الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط الأب ونزاهة القاضى

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2012 / 8 / 12
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


الصوت يسرى إلى الابن من خلال الجدار، يضغط بيديه فوق أذنيه، يدس فيهما القطن، أنين أمه مكتوم، رائحة دخان وجسد يحترق، هل جاء العيد الكبير والخروف المشوى؟

منذ طفولته يكره الأعياد وأكل اللحوم.

يضغط بالوسادة فوق رأسه، ناعمة كصدر أمه، يحوطها بذراعيه يدفن فيها وجهه، عطرها ورائحة جسده شىء واحد، يمسح فى الوسادة بلولة عينيه وأنفه، يتسرب أنينها إلى أذنيه، ينقلب فوق وجهه متظاهرا بالنوم، ثم ينقلب فوق ظهره، لكن الأنين يسرى عبر الجدار.

بين غرفته والغرفة الكبيرة، حيث ينام أبوه وأمه فى سرير واحد،

منذ طفولته يسمع أنينها، تصنع له طعامه، تغطيه بالليل إن تعرى، لا تصفعه إن مزق الجورنال، تغنى له قبل أن ينام، تحب الموسيقى والغناء، لم تلمس أصابعها الكمنجة منذ تزوجها أبوه، وضعتها فى قاع الدولاب، داخل كيس من الجلد الأسود، له رائحة الحذاء.

فى الصباح قال أبوه: أمك ماتت.

لم يكن يصدق ما يقوله أبوه، رأى فى عينيه بريقاً لم يكن موجودا، كشف وجه أمه ليعرف الحقيقة، وجهها أبيض بلون الملاءة، إلا مساحة سوداء، لها شكل كف أبيه، محفورة فى خدها.

ظل الابن واقفا يحملق فى الفراغ، تركت أمه فوق السرير مساحة منخفضة قليلاً لها شكل جسمها، والوسادة لاتزال تحمل عطرها، وفستانها معلق على الشماعة، وحذاؤها تحت السرير، عاد الأب فوجد ابنه واقفاً فى مكانه، رفع الابن عينيه إلى عينى أبيه، يتأمل البريق الجديد، يأكل الأب بشهية صينية البطاطس، التى صنعتها أمه فى الفرن، قبل أن تموت، لم يأكل الابن، يحملق فى عينى أبيه، لا يطرف له رمش.

سرت فوق جسد الأب قشعريرة تشبه البرد مع أن الحر شديد.. وضع الأب فى جيب ابنه ورقة بمائتى جنيه، امتدت ذراع الابن وألقى بالورقة على الأرض، داسها بحذائه، دق جرس التليفون، صوتها ناعم كبطن ثعبان، تسأله عن نتيجة الامتحان، لم يذهب إلى المدرسة منذ موت أمه، قال لها: نجحت بتفوق، يشعر بلذة حين يكذب عليها، دخل إلى الغرفة الكبيرة، مساحة أمه فى السرير منخفضة قليلا لها شكل جسمها، درج أبيه مغلق.

عاد إلى غرفته واستلقى فوق سريره، أغمض عينيه، وضع الوسادة فوق رأسه، أنين أمه يسرى إلى أذنيه دون توقف، جلس إلى مائدة الفطور، كرسى أمه خالٍ فوقه الشلتة الخضراء، يختفى وجه أبيه وراء الجورنال يرشف الشاى، قطع الصمت أبوه يسأل عن الامتحان، قال: نجحت بتفوق، ابتسم الأب، لم يبتسم الابن، قفزت القطة فوق الشلتة الخضراء، مكان أمه فى الكرسى، قال الأب: أمك ماتت يا ولد، هذه حقيقة.

قال الابن: لم تكن ميتة دائماً، مفكرة أبيه فى مخبئها بالدرج، فتحه بنصل السكين، أمسكها بأصابع نحيلة ترتعش، سقطت قصاصة ورق، دسها فى جيبه، أسماء النساء بالحروف الأبجدية، تحت حرف الباء التقط اسمها وصورتها مع القطة، عاد الابن قبل الفجر، باب الغرفة الكبيرة مغلق بالمفتاح، فتحه بنصل السكين دون صوت، فى الصباح وجدوا الأب راقداً محملقاً فى الفراغ، وهى إلى جواره تحتل مساحة أمه فى السرير، حملوهما معاً فى الصندوق الملفوف بالعلم، وحكم القاضى ببراءة الابن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السيدة الأديبة الباحثة العزيزة نوال السعداوي
خيري حمدان ( 2012 / 8 / 12 - 08:10 )
هناك حالة من التشويق تجعلنا نلهث عادة لدى قراءتنا لنصوصك. قد اختلف معك قليلا في هذا السرد، فهنا يجب الابتعاد عن التعميم، حيث يبدو الأب رمزًا للشر والشهوانية، وهذا يشرّع حالة القتل مرتين. جريمة الأب بدأت منذ أمد بعيد حين حرم المرأة الوردة من العزف على الكمنجة وبقيت هذه الآلة الجميلة أسيرة الدولاب. هذه هي الجريمة الكبرى بنظري، والمجتمع العربي يشارك في تهميش المرأة وحرمانها من أن تكون ذاتها. أمّا القتل فهو عمل إجرامي يحرم الإنسان من ماضيه وحاضره ومستقبله والقاضي الذي حكم بالبراءة هو نتاج رجولي أيضًا، في الوقت الذي يبدو فيه الابن نتاج غريب مستهجن وعجينة ما بين الكذب ومحبة الأم وكراهية الفحولة التي يمثلها الوالد. يبدو النصّ متشعّب لكنّه يبدو كذلك غير مكتمل وكأنّه بالرغم من كلّ هذا وذلك يفتح الأبواب لحوارات ونقاش حول الحب والموت والحياة والأمل ومستقبل الأجيال المقبلة.
مع خالص مودتي


2 - الدكتورة العظيمة نوال السعداوي
فؤاده العراقيه ( 2012 / 8 / 12 - 17:17 )
ننتظر مقالاتك بفارغ الصبر فلا تبخلين بها علينا
هي ماتت منذ ان تزوجت ابيه , ومنذ ان حرمت من حقها في الحياة
النساء العربيات بلا حياة
مسلوبات الاعمار من قبل الأب اولا ثم الأخ ثانيا واخيرا الزوج
هذه هي الجريمةالكبرى بحق المرأة التي احاطتها مجتمعاتنا بجدار من الصمت والتهميش
قبلاتي لكِ من صميم قلبي المفعم بالحب


3 - سؤال
سامي بن بلعيد ( 2012 / 8 / 13 - 03:51 )

هل الأب ( العربي ) يعتبر السبب في الوضع المتردي للأُم العربية ؟
وهل المرأة العربية مُنزّهة عن المشاركة في هذا الوضع ؟
أم إن هناك ظروف قاهرة أُخرى ؟


4 - التحية لك د.نوال السعداوي
الصادق القرشي ( 2012 / 8 / 13 - 05:35 )


ليست كل قلوب الرجال من حجر فمنها من تحفر فيها دمعات المطر, لكني أقول القصة رااااائعة وجاذبة جدا

اخر الافلام

.. شاهدوا الفتاة التي اختارها بيو من أجل جاك ??


.. الأردن: ما وراء ارتفاع مؤشرات العنف ضد النساء؟




.. العراق.. -سوسو- تنتزع لقب ملكة جمال القطط • فرانس 24


.. إحدى المشاركات سعدية العسري من مدينة قلعة مكونة بجنوب المغرب




.. عضوة فرقة أحواش تماست بمدينة ورزازات عتيقة الكدير