" . ولم يقصد بذلك حدّها وعدّها الشكلي، بقدر ما كان يقصد به الصيغة التعبيرية عن تعددية أبواب الإيمان الكمية والنوعية في مختلف الميادين والمستويات، من الله حتى أجزاء العالم الصغرى، تماما كما ينحصر وجود الإنسان المادي والروحي بين بشرته وروحه. فالإيمان له أبواب (أو درجات) وتجليات عديدة. أعلاها شهادة التوحيد وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كما يقول الغزالي. لهذا اعتبر الغزالي الإيمان كالإنسان. فالإنسان أيضا يتكون من نيف وسبعين موجودا أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن بشرته . وإذا كان الإيمان كالإنسان، فإن فقدان شهادة التوحيد بالكلية بالنسبة للإيمان يساوي فقدان الروح بالنسبة للإنسان.
ووضع هذه المقارنة الظاهرية والباطنية بين الإنسان والإيمان في أساس محاولته للكشف عن المستوى الجديد لأدراك علاقة الإسلام بالإيمان من خلال البرهنة على أن من ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة فهو كالإنسان المقطوع الأطراف، المفقوع العينين، الفاقد لأعضائه الباطنة والظاهرة، باستثناء أصل الروح. فهو قريب من حال الميت رغم وجوده حيا. وان من له أصل الإيمان فقط دون الأعمال شبيه بالميت – الحي. فهو يشترك مع المؤمن بالاسم فقط، ويفترق عنه تماما بالقدر الذي تشترك به شجرة الصنوبر مع القرع أمام رياح الخريف. آنذاك تظهر حقيقتها كما في قول القائل.
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار
وبهذا يكون قد نقل قضية علاقة الإسلام بالإيمان إلى ميدان العمل باعتباره محكا كاشفا لحقيقتها. ووضع هذه العلاقة في إطار أوسع ألا وهي علاقة الأصل بالفرع، مؤكدا على أن افتقاد المرء إلى الفرع (العمل) هو مثل افتقاده إلى الأطراف. بمعنى حياته الجسدية الظاهرية وموته الباطني الروحي. ووضع استنتاجه هذا في فكرة نظرية عملية كبرى تقول، بأنه "لإبقاء للأصل دون الفرع ولا وجود للفرع دون الأصل، ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو، أن وجود الفرع وبقاءه جميعا يستدعي وجود الأصل، وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع. فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل" .
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مبيعات سيارات تسلا الكهربائية في تراجع مستمر • فرانس 24


.. نتنياهو ينفي معلومات حول إنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها




.. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: نتمسك بتدمير البنية التحتية لحم


.. شركة تبغ متهمة بـ-التلاعب بالعلم- لجذب غير المدخنين




.. أخبار الصباح | طلب عاجل من ماكرون لنتنياهو.. وبايدن يبرر سوء