الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوافرالخيول أعمق من حكمة العقول

غالب محسن

2012 / 8 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 43

رمضان وَهْم الإيمان

ربما يحتفل المسلمون في كافة أرجاء المعمورة ، خاصة في بلداننا العربية ، بقدوم شهر رمضان أكثر من إنقضاءه . قد يبدو هذا غريباً مع كل ذلك التذمر من قساوة الطقس وطول النهار ومشاق الصيام وغيرها . ففي هذا الشهر يتفاخر المسلمون بطبخ أشهى الأطعمة الزكية ، وتزدهر أسواق السياسة والتجارة أكثر من أي وقت مضى ، ويكثر الورع والتقوى " في المظهر على الأقل " والأمل في المغفرة على معاصي ما قبل الشهر الكريم ، وما بعده أيضاً . ويتبادل المسلمون الهدايا والزيارات والسهرات ، وتجري الكثير من الفعاليات والأستعراضات الجماهيرية والفردية والعائلية بما فيها توزيع الهدايا أو المقايضة ، ويكثر الكلام عن فوائد الصيام ، التي أثبتها العلم ويجهلها الكفار وغيرها .

بعبارة واحدة ، كل شئ يزدهر إلا العمل .

وأكثر ما ينتعش في رمضان ، بعد المطابخ و " المْحَيبِسْ " (1) ، هي صناعة المواعض والخطب العاطفية والحماسية ، وفتاوى ما بعد الفطور ، وفي كل مكان ، في الجوامع و المدارس والمقاهي والساحات والأسواق والحَضْرات وحتى في ظلام الحجرات ولتصل ذروتها في الفضائيات . وهذه الأخيرة هي الأشمل والأجمل والأضمن في أيصال الكلمة بالصورة ، ذات الأبعاد الثلاثية وكما يريدها القيّمون . لذا تنفق مئات الملايين من الدولارات في أنتاج المسلسلات والبرامج " الرمضانية " المنوعة ، والمسابقات ، للصغار والكبار . فهنا أيضاً إستثمار للمستقبل !

مسلسل عمر ، تأمل

وفي حمى هذا السباق ، عرضت قناتي أم بي سي و قطر الفضائية مسلسل " عمر " للمخرج السوري المبدع حاتم علي ومن تأليف الشاعر والكاتب الدرامي د. وليد سيف (2) .

يعتبر هذا العمل ، كما يقول الأعلان عنه ، أكبر أعمال الدراما التأريخية التي أنتجتها الصناعة التلفزيونية العربية ، حتى الآن . ربما كان هذا صحيحاً . وأُضيف من عندي ليس فقط من حيث الميزانية الضخمة التي خصصت للفلم ، والعدد الكبير للمشاركين فيه بل وأيضاً ، كما أرى ، من حيث التقنية السينمائية الحديثة بما فيها الأستخدام الواسع للحاسوب ، في التصوير ، وهي تقنية أُستخدمت في إنتاج العديد من الأفلام التأريخية الضخمة في السنوات الأخيرة ، و لمخرجين عالميين كبار مثل أوليفر ستون في فلم الأسكنر الأكبر ، والمخرج الألماني ولفغانغ بيترسن في فلم طروادة ، والمخرج الأمريكي زاك سيندر في فلمه عن أسبرطة 300 وغيرهم بالطبع كثير . من هذه الناحية يعتبر مسلسل عمر ليس نجاحاً شخصياً للمخرج فحسب بل أنجازاً كبيراً ، وربما باهراً ، بحدود ، في الأنتاج العربي للدراما التلفزيونية الذي ما زال ينمو .

وبغض النظر عن دوافع البعض المثيرة للريبة ، وعما أثاره ذلك العمل من زوابع " كلامية " و " فقهية " و " فتاوى فكرية " و " تناطح " و " تباطح " ، كانت بنظري طبيعية ، تمتد جذورها في ثقافة تقديس ، فكر ، وعمل ، وشخص الصحابة أنفسهم ، دع عنك صاحب الدعوة وسنته . وفي أحيان كان لدى آخرين " صخب " بحسن نية ، بسبب ضعف أو تباين أو ضبابية بعض الدلائل التأريخية المثيرة للخلاف ، وأُعتُمِدَت في العديد من المشاهد على الأنتقائية في إختيار الأشخاص و الحدث والزعم ، دع عنك إختلاف الروايات ومرجعية الرواة ( قارن مثلاً مع مصادر الشيعة ).

لكن المسلسل من زاوية أخرى ، غَرِقَ في الخُطَبِ والمواعضِ وكأننا نخرج من جامع حتى ندخل آخراً ، مع أنه لم يخلو ، في أحيان كثيرة ، من الأثارة " الأكشن " بل و بالغ في بعض مشاهد المعارك حتى كاد أن يتيه عن فكرته الرئيسية .

لو وضعنا جانباً كل ذلك ، وغيرها ، فأنني ، مع ذلك ، أرفع قبعتي للمخرج حاتم علي مرتين .

في الأولى لأنه من الناحية الفنية والدرامية قدم عملاً ذو مستوى رفيع ، ليس فقط ، من حيث التقنية الفنية ، وإنما أيضاً من زاوية تسلسل الأحداث ، تنوعها ، بناء المشاهد الدرامية بذكاء ، وبذلك أوصل ، و إن شئتم رسّخ ، في عقل المشاهد الصورة المثالية لتلك المرحلة التأريخية ، ليس على الطريقة المدرسية الفجة ، بل بكل رحابة ويسر وكما أرادها المنتج .

فعل المخرج كل ذلك دون أن نشعر بالألم أوالحزن أو الندم ، بل العكس بالفخر والحنين لتلك السنين ، بل وفي المآقي كثيراً ما ترقرقت الدموع . فالإحتلال والغزو والإستيلاء على الأراضي كان فتحاً ، والقتل والتهجير كان جهاداً ، والغنائم والسبي وما ملكت الأيمان كانت مما أفاء الله به على عباده الصالحين . أما صلاة الأستسقاء فهي مما يجب إتقانه وتكراره بكل خشوع وإيمان إذا أردنا الأزدهار لبلداننا في الدنيا ، ومكاناً آمناً ، مع الصالحين ، في الآخرة .

المساومة في السياسة لا في التأريخ

وأرفع قبعتي له مرة ثانية لأنه ، حاتم علي ، حاول أن يلقي الضوء على واحدة من أصعب المراحل في تأريخنا العربي الإسلامي ، تلك الفترة " الذهبية " والمقدسة . كان مجرد التعرض للكثير من تلك الحقبة وأحداثها ، خارج مفاهيم الكتب المدرسية ، يضع أصحابها في موضع الكفر والنفاق بل وأقامة الحد عليهم فقط لأنهم حاولوا فتح صناديق التأريخ التي أوصدها القيمون على الدين . على سبيل المثال مكيدة " نعيم بن مسعود " أبان معركة الخندق ، للأيقاع ببني قُريضة ، وكيف أن النبي ، بعد أستسلامهم ، حَكَّمَ فيهم سعد بن معاذ ، زعيم الأوس وحليفهم ، وقد عرف نوايا نبيه ، فنطق الحكم بذبحهم ، فجاء الوحي ليؤكد الحكم في سورة الأحزاب .

أن وجود لجنة " شرعية " للأشراف على كتابة النص لم يكن دليل قوة إلا لضعاف البصر ، فهو على العكس كان دليل ضعف وإختلاف ومساومة ، على التأريخ ، مما زاد الطين بلة (3) . أن وجود مثل هذه الهيئة كان بمثابة ال " ماينوتور " على مخرج ومؤلف العمل في عدم الخوض عميقاً في أوحال التأريخ حتى لو أضطرهم ذلك الى " أبتلاعهم " (4) .

ففي أكثر من مرة ، أُجتُزِأت قسراً فصولاً من الأحداث أو تجاهلت عمداً أخرى مما أضعفت مصداقية المخرج ، مثلاً التجاهل التام لفترة الموحدين ( أو الحنيفيين ) قبل ظهور الإسلام ، فشل الهجرة الأولى للطائف ، مصير النبي في معركة أحد وفرار كثير من الصحابة ، أغتيالات النبي لعدد من معارضيه ، حصار اليهود في خيبر وتدمير حقولهم وغيرها كثير . . وبالتأكيد لم يكن ذلك سهواً أو بسبب ضيق المساحة . ففي أحيان كثيرة ركّز المسلسل على شخصيات ثانوية ، قليلة الأهمية من الناحية التأريخية ، بل كادت تخطف الأضواء من الأبطال الرئيسيين ، شخصيات مثل وحشي ، قاتل حمزة .

أقول إن تجاهل تلك كان بوعي ، فإن ظهرت ، كان لها أن تُبهت بريق الرسالة وصورة أصحابها.

وفي الوقت الذي أحتل فيه أبو بكر موقع الصدارة بين شخصيات المسلسل بلا منازع ، غابت ، بل أُسبتعدت ، شخصيات تأريخية كبيرة ، لا تقل أهمية ، عن كثير من شخصيات المسلسل ، في فجر الدعوة وما تلاها ، في فترة الخلفاء الراشدين مثل الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري . أما ظهور الإمام علي فقد كان شكلياً ، كمن يذر الرماد في العيون .

من بين القضايا التي أثارت خلافات بين الرواة والمحدثين هي واقعة مقتل " الصحابي " مالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد وزواجه بأمرأته الجميلة ليلى ، أم تميم . وملخص الحادثة أن خالداً تعمد قتل مالكاً من أجل أن يستولي على إمرأته ( التي تؤكد العديد من الروايات هوى خالد بها ) ، رغم محاولات بعض الرواة تصويرها وكأنها هفوة أو سوء " تأويل " كما يقول المدافعون عنه . هذه الحادثة كانت من الأهمية أنها كادت أن تطيح بتحالف أبي بكر وعمر .

لكنها لم تكن القصة الوحيدة في تأريخ الديانات التوحيدية ، فهناك قصص مشابه .

أنها تذكرنا بقصة زواج النبي داود من أمرأة الجندي أوريا . ملخص القصة كما جاءت في التوراة (5) ، هي أن النبي داوود أُعجب بزوجة الجندي أوريا (كان يتلصص النظر عليها من فوق السطوح ) ، ثم أخذ يراودها بين الحين والحين ، فحبلت منه ، وكان وقت حرب بين إسرائيل وبني عمون ، وأوريا ، زوجها ، جندي في الجبهة . فخشي النبي داود الفضيحة ، فكتب داوود الى يوآب قائد جنده يأمره فيها أن يضع الجندي أوريا في مقدمة الجيش عند الهجوم على أسوار عمون ثم يتركوه هناك ليُقْتَل . وهكذا فعل يوآب ، فقُتِلَ الزوج المسكين وأستولى الملك داوود على زوجة المرحوم أوريا (6) .

لكن مسلسل " عمر " يعرض لنا براءة الأمير خالد بن الوليد بن المغيرة رغم أنه قدم لنا أعتراض الصحابي أبي قتادة وشكواه على خالد عند الخليفة أبي بكر . لم يكن ، بالطبع ، ممكناً تجنب شكوى أبي قتادة لأن معظم المحدّثين قد أجمعوا عليها ومع ذلك فقد عُرضت بهشاشة وتركت شعوراً قوياً بالشك . إن دفاع الخليفة أبي بكر عن قائده ، خالد بن الوليد ، كان من الطراز الممتاز فهتف وكأنه وجدها " ليس على الذمية عدة وفاة " فلم يترك مجالاً لأية فسحة من الشك أو الأعتراض . أن شخصية خالد وأعماله لم تهتز قط منذ أن كنّا على كراسي الصفوف الدراسية ، لكن ذلك كان قبل أن يزعزع الشجعان و عالم لأنترنت (وغيرها) أركان الحجر الأسود وجدران المدينة المقدسة وليثير الغبار عن صفحات بقيت مغلقة ومُحَرَّمة لقرون عديدة .

في ظل حكم الثيوقراطيين ، وأصحاب البترول والفضائيات ، والجهل والتخلف ، وغياب الديمقراطية ، وسيادة فكر التكفير ، ليس لمثل حاتم علي سوى ثواب المحاولة .


د. غالب محسن


----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

1 . " المْحَيبِسْ " وهي تصغير لكلمة " محبس " أي خاتم ، لعبة شعبية عراقية تتطلب فراسة لإيجاد " محبس " يحتفظ به أحد الاعبين (مطبقاً عليه بكقه) من الفريق الخصم .
2 . حاتم علي هو ممثل وكاتب ومخرج سوري حاصل على جوائز عديدة في ميادين التمثيل والأخراج . والدكتور وليد سيف هو الآخر سوري ، شاعر ومؤلف لعدد من الأعمال الدرامية التلفزيونية الناجحة . ومسلسل عمر هو ليس العمل الوحيد الذي أشتغلاه معاً ، فقبل ذلك عملا سوياً عدداً من المسلسلات التأريخية منها الزير سالم ، صلاح الدين ، صقر قريش و بالطبع مسلسل عمر .
3. من بين شخصيات اللجنة يوسف القرضاوي ، احد أقطاب الأخوان وأيضاً سعد العتيبي الذي يرى ان الموسيقى حرام ويجب منعها وقس على هذا الحال .
4 . الماينوتور ، حسب الأسطورة اليونانية ، حيوان نصفه الأعلى إنسان والأسفل ثور ، وكان متوحشاً يبتلع البشر ...
5 . التوراة ، السفر العاشر ، صموئيل الناني ، الإصحاح الحادي عشر ص 497 وما بعدها من طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط .
6 . هنك تشابه ، هنا أيضاً ، مع قصة زواج النبي محمد من زينب بنت جحش زوجة أبنه بالتبني زيد بن حارثة ، لكن النبي لم يكن بحاجة للسيف وقتها للزواج منها ، فقد كان عنده الوحي . فبعد أن وقعت عين النبي علي زينب وأُعجب بها (كانت جميلة وهي من نزلت فيها سورة الحجاب ) ، إضطر زيد لأن يطلقها ( حسب مشيئة الله ) ثم جاء الوحي يأمر النبي بالزواج منها لأنه لم يكن مقبولاً لا إجتماعياً ولا ثقافياً أن يتزوج الأب زوجة أبنه ، وإن بالتبني ، فجاءه الأمر من السماء في سورة الأحزاب الآية 37 ، والنبي بالطبع هو أول من عليه طاعة الرب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب


.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت




.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق


.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با




.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط