الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمضان 2012 وليبرالية مصر

شريف مليكة

2012 / 8 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تابعت خلال شهر رمضان 2012 بعض من الأعمال الدرامية المصرية التي اكتظت بها القنوات الفضائية (قيل إنه تم انتاج أكثر من سبعين عملا هذا العام). والملحوظة العامة التي خرجت بها هي ارتفاع المستوى التقني الملحوظ لعدد لا بأس به من تلك الأعمال. كما انتبهت لعدد ليس بقليل من الأسماء الجديدة ـ بالنسبة لي على الأقل ـ لجيل جديد من المخرجين ذيلت أسماؤهم الأعمال المتميزة التي تابعتها. ولكني لست بصدد تقديم تحليل فني لهذه الأعمال التي تابعتها باهتمام لأني ببساطة غير مؤهل لمثل هذا التقييم.
الحقيقة هي أن ما استرعاني بالذات، وهو ما دفعني للكتابة اليوم، هو عملان من الأعمال الدرامية التي تابعتها، أولهما مسلسل "نابليون والمحروسة" من إخراج شوقي الماجري. ومرة أخرى لن أفيض في الحديث عن التقنيات الفنية لهذا العمل المتميز، وبالذات الصورة والكادرات والإضاءة التي استخدمها المخرج ببراعة ليجعلنا نتصفح اوراق التاريخ وكأننا نقلب صفحاته مع الصور الشهيرة التي رسمها الفنان الاسكتلندي دافيد روبرتس والتي رسمها في أوائل القرن التاسع عشر. نفس الألوان ونمط الثياب ونكاد نبصر على الشاشة ذات التكوين بين صورة لأخرى.
ولكني في الواقع أبغي الحديث عن شيء آخر هنا. أريد أن أصف ما شهدته ـ ولست أدري لو كان المؤلف أو المخرج تعمدا إيصال ذات الشيء أم لا ـ وأقدم هنا رؤية عجيبة من مدى تطابق نمط الحياة عند اهل المحروسة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وبين سكانها في أواخر القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين. قادة الشعب من المشايخ الملتحين المعممين الذين برعوا في استمالة العامة واحتواء غضبتهم واتجاهاتهم لمقاومة الغازي الفرنسي. رأيت النساء مقهورات وملفوفات بالأغطية خلف الأبواب والنوافذ، وشهدت تقسيم المجتمع إلى مسيحي ومسلم ودعوة المسلمين بعضهم البعض لمعاداة القبط والروم والأرمن بحجة احتمال موالاتهم لحملة نابليون على أساس الدين المسيحي الذي يجمع بينهم. كما أثار العمل مرارا تعجب نابليون نفسه من تقبل المصريين لاضطهاد وظلم الحكام المماليك للمصريين لسبب الإسلام الذي يدينون به. وبالرغم مما قدمه العمل من تعاون واضح بين المماليك وبين رجال نابليون، واستضافة زوجة مراد بك حاكم المحروسة للجنرال بنفسه في منزلها وتبادل الهدايا بينهما.
أتبدو تلك المشاهدات مختلفة كثيرا عما يحدث اليوم في مصر بل وفي كثير من أرجاء البلدان العربية؟
ألا يقود الشعب المصري اليوم إخوان مسلمون ومشايخ وأئمة؟ أتتعجب معي من اللغة المستخدمة اليوم في تعاملاتنا اليومية من لقاء الرئيس بأعوانه بعد صلاة العصر، والتراويح، ومقابلات رئيس الحكومة بالوزراء بعد صلاة الفجر، ومن يؤم من في الصلاة، وعن عمرة السيد الرئيس ثم عائلته، وعن زيارة المملكة السعودية كأول زيارة رسمية لأنها مسقط رأس الرسول؟ أتختلف اللغة هذه كثيرا عن تلك المستخدمة في مسلسل رمضان عن نابليون وعن المصريين في ذلك الزمن الساحق؟
ثم ماذا عن الدعوة لكراهية وعداوة المسيحيين المسالمين الإخوة في الوطن، والمحاباة للظلمة المستبدين الغزاة المسلمين. ألم نسمع نداء "الماليزي المسلم أفضل من المسيحي المصري؟" ألم نشهد ترحابا بالغزو الثقافي الوهابي لمصر وليبيا والمغرب العربي، والغزو السوري والإيراني للبنان، وكأنها فتوحات إسلامية، لا غزوات سياسية وحضارية؟ وفي المقابل نشهد كم من الكراهية غير معقول تجاه أمريكا والغرب بالرغم من المساعدات الاقتصادية والعسكرية والثقافية المتدفقة لعشرات السنين. ألم نسأل أنفسنا كما تساءل نابليون يوما: لماذا؟
ولكن هذا التطابق المذهل لأنماط اجتماعية في بلد واحد كان سيبدو منطقيا وغير ذي بال، حتى ولو كان يفرق ما بين العصرين مائتي عام. فالحياة في بلدان عديدة في أواسط أفريقيا، وقبائل الأمازون الاستوائية، ونيوزيلاندا مثلا، ماتزال تحمل نفس السمات عبر مئات بل وآلاف السنين بدون تغيير ملحوظ. إلا إن عملا دراميا آخر تابعته هذا العام أيضا كسر قاعدة الرتابة تلك التي تفرض بقاء الحال على ما هو عليه عبر السنين. فالعجيب إن "كاريوكا"، ذلك العمل الدرامي ـ من إخراج عمر الشيخ ـ الذي يؤرخ للحياة في مصر المحروسة خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين، عبر سرد قصة حياة الفنانة تحية كاريوكا، جاء ليضع علامات استفهام عديدة عما حدث للمصريين ما بين القرنين الثمن عشر والواحد والعشرين.
بالرغم من عناصر الحياة المتشابهة لحد بعيد، يأتي "كاريوكا" مثل قنبلة اجتماعية تنسف سلاسة المشهد الذي قد يبدو رتيبا عبر المائتي عام السابقة. ففي الواقع نستفيق على حقيقة أن المجتمع المصري قد تغير تغييرا جزريا خلال تلك السنوات. ويحكي لنا المسلسل قصة حياة الراقصة الشهيرة والمثلة البارعة تحية كاريوكا. نجمة لمعت في سماء المجتمع المصري في زمن متوسط ما بين قدوم نابليون للمحروسة، وبين خسوف وأفول حكم العسكر لمصر، وبزوغ بريق زمن الإخوان فيها. وأكرر هنا أنني لست محللا أو ناقدا فنيا، ولن أخوض في مميزات أو عيوب المسلسل، إلا إني لابد وأن أشيد بحلاوة الصورة وجمال الإضاءة وجودة التمثيل.
ولكن الأمر العجيب حقا هو ذلك المستوى المرتفع من الليبرالية الذي كان يميز الحياة في مصر في تلك الحقبة. فمن يصدق أن المصريين الذين صرخوا هلعا أمام زحف نابليون وجنده: "يا لطيف الألطاف! نجنا ممن نخاف!" هم نفس المصريين الذين تلقوا تلك الفلاحة الهاربة من بيت أهلها حافية القدمين، باحثة عن مغنية قابلتها في فرح من الأفراح بالإسماعيلية الصغيرة، وهي ترتمي في أحضانهم ساعية لأن تصير راقصة! هذه الفتاة التي أكد العمل على شرفها، وحرصها على صون عفتها، حتى وهي تحترف الرقص في ملاهي "عماد الدين" ماذا كان ينتظر أمثالها في زمن المماليك البائت أو في زمن الإخوان الباقي؟
تلك الراقصة "الشريفة" تزوجت من باشوات من كبارات رجال القصر، ومن عظماء الفنانين، وحتى من أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذي حكم مصر يوما، والذي انتهى عمليا حكمه لمصر منذ بضعة أشهر. أعن مصر المحروسة نتحدث أم عن باريس أو نيويورك؟ الراقصة في المسلسلات المعاصرة الأحداث هي نموذج المرأة الفاسدة الشريرة في مسلسل "خطوط حمراء" مثلا، أما في عصر المماليك فلم تكن المرأة تقدر أن تخرج أصلا من دارها. ولكن "كاريوكا" كانت اللؤلؤة الثمينة التي تمنى عظماء مصر وكبار مفكريها التعاون معها ومصادقتها. ونفس تلك الليبرالية هي ـ في رأيي ـ سبب شموخ نجوم أخرى تلألأت في سماء مصر في نفس الحقبة مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهم كثيرون.
و"كاريوكا" كانت محاطة أيضا بشخصيات مسيحية دفعوا بها للأمام وجعلوا منها النجمة المتلألئة التي عرفتها مصر. وأهم تلك الشخصيات طبعا بديعة مصابني ونجيب الريحاني، ولكن في ذلك الزمن الجميل، وبالرغم من الاحتلال البريطاني لمصر، لم تكن النعرات الدينية بالصخب الذي كانت عليه قبلها والتي صارت إليه بعدها. لم يدعو أحد بطرد المسيحيين الشوام أو الأقباط لأنهم موالون للكفرة الأوروبيين، أو الكفرة الأمريكيين.
ولكن يبقى السؤال العجيب هو كيف حدث هذا التغيير بهذه السرعة مرتين خلال تلك الحقبة القصيرة نسبيا في عمر الشعوب؟ كيف تتحول المحروسة من التخلف والبداءة إلى التحرر والتقدم الثقافي والفكري ثم تعود وتنتكس إلى ما كانت عليه في مدار مائتي عام؟ كيف يمكن لشعب في بداية القرن الواحد والعشرين أن يحيا بنفس الأفكار والمقاييس التي كان عليها في القرن التاسع عشر أو حتى قبل ذلك بكثير؟ الحقيقة هي إني لا أعرف إجابة عن هذا السؤال، بل ولا أعتقد أن هناك نمط اجتماعي مشابه في أي مكان آخر نقدر أن نستنبط منه تفسيرا لتلك الظاهرة الاجتماعية العجيبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انها العواصف الرمليه ذات الرائحه البتروليه ...
حكيم العارف ( 2012 / 8 / 24 - 02:28 )
تصحير عقول الشباب

تزويج الفتيات من التاسعه لزيادة اعداد المسلمين او لبيعهم للامراء السعوديين والقطرين

تحويل نبع الثقافه والحضاره من مصر الى بلد عربى اخر لمن يدفع اكثر

فرض شريعة الغاب على شعب قديم الحضاره

شريعة من قام بالغزو يحل له سلبه وعرض ومال من تمت هزيمته.

شريعة الاسلام التى ان طبقت سيكونون هم اول من اشتكى منها


2 - الاستاذ شريف المحترم:جوابي لسؤالك الاخير
بشارة خليل قـ ( 2012 / 8 / 24 - 22:13 )
استاذي ما زال الاسلام يضرب بالسوط شعب مصر منذ 14 قرن وما فترة الليبرالية التي انتجت القمم مثل كريوكا وعبد الوهاب وام كلثوم الا الفترة التي رفع فيها الاسلام سوطه عن ظهر مصر لينزل به مرة اخرى منذ اواخر السبعينات
وسيرفع الاسلام سوطه مرة اخرة بعد ان لسع ظهر مصر ويضرب مرة اخرى ومرات الى ان يعطي له الشعب المصري صدره المقاوم بدل ظهره المهري منذ الغزو البدوي
تحياتي الخالصة

اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال