الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حاجة العالم الى دين جديد (2)

امال رياض

2012 / 8 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن انهيار الإيمان بالثوابت التي أقامها المذهب المادي وازدياد الخبرة الإنسانية في مجال خلق عالم موحَّد ، هما عاملان يدعم كل منهما الآخر في بعث تلك الرغبة الجياشة لدى الإنسان للتوصل إلى مفهوم حقيقي للوجود . وهكذا تم تحدي القيم الأساسية والتنازل عن الروابط التي تُفرِّق وتحدُّ. وصارت المطالب التي لا تخطر في البال مقبولة. إن ما يحدث هو انقلاب العالم – كما صرّح حضرة بهاء الله – ووصفته الكتب المقدسة للأديان السابقة مستخدمة الصورة المجازية " يوم القيامة " .
وقد تفضل حضرته قائلا بهذا الخصوص { قد أتت الصيحة وخرج الناس من الأجداث وهم قيام ينظرون. } فالسياق الجاري في طيّات ما نشهده من تفكك ومعاناة ما هو إلا سياق روحاني في الأساس – { قد سرت نسمة الرحمن واهتزت الأرواح في قبور الأبدان . }

كانت الأديان السماوية عبر التاريخ العامل الأساسي في التنمية الروحية للبشر . وبالنسبة إلى معظم أهل الأرض كانت الكتب المقدسة لكلٍ من هذه النظم الدينية ، حسبما وصفها حضرة بهاء الله " مدينة الأحدية " وهي مصدر تلك المعرفة المحيطة بالوعي إحاطة كاملة ، والتي لها من القوة والسلطان ما يُمكِّنها من أن تُنعم على المخلصين " ببصرٍ جديد ، وسمعٍ بديع ، وقلب وفؤاد جديد "
فهناك تراث أدبي واسع أسهمت في إبداعه كل الثقافات الدينية فسجلت في صفحاته ما مرّت به أجيال متعاقبة من سالكي سبل العرفان من تجارب ، ناقلة إلينا ما شاهده هؤلاء من تجليات الرؤى الغيبية .
فمنذ آلاف السنين إلى وقتنا هذا كانت حياة أولئك الذين استجابوا للإشارات الإلهية مصدرًا للإلهام حقق إنجازات مذهلة في فنّي الموسيقى والمعمار وفنون أخرى ، وإذ بخيرات الروح تلك تعود دومًا حية لتسعد الملايين من إخوانهم في الإيمان ، وليس من قوة أخرى في الوجود استطاعت أن تبعث في النفوس مثل ما بعثته الأديان السماوية من مآثر البطولة ومناقب التضحية بالنفس والانضباط . أما على المستوى الاجتماعي فطالما تُرجمت المبادئ الأخلاقية التي جاء بها الدين إلى قواعد عامة أخذ بها العالم في سّن القوانين لتنظيم العلاقات الإنسانية والرفع من شأنها . وإذا ما نظرنا إلى الأديان الكبرى في نصابه الصحيح نجدها بمنزلة القوة الرئيسية التي تدفع بعجلة التقد والرقي قُدمًا . وعكس هذاالقول يكون بالتأكيد تجاهل لما يشهد به التاريخ .

فهل لنا أن نتساءل إذًا: لماذا لا يقوم هذا الموروث موفور الثراء بدور رئيسي في يومنا هذا فيوقظ في النفوس من جديد توخي الحياة الروحية ؟
إلا أنه لابد من الإشارة إلا أنه هناك محاولات هامشية صادقة لإعادة صوغ تلك التعاليم التي قامت عليها الأديان كل على حدة. وذلك أملا في جذب الناس إلى الدين من جديد. ولكن يبقى جُلّ هذه المحاولات للبحث عن معنى يحددها متشعب الجوانب انفرادي المنحى، مشوشًا غير متماسك في طبيعته. فالكتب السماوية المقدسة لم يعتورها أي تغيير، ولم تفقد المبادئ الأخلاقية التي احتوتها أيًا من صدقيّتها ، فما من امرئٍ يتوجه إلى السماء مخلصًا في السؤال إلا ويكتشف – إن ثابر وألح – جوابًا عن سؤاله ، في " سفر المزامير " أو في صفحات " اليوبينشاد " (كتابات مقدسة عن الهندوس ) . وما من أحدٍ تجلى له بعض تباشير الحقيقة المتخطية حدود العالم المادي إلا تأثر تأثرًا بالغًا بكلمات يسوع المسيح: أو بوذا حين يتحدث كل منهما عن هذه الحقيقة حديثًا وديًا حميمًا . ففي نبوءات القرآن الكريم والرؤى الموحى بها عن يوم الدين تأكيد قاطع لمن يقرأها إن الهدف الإلهي عُمدته إقامة العدل والإنصاف.
أضف إلى ذلك إن حياة الأبطال والقديسين في ما يميزها من خصائص لا تتضمن اليوم من المعاني والدلائل أقل مما كانت توحي به أثناء حياة هؤلاء في ما مضى من قرون. ومن ثمّ فإن أشد جوانب الأزمة الحضارية الراهنة إيلامًا لمعظم المتدينين هو عجزها عن توجيه مساعي البحث عن الحياة الروحية بالثقة المطلوبة وقيادتها إلى دروب الدين المألوفة.
والمشكلة طبعًا ذات وجهين . فالنفس الناطقة لا تشغل فقط مجرد حيز خاص بها فقط، بل هي تُسهم أيضًا إسهامًا فاعلاً في نشاطات النظام الاجتماعي. ورغم أن الحقائق التي وصلتنا عن طريق الأديان العظيمة لم ينتهِ أجلها بعد ، وهي لا تزال صالحة إلى اليوم ، غير أن الخبرات اليومية الفردية في القرن الحادي والعشرين بعيدو كل البُعد ، بصورة لا يمكن تخيلها ، عن تلك التي عرفها الفرد ، أكان رجلاً أو امرأة ، في أيٍ من العصور التي شهدت ظهور الهداية الإلهية . فانتهاج الطريقة الديموقراطية في اتخاذ القرار غيَّر طبيعة العلاقة بين الفرد والسلطة الخاضع لها أيًا كان تغييرًا أساسيًا. وهكذا أخذت المرأة تسعى بكل إصرار، وهي تزداد ثقةّ ونجاح، في المطالبة عن وجه حق في المطالبة بمساواتها بالرجل في كل الحقوق. ويجب ألا ننسى أن الثورات في العلوم والتقنية لا تحدث ثورات في ما يسهم به المجتمع فحسب، بل تُحدث تغييرات في مفهوم المجتمع، وفي مفهوم الوجود نفسه أيضًا.
فانتشار التعليم انتشارًا عمّ العالم بأسره ، إضافة إلى فورة عارمة في مجالات جديدة من الخلق والإبداع ، قد مهَّد السبيل لإيجاد مفاهيم ثاقبة للأمور تحثُّ على حرية التنقل والتحرك في المجتمع واندماج عناصره ، وتخلق تبعًا لذلك فرصًا أمام المواطن للاستفادة منها كل الاستفادة حسبما يُقرّه القانون . فالأبحاث الطبيعية في مجال الحجيرات غير المُشخّصة ، والطاقة النووية ، وتشخيص الهوية الجنسية للفرد ، وما يكشفه علم البيئة من اضطراب في نظام العالم البيئوي ، وأخيرًا استهلاك الثروة – كل هذه المسائل على أقل تقدير ، تثير قضايا اجتماعية لم يسبق لها مثيل . وهذه التغييرات وغيرها من التحولات التي لا حصر لها والتي أثّرت في كل وجهٍ من وجوه الحياة الإنسانية، قد جلبت معها عالمًا جديدًا تتعدد فيه الخيارات أمام المجتمع وأفراده كل يوم. إنما الأمر الذي لم يطرأ عليه أي تغيير هو أنه لا مفر من فعل الاختيار خيرًا كان أم شرًا . وهنا بالذات تتمحور أهمية الطبيعة الروحية للأزمة الراهنة . لأن معظم الخيارات التي علينا اتخاذها ليست مجرد قرارات يمكن إجراؤها عمليًا بل هي قرارت ذات صِبغة أخلاقية أيضًا . وبناءً عليه كان فقدان الإيمان بالأديان التقليدية إلى حدٍ كبير نتيجة حتمية الفشل الذي أصاب البحث فيها عن سُبُل جديدة تهدي الناس حتى يتمكنوا من العيش بتوافق مع متطلبات العصر الحديث بكل ثقة واطمئنان.
أما ثاني الموانع أمام عودة النظم الدينية المتورارثة لإرواء غليل الإنسانية الروحي ، فهو نتيجة مظاهر العولمة والمساعي القائمة لخلق عالم موّحد ، سبق أن ذكرناها .
ففي كل جزء من أجزاء الكرة الأرضية يجد أولئك الذين نشأوا في بيئتهم الدينية الخاصة أنهم قد فُرض عليهم التعايش جنبًا إلى جنب مع غيرهم من الذين يدينون بعقائد وشعائر ، تبدو لأول وهلة منافية لما يدينون به على شأنٍ لا مجال إلى بحثه .
ومن الممكن أن تثير مثل هذه الاختلافات - وهذا غالبًا ما يحدث - مواقف دفاعية مضادة، مضافة إلى مظاهر نِقمة متأججة وصراع مفتوح. بَيْدَ أنه في كثير من الحالات تفضي هذه الأوضاع إلى إعادة النظر من جديد بالعقائد الموروثة، وتشجيع الجهود المبذولة على اكتشاف المبادئ والمُثُل المشتركة. ومما لا شك فيه أن الدعم الذي تتمتع به النشاطات المختلفة " لحركة تآلف الآديان " يُعزى بقدرٍٍ كبير إلى مثل هذه الجهود المبذولة . وبوجود مثل هذه الاتجاهات لابد من طرح التساؤلات عن تلك العقائد الدينية التي تُحرِّم المعاشرة والتفاهم بين أتباع دين وآخر.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: فإذا كان من الناس من يخالفك العقيدة أصلاً ولكنه على خُلق وفضيلة مشهودين، فلما الظن أن عقيدتك أنت هي الأفضل والأسمى ؟ وبدل هذا السؤال قد يُطرح سؤال آخر : إذا كانت الأديان السماوية الكبرى تمتلك قيمًا وفضائل أساسية معينة تشترك في الدعوة إليها ، ألا تُشكّل الولاءات المذهبية والطائفية إذًا خطرًا قد يفاقم دعم الحواجز غير المرغوب فيها بين الفرد وجيرانه ؟
وأما اليوم فقليل هم الذين لديهم معرفة موضوعية نوعًا ما بهذه الأمور، ومن المحتمل أن يساورهم الوهم إذًا بأن أيًا من النظم الدينية القديمة القائمة مستتبة الأركان يمكنه أن يقوم بدور المرجع النهائي لهدياة البشر في القضايا المتعلقة بالحياة العصرية ، حتى لو كان ذلك في ظروف لا يحتمل حدوثها مثل اتحاد المذاهب المختلفة مع تلك الأديان تحقيقًا لهذا الغرض . فكل دين من الأديان التي يعتبرها العالم أديانًا مستقلة قد سُبك في قالب من صنع تاريخه والمصادر الموثوق بها من كتبه المقدسة ، ولأنه ليس في مقدور أي دين من هذه الأديان أن يعيد صوغ نظامه العقائدي مستمدًا شرعيته مما أنزله مؤسس ذلك الدين من صدق الآيات ، كذلك ليس في مقدوره أن يجيب بصورة وافية عما يُطرح من تساؤلات كثيرة تُثار حول عملية الارتقاء والتدرج في الجالين الاجتماعي والفكري . وبرغم أن هذا الوضع باعث على الأسى والألم لدى كثير من الناس ، فإنه لا يعدو أن يكون مَعلمًا آخر من المعالم المتأصلة في سياق التطور والارتقاء . وأية محاولات ضاغطة لإحداث أي تغيير معاكس لهذا الوضع سوف تكون نتيجته الوحيدة أن يفقد الدين مزيدًا من سلطانه ونفوذه في النفوس ، وأن تتفاقم الصراعات بين فِرق الدين وشِيعه .

إن الحيرة التي يواجهها العالم الإنساني حيرة مصطنعة ومن صنع أيدينا ، فالنظام العالمي – إن جاز لنا أن نسميه بهذا الاسم - والذي يواصل فيه البهائيون جهودهم كي يشاطرهم إخوانهم من البشر رسالة حضرة بهاء الله ، نظام حوله من المفاهيم الخاطئة للطبيعة الإنسانية ومسألة الارتقاء والتطور الاجتماعي على السواء . ما تمكنه من تطيل الجهود المبذولة لإصلاح العالم الإنساني وتحسين أوضاعه.
وتنطبق هذه الحال إجمالاً على الفوضى المحيطة بكل وجه من الوجوه المتعلقة بموضوع الدين، وكي يتسنى للبهائيين تلبية المطالب الروحية لأقرانهم في الإنسانية تلبية وافية، عليهم أن يفهموا القضايا المتعلقة بهذه المطالب فهمًا عميقًا. وهذ الموقف الذي يتحدى البهائيين لمجابهته يتطلب مجهودًا إبداعيًا يمكن تقديره ، حق التقديرإذا أخذوا بتلك النصيحة التي لعلها أكثر النصائح التي تُردد بإلحاح وتتكرر في الكتابات المقدسة لدينهم فتذكرهم بأن " يتأملوا " في الأمور، و " يتمعنوا " في إبداء الرأي، و "يتبصروا " في مختلف الشئون .

من كتاب دين الله واحد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي