الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الماركسية و علم النفس
عمار عكاش
2005 / 2 / 17الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فيلهلم رايش : الثورة الجنسية و مفاهيم أخرى
يحتل عالم النفس النمساوي فيلهلم رايش مكانةّ مهمة في مدرسة التحليل النفسي ، من خلال تطويره لآراء فرويد و تخليص منهجه من تناقضاته و منحاه الغيبي الذي جعل من الإنسان عبداً لغرائزه ، فمن خلال أرضيته الماركسية استطاع رايش أن يفهم الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع و يربط بين الاضطراب النفسي و النظام الاجتماعي القائم ، و يصور التمزّق الروحي الذي يعيشه الإنسان في ظل الحضارة البورجوازية ، صحيح أن رايش قد وقع في كثير من الأحيان في مطبات ميتافيزيكية مثالية لا سيما في أواخر حياته من خلال أبحاثه عن طاقة الأورغون التي اقتبسها من مفهوم الطاقة الحيوية عند برغسون ، إلا أن هذا لا ينفي الدور الكبير الذي لعبه في نقل علم النفس التحليلي إلى الميدان الاجتماعي - الاقتصادي ، و تفهم الآليات التي تفرز من خلالها البنى الفوقية للمجتمع البورجوازي الأمراض النفسية الأمر الذي كان له أهمية كبيرة فيما يتعلق بنوسيع مجال الدراسات المستـندة إلى الماركسية ، خصوصاً أن الاقتصادوية تهمة أُلصقتْ طويلاً بالماركسية .
1- لمحة موجزة عن حياة فيلهم رايش و أهم أعماله :
ولد فيلهم رايش عام 1897 في غاليسيا في النمسة ، عاش طفولةً قاسية في ظل أسرة مفكّكة حيث أقدم كِلا والديه على الانتحار قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره ، درس الطب في جامعة فيينا و اهتمّ بالبيولوجية وعلم النفس ، و سرعان ما ظهر نبوغه فلم يكن قد تجاوز الثالثة و العشرين حين بدأ فرويد يحوّل إليه بعض مرضاه ، انضمّ عام 1920 إلى جمعية التحليل النفسي ، و قد زاول رايش نشاطه العلمي في ظل تلازم واضح مع الهم السياسي حيث انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الألماني منذ عام 1927 . أشرف في عام 1928 على الجمعية الاشتراكية للاستشارات و الأبحاث الجنسية في فيينا ، وفي عام 1930 اضطر إلى مغادرة فيينا إلى برلين ، وأسس في عام 1931 منظمة السيكسبول من أجل الإصلاح التربوي والجنسي في صفوف الطبقة العاملة ، ومع وصول النازية ا إلى سدّة الحكم في ألمانية اضطر إلى الهجرة عام 1933 إلى الدانيمارك و السويد والنروج ، ثم إلى الولايات المتحدة منذ عام 1939 حيث تفرّغ لأبحاث طاقة الأورغون حتى وفاته عام 1957.
وحّد رايش بشكل خلّاق بين فرويد و ماركس ، الأمر الذي أثار ريبة المحلّلين النفسيين و الشيوعيين على حدٍّ سواء ، فطُرِد من الحزب الشيوعي نظراً لهيمنة النظرة الاقتصادوية الضيقة على الحزب و التعامل مع فرويد كعالم نفس بورجوازي رجعي ، كما طُرِد من الرابطة العالمية للتحليل النفسي بسبب آرائه الشيوعية ، وكان لهذا الطرد المزدوج إلى جانب النفي المُتلاحق أثراً مدمّراً على نفسيـّته . فانتهى نهايةً بائسة في معتقل في مَصحّ عقلي في بنسلفانيا بعد أن مُنِعتْ جميع كتبه في الولايات المتحدة ، ومن أهم أعماله : ( الإنسان و الحضارة والتحليل النفسي ـ المادية الجدلية و التحليل النفسي ـ سيكولوجية الجماهير في الفاشية ـ ما الوعي الطبقي ؟ ) .
1- بنية الشخصية :
تقوم نظرية رايش عن الشخصية على أساس تقسيمها إلى ثلاث طبقات أو مستويات تقوم بوظائفها بصورة متمايزة و مستقلة عن بعضها البعض :
أ – الطبقة السطحية :
وهي عبارة عن قناع يرتديه الإنسان ليُخفي وراءه وجهه الحقيقي من خلال النزعة الاجتماعية المُتصنِّعة التي تقوم على اعتبارات ( المجاملة - الاحترام – العادات – التقاليد ) و من خلال رقابة ذاتية متكلِّفة نحو المعايير الأخلاقية السائدة و المؤسسات الاجتماعية .
ب - الطبقة الانتقالية :
ويدعوها رايش الطبقة اللا الاجتماعية و تتوافق إلى حدٍّ بعيد مع اللا شعور الفرويدي ، حيث تندرج ضمنها كافة دوافع الإنسان ورغباته الثانوية و رغباته المكبوتة و المرفوضة اجتماعياً كالسادية والمازوخية و الشبقية و كل ما هو مرفوض ومُنحرف بالعرف الأخلاقي .
ج – طبقة الأعماق أو النواة البيولوجية :
هي تتألف من الدوافع الاجتماعية الطبيعية للإنسان التي إذا ما لُبّيتْ و أُشبِعتْ خلقتْ إنساناً شريفاً مُحبّاً لعمله قادراً على التفاعل الاجتماعي الخلّاق مع الآخرين و مع ذاته قبل كل شيء ، هذه الطبقة تشكل أهم جزء في بنية الشخصية الإنسانية ، وعلى تلبية أو عدم تلبية مُتطلّباتها تتوقف صحة الإنسان النفسية ، إن الدوافع التي تحملها هذه الطبقة من الشخصية دوافع حقيقية ومشروعة إلا أنها حين تتعرض للكبت ترتفع إلى الطبقة الانتقالية فتأخذ شكلاً مشوّهاً و تطبع الإنسان بطابعها معبّرةً عن استسلام الرغبات العدوانية للنظام الاجتماعي القائم الذي يلعب دوراً مزدوجاً في خلق هذه الرغبات وكبتها في آنٍ واحد حيث يقول رايش : (( الواقع الاجتماعي يؤثر على الدوافع البدائية مقيداً و معدّلاً و مشجّعاً دون توقف )) ( 1 ) ، وعلى هذا الأساس تظهر العصابات بوصفها آليّة دفاعية تقوم بها الشخصية إزاء ضغوطات العالم الاجتماعي الخارجي ، و حاجزاً اصطناعياً يتمّ بواسطته التعبير عن دوافع الفرد الاجتماعية الطبيعية أي تجري عملية تزييف لدوافع الفرد الحقيقية لتتحوّل إلى دوافع شاذة وُلدتْ على قاعدة اجتماعية و شذّتْ لكونها مرفوضة اجتماعياً حيث يقول رايش عن الكبت : (( إنها العملية التي تجري بين الأنا ونزوعات الهو . كل طفل يجلب معه إلى العالم دوافع ، ويكتسب في طفولته رغبات لا يجوز له أن يعيشها ، لأن المجتمع الواسع و المجتمع الضيق أي الأسرة لا يحتملونها ، فالواقع الاجتماعي يتطلب أن يكبت الطفل هذه الدوافع ، و بالكبت تصبح الرغبات المعنيّة لا شعورية ، وثمّة فعل اجتماعي آخر هام للتخلص من الرغبات الغير ملبّاة يتمثّل بالتصعيد الذي هو وجه آخر الكبت ، هذا يعني أن الدافع بدل أن يُكبت يجري الاقتصار على حرفه إلى انشغال ممكن اجتماعياً )) ( 2 ) .
2 – علاج العصاب و ارتباطه بعملية التغيير الاجتماعي :
من خلال الممارسة الإكلينكية ( العيادية ) العملية عمّق رايش أفكاره حول المشروطيّة الاجتماعية للعصابات و الأمراض النفسية ، حيث لاحظ لدى معالجته الحالات العصابية في الأوساط العمالية و الفقيرة أن المساعدة الاجتماعية و الاقتصادية أمر ضروري لعلاج الأشخاص العُصابيّين و المرضى النفسيّين لذا يقول : (( إن التحليل النفسي لا يستطيع مطلقاً أن يتخيل الطفل دون المجتمع ، فلا وجود للطفل بالنسبة له إلّا ككائن اجتماعي )) ( 3 ) ، و هنا ينتقد رايش توجّه التحليل النفسي الفرويدي إلى الكشف عن تمزق النفس المرضي على المستوى الفردي ، إذْ أنّ قدرته الكشفيّة التحليليّة هذه تُشلّ حين يصبح الأمر على المستوى الجماهيري و في أحياء البؤس و الفقر المُدقع ، لقد أدرك رايش أن علاج العصاب أمر غير ممكن دون تغيير يطال البنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمعات مهما تمّ تطوير مناهج علم النفس ، ومهما بُذلتْ جهود لتطويره على المستوى النظري ، و حتى فرويد نفسه كان قد أشار إلى هذه المسألة حين قال : (( إننا لا نستطيع أن نقدم أي شيء حتى الآن لفئات السكان الواسعة التي تعاني بصورة قاسية من العصابات )) ( 4 ) ، ولكنه لم يفعل أكثر من أن تمنى أن يستيقظ ذات يوم ضمير المجتمع و أن تقوم الدولة بتقديم المساعدات المجانية للفقراء ، و على الرغم من انتقاده الأخلاق و الثقافة البورجوازية و الرؤية الدينية التي تزيف وعي الإنسان ، إلّا أنه لم ينتقد أسس النظام الاجتماعي القائم و الذي يفرز هذه البُنى الثقافية و الروحية ، أما فيلهلم رايش فقد أكد على ضرورة تغيير النظام الاجتماعي و انخرط في العمل السياسي في سبيل ذلك ، وقام بافتتاح عدة عيادات مجانية في فيينا مُعدّة لاستقبال الجماهير الواسعة و حاول جهده أن يلفت الرأي العام إلى المسائل الجنسية التي وجد أن حلّها غير ممكن بدون قيام الثورة الاجتماعية لذا ينتقد رايش علم التحليل النفسي المتصالح مع الواقع : (( يصل الأمر إلى أن المرء يفهم من مبدأ الواقع و التكيّف مع الواقع ، لا الفاعلية في الواقع ، بل الخضوع التام لنفس المتطلّبات الاجتماعية التي أنتجتْ العصاب . و إنه لملموس لمس اليد أن هذا التطبيق العملي للتحليل النفسي غير ملائم لمداواة العصاب )) ( 5 ) ، طبعاً لم يمنع هذا رايش من محاولة اتباع وسائل علاجية معينة مع مرضاه منها مثلاً مبدأ كمونيّة الرعشة حيث يرى رايش أن الإنسان العصابي يعبر عن توتره الداخلي من خلال تقلّصات لا إرادية في بعض عضلات الجسم و بالتالي يمكن أن تكون الرياضة البدنية هي أحد وسائل مكافحة العصابات كذلك حاول أن يوجد نظاماً تدريبياً يمكّن مرضاه من أن يتحكّموا بالتقلصات اللا إرادية في أجسادهم لا سيما لدى من يعانون من اضطرابات جنسية .
3 – مفهوم الاغتراب الماركسي من منظور نفساني :
يقوم مفهوم كارل ماركس عن الاغتراب على أساس أن العلاقة المشوّهة بين الذات البشرية و موضوع عملها الناجمة عن الملكية الخاصة و نظام تقسيم العمل تُفقِد الإنسان شعوره بأنه مُنتج و تفقده الشعور بقيمة عمله ، فالمجتمع بسواده الأعظم لا يمتلك وسائل الإنتاج التي أنتجها بنفسه ، فتنتصب هذه الأخيرة أمام العمال كقوة خارجية غريبة مرهقة لا يستطيعون التنبؤ بحركتها ، و تكون قوة رأس المال قادرة في أية لحظة أن تحطم العمال و صغار المُلّاك و تجلب إليهم الدمار المفاجئ اللا متوقع و الطارئ ، ومن خلال منطق النفعية و اللهاث وراء الربح تصبح العلاقات بين الناس علاقات بين بضائع تتغلّف بغلاف إنساني ظاهري في ظل الرأسمالية ، و يتسلّع الإنسان و يتشيّء فيكون اغترابه عن مجتمعه وعن واقعه و عن إنسانيته .
ينقل فيلهلم رايش مفهوم الاغتراب الماركسي من الحيّز السوسيوـ اقتصادي إلى الحيز النفساني ، فهو يعتبر العصاب بمثابة شكل اغترابي يعيشه الإنسان في ظل الحضارة البورجوازية سببها ظروف الحياة الثقافية و الروحية التي يعيشها الإنسان حيث تتعرّض إرهاصات الإنسان الطبيعية للقمع ، ويشعر الفرد بالضعف و العزلة إزاء القوى الاجتماعية المحيطة به ، مما يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن رغباته و فعاليّاته الداخلية عن ( النزعة الاجتماعية ـ الطبيعية ) و تتحول هذه الفعاليات إلى رغبات مشوهة لا عقلانيّة ، فمصدر الاغتراب اجتماعي و اقتصادي وليس بيولوجي بقوله : (( لا ننسى أنّ صيرورات اجتماعية و اقتصادية هي التي أحدثتْ ، قبل ألوف من السنين ، هذا التعديل في البنية الإنسانية )) ( 6 ) ، و هنا يتميز رايش عن أسلافه من علماء النفس ببحثه في المنظومة الثقافية و الأخلاقية السائدة في ظل النظام البورجوازي و التي تنفرز على أرضية النظام الاقتصادي حاملةً الموروث الموبوء عن الثقافات السابقة دون أن يكتفي بالأفكار المجردة و النظريات القبلية التي تسقط بشكل خارجي بل يتفهم بشكل عميق من خلال أرضيّته الماركسية الآليات الداخلية للنظام الاجتماعي القائم و جدل العلاقة بينها وبين النفس البشرية .
4 – أسطورة عقدة أوديب :
يقوم رايش بعملية انتقاد منهجي مُدعّمة بالكشوف التاريخية و الأنثروبيولوجية لفرضيّة فرويد حول منشأ عقدة أوديب و التي تقوم على كون العشيرة البدائية كان يحكمها رجل قوي هو أب الجماعة كلّها ، هذه الجماعة تتكوّن من مجموعة نسوة هنَّ زوجاته و أبناؤه و بنينه ، وقد قام الأب مِراراً بطرد الأبناء الذين يبلغون سن الرشد حتّى لا ينافسوه على نساء القبيلة ، مثل هذه الفرضية لا تجعلنا (( نرى جيداً كيف تكاثر العشير البدائي وكيف صارع الطبيعة و أعدّ الحضارة )) ( 7 ) ، ثمّ إنّ فرضيّة فرويد لا تعلمنا بدقة عن توقيت طرد الأب ذريّته من الذكور لا سيما أنّ الحياة الجنسية لدى البدائيّين كانتْ تبدأ في سن مبكّرة و حتّى قبل البلوغ ، فهل كان يتمّ طرد الذكور الذين ضُبِطوا وهم يمارسون الجِماع مثلاً مع نِسوة القبيلة ؟! ... إنها وجهة نظر غير منطقية ، ثمّ إنّ فرويد ينطلق من معطيات وضع تاريخي مُعاصر ويسحبه على وضع تاريخي بدائي مُغرق في القِدم ، حيث يفترض مسألتين : 1– وجود غيرة ذكورية لدى الذكور كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة و منشأها بالتالي غريزي . 2- وجود ثنائية الحب والكره البيولوجية في المشاعر .
بالنسبة لمسألة الغيرة فالقبائل البدائية التي كانتْ موجودة حتّى القرن العشرين و التي ما زال بعضها محافظاً على عاداته البدائية تشهد لنا من خلال طقوس الجنس الجماعي غياب مسألة الغيرة ، لأن الغيرة العنيفة التي يمارسها المجتمع المعاصر كما يقول رايش : (( ليستْ سوى نتيجة الرابطة الزوجية التي حوّلتها المنافع الاقتصادية إلى مُلكيّة محروسة على نحو تكتنفه الغيرة وحسبنا أن نتذكر أنّ الزواج الأحادي مُكتسب المجتمع الإنساني في عصرٍ متأخر )) ( 8 ) ، ثمَّ بالنسبة لمسألة ثنائية المشاعر فهي ناجمة عن (( تطوّر تاريخي دافعه العميق إحباط حاجاته التناسلية و هو إحباط لا وجود له في المجتمع البدائي على الإطلاق )) ( 9 ) ، ففرويد يفترض وجود الرغبة في غشيان المحارم لدى الإنسان البدائي فهو ينظر إلى عقدة أوديب (( نظرة لا تاريخية فتُعتبر مَعطِيّة في طبيعة الإنسان غير متغيرة وغير خاضعة للتغيير )) (10) ، إن الطفل في الشعوب البدائية لا يمكن أن ينمّي أفكاراً جنسيّة خاطئة و لا يمكن أن يكبت حاجاته التناسلية طالما أن عملية الإشباع الجنسي متحققة لديه و لا توجد تلك الضوابط الاجتماعية التي تجعله يُصاب بالعصابات و العُقد بغرض تفريغ كبته وسكبه في قالب مقبول اجتماعيّاً ، ثمّ إنّ الذكر لم يكن يمتلك كل شيء حتّى تُصاب الفتاة بعقدة الخصاء التي هي إحدى أسباب نشوء عقدة إلكترا ، لقد كانتْ التعاليم الأخلاقية الأولى مبنيّة على تحريمات جنسية دون أي علاقة بعقدة أوديب ، إنّما عقدة أوديب وُلدتْ تدريجيّاً بعد قائمة التحريمات الجنسية و الشروط الاجتماعية التي لم تقدّم بدائل لتلبية احتياجات الإنسان ، حيث يقول رايش عن عقدة أوديب : (( هي مشروطة بصورة غير مباشرة بالإيديولوجية الاجتماعية العامة و كذلك بمكانة الأهل في عملية الإنتاج ، إذن فمصائر عقدة أوديب متعلّقة في نهاية المطاف بالبنية الاقتصادية للمجتمع )) (11) و أخيراً إنّ فرويد افترض أنّ المجتمع البشري كان ذكوريّاً أبويّاً بطريركيّاً منذ نشأة الخليقة ، ولهذا السبب جاءتْ أفكاره مبنية على هذه الفكرة وبغرض ترسيخها فهو المدافع روحياً و سيكولوجياً عن فكرة أبدية و أزلية الملكية الخاصة ، يوضخ رايش ذلك بقوله : (( أولئك الذين يتظاهرون بجهل نظرية مورغان و إنجلس ، التي أكّدتها ملاحظات مالينوسكي في نقاطها الأساسية تأكيداً قويّاً جدّاً ، يخضعون لدوافع سوسيولوجية راهنة . كل شيء يتطور ويتغيّر ، و الأخلاق الجنسية القمعية غزتْ المجتمع الإنساني يوماً من الأيام و ستغادره عاجلاً أو آجلاً )) (12) .
5 - فرويد و رايش :
على الرغم من أن ويلهلم رايش يعتبر تلميذاً لفرويد و أحد السائرين على درب مدرسة التحليل النفسي إلا أن ذلك لا ينفي الاختلاف الكبير بين التلميذ و أستاذه ، ففرويد ردّ العُصابات إلى طبيعة الإنسان و إلى الخطيئة الأولى التي نجمتْ عن قتل الأب الفحل القوي فظلتْ هذه الجريمة محفورة في الذاكرة الجمعية وعلى هذا الأساس فالعُصاب أمر طبيعي و أزلي ، أما رايش فهو يرى أنّ منشأ العصاب التعارض الناشئ بين الأنا الشعوري و الهو اللا شعوري ، حيث يتمّ خلق التوافق بينهما بشكل مصطنع ، فكل من العصاب و الطبع العصابي حالة شاذة ناتجة عن وجود الإنسان في إطار شروط تاريخية معينة ، و لا يمكن علاجها عن طريق دراسة أعراض الاختلالات النفسية للشخصية فقط ، بل لا بد من دراسة شاملة وكاملة لطبع الإنسان ، لأن الميول الاجتماعية الطبيعية تصاب بحالة من الاغتراب نتيجة بنية المجتمع البورجوازي الاقتصادية و البناء الفوقي الذي تولده ( الإيديولوجية – الأخلاق – الثقافة السائدة ) و هنا تبرز النزعة الماركسية لدى رايش .
و يتوجّه رايش بنقد لاذع لموضوعتي فرويد عن غريزتي الموت و التحطيم الذاتي اللتين تسيطران على الإنسان لتغدو كل حياته مساراً هادفاً لتحقيق هاتين الغريزتين ، حيث رأى فيها فرويد فيهما أمراً طبيعياً و ملازماً للطبيعة البشرية لا يمكن الفكاك منه بل إنّهما تحولتا إلى إله فرويدي غيبي و الإنسان كائن خاضع لمشيئته ... ، لقد أكد رايش على إنسانيّة الإنسان حين نفى عنه الطبيعة العدوانية الفطرية الغريزية فما الرغبات العدوانية سوى رغبات طبيعية تمّ تشويهها نتيجة الظروف الاجتماعية التي يعيش في ظلها فغريزة الموت ليستْ غريزة كما اعتقد فرويد بل هي تعبير عن تمزّق الإنسان الروحي و اغترابه الذي يعيشه في ظل المجتمع البورجوازي ، الذي لا يؤمن للإنسان الظروف ( الاقتصادية – الاجتماعية – الثقافية – الروحية ) الملائمة لتطوره وتفجّر طاقاته الكامنة ، و بالنسبة لعقدة أوديب التي تحتلّ حيزاً واسعاً في علم النفس الفرويدي ، فتشويه العلاقات الجنسية و تسليعها و لائحة التابوات التي يفرضها المجتمع هي ما يشوّه الغريزة الجنسية و يحرفها ويحوّل عقدة أوديب من أمر عرضي إلى أمر دائم ، و فيما يتعلق بمنشأ الأمراض النفسية و أسباب الاختلالات التي تصيب بنية الشخصية يخالف رايش فرويد بشكل كبير ، لا سيما من خلال تركيزه على البيئة الاجتماعية التي يعيش في ظلها الإنسان بمعناها الواسع و تأكيده على ضرورة التغيير الاجتماعي .
6 – المسألة الجنسية عند رايش :
وضع رايش المسألة الجنسية في مركز تصوّراته عن بنية الشخصية الإنسانية ، وفي هذا محاكاة كبيرة لفرويد لكن رايش تجاوزه تجاوزاً نقدياً خلّاقاً في نواحٍ كثيرة ومن خلال دراسته للفلسفة الماركسية حاول أن يخلق مزيجاً بين فرويد و ماركس وفق فيه حيناً و وقع في مطبات ميتافيزيكية و مثالية حيناً آخر .
ينطلق رايش من أن صحة الإنسان النفسية تتوقف على مدى الإفراغ الجنسي الذي يحققه بشكل الصحي ، و على هذا يكون مصدر العُصابات الطاقة الجنسية المكبوتة لدى الإنسلن حيث يقول رايش : (( الجهاز النفسي العصابي يتميز عن الجهاز النفسي السليم بالوجود الدائم للطاقة الجنسية غير المفرّغة )) (13) ، ويعمّق رايش فكرته و يؤسّس لها نظرياً من خلال مصطلحه المعروف ( الاقتصاد الجنسي ) ، هذا المصطلح يكتسب معنىً مغايراً لمعنى الاقتصاد عند ماركس إذْ يقصد به عن الدرجة الكمية للطاقة الجنسية ، لقد أكد رايش أن للعمليات النفسية قانونياتها الجسدية و البيولوجية ، إلا أنه نوّه على دور العامل السوسيولوجي في تحريض الكوامن البيولوجية في الإنسان ، حيث اعتبر أن النزعة الجنسية لدى الإنسان تتخذ طابعاً مشوّهاً في ظل الحضارة البورجوازية و تشذّ عن الحب البشري الطبيعي ، يقول رايش بهذا الخصوص : (( الجوع أكثر عناداً و صرامةً ، وأشد إلحاحاً على الإرضاء الفوري من الدافع الجنسي ، ولا يمكن كبت الجوع في أي حالٍ من الأحوال مثل الدافع الجنسي أما الدافع الجنسي فهو قابل للتعديل و قابل للتصعيد ، ويمكن عكس ميوله الجزئية إلى ضدها ، ولكن دون إمكان التنازل التام عن الإرضاء )) (14) ومن هنا جاء علاج رايش الاقتصادي الجنسي معتمداً على توفير المقدمات الضرورية لتحقيق علاقات سوية و طبيعيّة بين الجنسين ، تتيح المجال لتفجر طاقات الإنسان الجنسية و تطوير القدرة البشرية على الحب الأمر الذي يتوقف على الشروط الجنسية و النفسية على حدٍّ سواء .
8 – الثورة الجنسية :
يرى رايش أن الثورة الإنسانية الحقيقية التي تفجّر طاقات الإنسان وتحرّره سواءً من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الأخلاقية لا يمكن أن تقوم ما لم تترافق بثورة جنسية تخلّص الإنسان ممّا يعانيه في ظل المجتمع الذكوري الأبوي ، و لا يقتصر الأمر على تلبية الدوافع الجنسية فرايش يشير إلى أن العلاقات الجنسية و علاقات الحب المشوّهة تولد الطباع الشاذة المرضية في شخصية الإنسان و تجعله مغترباً عن أحاسيسه وعن واقعه الذي يعيشه ، الأمر الذي يشكل تربةً خصبة لنمو الأفكار الرجعية و المحافظة أخلاقياً و اجتماعياً و سياسياً فلا يكفي القيام بتحويلات اقتصادية اشتراكية بل لا بد من ثورة جنسية تلبّي حاجات الإنسان و رغباته ، لأن الحضارة البورجوازية غير قادرة بمنظومتها الأخلاقية على تلبية رغبات الإنسان الجنسية ، لقد وقف رايش بشكل متميز على الهُوّة القائمة بين حاجات الإنسان الطبيعية و ومدى توافرالظروف الملائمة لتلبيتها الأمر الذي يخلق تمزّقاً مرضياً في شعور الفرد و يولد أزماته الروحية و إحباطاته النفسية ، إن رايش لا يرى تعارضاً بين النزعة الاجتماعية و النزعة الجنسية إنّما النظام البورجوازي و إفرازاته الاجتماعية هو من يشوّه هذه النزعة .
تجلّى تأثير أفكار رايش هذه من خلال الانتفاضات و الأحداث الطلابية في أواخر الستينيات في أوربة ، و التي عُرِفتْ باسم الثورة الجنسية فقد رسم الطلبة الفرنسيون خلال الأحداث على جدران جامعة السوربون أغلفة كتب رايش ، وردّد طلاب ألمانية الغربية أثناء مظاهراتهم شعاراتٍ ومقاطع من أعمال رايش و مؤلفاته و كانوا يلوّحون بكتبه .
لقد لعب رايش دوراً كبيراً في تطوير علم النفس التحليلي من خلال فهمه العميق لمسألة المنشأ الاجتماعي لاضطرابات الشخصية و تأكيده على أنّ العلاج اجتماعي ، و ارتقى بفلسفة ماركس إلى مستوىً جديد يفهم عملية التفاعل الجدلي للإنسان مع كافة البنى المادية و الروحية في مجتمعه ، و لا ينظر إليه على أنه انعكاس خطي للعامل الاقتصادي ، كما ارتقى بعلم النفس من المستوى الفردي إلى المستوى الجماهيري : (( إنّ استعباداً مضتْ عليه آلاف السنين لحياة الغرائز قد خلق أوّلاً ميداناً لعلم نفس الجماهير : خوف من السلطة ، عبودية ، تواضع لا يُصدّق من جهة أولى ، ومن الجهة الثانية فظاظة سادية و صوفية و تلبية وهمية )) (15) . إلا أن رايش بالغ بدوره في تضخيم دور العامل الجنسي حيث يقول : (( إن الطاقة الجنسية هي الطاقة البنّاءة للجهاز النفسي ، وهي التي تشكّل بنية البشر العاطفية و الفكرية و الجنس ( وبتعبير فيزيولوجي الوظيفة الجنسيّة ) هو الطاقة الحيوية المنتجة بالذات . وقمعها لا يؤدّي إلى الاختلال على الصعيد الطبي فحسب ، بل أيضاً ، وبصورة أعم ، إلى اختلال الوظائف الحيوية الأساسية . ونحن نجد أكمل تعبير عن هذا الاختلال من وجهة نظر النظم الاجتماعية في سلوك البشر اللا عقلاني ، في جنونهم و تصوّفهم و قبولهم بالحرب )) (16) ، حتى أنّه في معرض تفسيره لنشوء الفاشية تحدث طويلاً عن الأسرة الأبوية و عقدة أوديب و أشار بنجاح إلى أنها إيديولوجية الطبقات الوسطى لكنه أغفل دور العامل الاقتصادي في هذه الناحية و هو في كثير من الأحيان كان يردّ معظم مشاعر الإنسان و رغباته إلى أمور بيولوجية و يرى أن النظام الاجتماعي قام بتشويهها ، مع أن الواقع يقول أن هناك الكثير من الرغبات خُلِقتْ لدى الإنسان في ظل الأنظمة الاجتماعية المتعاقبة وليس لها أي أساس بيولوجي لعلّ أكثرها وضوحاً ما تخلقه وسائل الإعلام البورجوازي من رغبات مصطنعة لدى الإنسان بغرض الترويج البِضاعي ، و كان من مآثر رايش تأكيده على التقنيات العلاجية التي تعتمد على حركة الجسد و التعبير الجنسي و و قد تأثرتْ مدرسة الجشتالت تحديداً بوسائل رايش العلاجية هذه بشكل كبير .
على كلٍّ لقد كان مشروع رايش العلمي يرمي إلى تطوير علاقات الحب و الإعداد السيكولوجي السليم للشباب ، ولكن الذي حدث فيما بعد أن وسائل الإعلام البورجوازي بدأتْ بالترويج للبغاء و الفوضى الجنسية وشوّهتْ أفكار رايش و حرَفتْها عن منحاها الحقيقي ، فبعد أن مُنعتْ مؤلّفات رايش في ثلاثينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية عادتْ لتُنشر و بأعداد ضخمة ، وكثُرتْ الدراسات حول رايش و التي فسّرتْ أفكاره من مواقع تلائم طبيعة المجتمع البورجوازي وظهر مذهب جديد سُمّي باسم الرايشية الجديدة الذي احتفظ بما يناسبه من أفكار رايش و طرح الثورة الجنسية ضمن حدود المجتمع البورجوازي أما الثورة الاجتماعية فلم يعد لها مكان في هذا المذهب الجديد .
عمار عكاش – طالب في قسم علم الاجتماع – جامعة حلب – [email protected]
الهوامش و الإحالات :
1 – رايش ، فيلهلم : المادية الجدلية و التحليل النفسي . تر : بو علي ياسين . د . ط . ( بيروت ، دار الحداثة : 1980 ) ، صـ : 30 .
2 – م . س . ن ، صـ : 29 .
3 – م . س . ص. ن .
4 – ليبين ، فاليري : التحليل النفسي و الفرويدية الجديدة . تر : د. نزار عيون السود . د . ط . ( دمشق ، دار الوثبة : د.ت ) ، صـ : 133 .
5 - رايش ، فيلهلم ، م. س . صـ : 72 .
6 – مجموعة من المؤلفين ( رايش وآخرون ) : المرأة و الاشتراكية . تر : جورج طرابيشي . د. ط . ( بيروت ، دار الآداب : د.ت ) ، ص : 173.
7 – مجموعة من المؤلفين ( رايش و آ خرون ) : الأوديب عقدة كلية . تر : وجيه أسعد . د. ط . ( دمشق ، وزارة الثقافة : 1996 ) ، صـ : 110 .
8 - م . س . ن ، صـ : 111 .
9 - م . س . ن . صـ : 112 .
10- رايش ، فيلهلم : المادية الجدلية و التحليل النفسي . م . س ، صـ : 59 .
11 - م . س . ن . صـ :34 .
12 - مجموعة من المؤلفين ( رايش و آ خرون ) : الأوديب عقدة كلية . م . س ، ص : 117.
13 - ليبين ، فاليري : التحليل النفسي و الفرويدية الجديدة . م . س . صـ : 132 .
14 - رايش ، فيلهلم : المادية الجدلية و التحليل النفسي . م . س ، صـ : 30 .
15 - مجموعة من المؤلفين ( رايش وآخرون ) : المرأة و الاشتراكية . تر : جورج طرابيشي . د. ط . ( بيروت ، دار الآداب : د.ت ) ، صـ : 173.
16 – م . س . ن ، صـ - صـ : (169 – 170 ).
المصادر و المراجع :
1- رايش ، فيلهلم : المادية الجدلية و التحليل النفسي . تر : بو علي ياسين . د . ط . ( بيروت ، دار الحداثة : 1980 ) .
2- مجموعة من المؤلفين ( رايش و آ خرون ) : الأوديب عقدة كلية . تر : وجيه أسعد . د. ط . ( دمشق ، وزارة الثقافة : 1996 ) .
3- ليبين ، فاليري : التحليل النفسي و الفرويدية الجديدة . تر : د. نزار عيون السود . د . ط . ( دمشق ، دار الوثبة : د.ت ) .
4- كندريك ، وولتر . تر : توفيق الأسدي . المحلل النفساني في وضع اللا منتمي (( سيرة حياة فيلهلم رايش )) . المعرفة . دمشق . العددان : 260 – 261 . ( تشرين 1 – تشرين 2 – 1983 ).
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ما الذي تستهدفه الطائرات الحربية الإسرائيلية في ضاحية بيروت
.. مسيرة بمدينة نيويورك الأمريكية في ذكرى مرور عام على حرب إسرا
.. مشاهد تظهر حركة نزوح واسعة من مخيم -صبرا وشاتيلا- بعد الغارا
.. مشاهد توثق موجة نزوح كثيفة من مخيم صبرا وشاتيلا بعد الغارات
.. سقوط أكثر من 25 غارة إسرائيلية ليلية على الضاحية الجنوبية لب