الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن نصر حامد أبو زيد

محمد حسن عبد الحافظ

2012 / 8 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ـــــــــــــــــــــ
أثناء تواصلي مع صفحة "Dr. Nasr Hamed Abu Zaid د. نصر حامد ابو زيد Fan Club" على شبكة التواصل الاجتماعي facebook ، وعنوانها:
https://www.facebook.com/groups/nasr.abuzaid
وجدت مناسبة مواتية وسياقًا فريدًا لأقص - للمرة الأولى - ملامح من سيناريو ذاكرتي مع المعلم الكبير نصر حامد أبو زيد.
ذات صباح باكر من شهر أكتوبر عام 1990، في مدرج 74 بالمبنى القديم لكلية الآداب جامعة القاهرة، كنت من بين طلاب السنة الأولى لقسم اللغة العربية، ننتظر الأستاذ الذي سيحاضر لنا للمرة الأولى في مادة البلاغة العربية. ودخل الأستاذ في موعده المقرر بالجدول تمامًا (لم أنتبه لحظتها لدلالة احترامه للسياق المؤسسي، ولالتزامه الأمين والصارم بقوانينه، وإنما أدركت في مطلع العام الدراسي الثالث) رجل بدين، يتزيا بقميص مشجر فضفاض، وبنطال قمحي - لون القمح تمامًا - (ظللت أحصد من رحاب روحه وفكره - حتى لقائي الأخير به في قسم اللغة العربية عام 2004 - معنى أن الظاهر شيء والباطن شيء ومعرفتهما واجبة، ومعنى أن التعقد كله ينفك بالمعرفة واجتهاد العقل، ومعنى أن المسكوت عنه كله ينطق بشجاعة المفكر وجسارته، ومعنى أن المستتر يستبين بالتأويل المنهجي والمفتوح في آن، ومعنى أن الغامض يستضيء بالبحث والحفر في آن - ظل واقفًا على قدميه طوال ساعتين، إلا الربع ساعة الأخيرة التي أدرك فيها فجأة أن تحليقه المعرفي بنا يجب أن يهبط بسلام، حيث رسم لنا مثلث الدلالة، وعرفنا إلى فرديناند دوسوسير للمرة الأولى، وطرح علينا أسئلة التأويل. وفي الدقائق الأخيرة من المحاضرة المنضبطة والمكتنزة، قال لنا: سندرس تراث البلاغة العربية، وأصطفي منها لكم كتاب "أسرار البلاغة" ليكون عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم، في معية دوسوسير صاحب علم اللغة والسيميولوجيا، وجهًا لوجه في حيز مداركنا الضيقة التي ظلت تتسع محاضرة بعد محاضرة. ثم قال: من يريد لقائي يأتي لمكتبي في أي وقت، ومن يتمتع بحس إبداعي فليأتي بنتاجه لي في أي وقت.
خرج، وخرجنا خلفه، وبين جموع زملائي كنت سارحًا متسائلاً: من يكون هذا الأستاذ الفذ؟ ذلك السؤال الذي ظلت إجاباته غير منقطعة عن التراكم والتفاعل، إلى اللحظة.
لا أتذكر متى وكيف اقتنصت اسمه، هل عرفنا باسمه بذاته في مستهل المحاضرة الأولى؟ لا غرابة أنه فعل ذلك، فقد ظل في كل محاضرة قديرًا على الإفصاح عن نفسه بعمق، وظل يطوف في روحي بيسر ورهافة. أم هل أخذت أبحث عن اسمه في الجدول المعلق قرب باب القسم؟ أظن أني فعلت ذلك، حيث يتسق هذا النوع من البحث وطبعي. أم هل سألت زميلاً اسم هذا الأستاذ؟ ربما. لكن الذي أتذكره حقًا هو أنني عرفت اسمه بتجلياته المتعددة: نصر أبو زيد، نصر حامد أبو زيد، نصر حامد رزق.
بعد نهاية المحاضرة الثانية، حرصت أن أسبق زملائي وزميلاتي، وخرجت خلف الدكتور نصر مباشرة، حييته، وسلمت له مخطوط قصيدة كنت قد كتبتها قبل عامين (1988) تمثل صوغًا شعريًّا لـ سهى فواز بشارة؛ فتاة الجنوب اللبناني التي أطلقت الرصاص على اللواء أنطوان لحد قائد جيش لبنان الجنوبي العميل لإسرائيل، واعتقلتها سلطات الاحتلال لسنوات. وبعد أسبوع ذهبت إلى مكتبه، وعرفته بأني الطالب صاحب قصيدة "سجينة الجنوب"، فتلقاني بابتهاج، وقال: نصك بديع، صحيح هناك مشكلات إيقاعية، لكن ثمة تميز في الصورة والرؤية، وأيضًا الوعي المجاوز للقضايا المحلية، فأنت شاعر بهذا المستوى. وعرفني بضيفة معه، وقال: أعرفك بالشاعرة أمل فرح، وكانت قد تخرجت قبل عام في القسم. جالسته للمرة الأولى لأكثر من نصف ساعة، لا أتذكر جيدًا ما دار في الجلسة، لكن ما أتذكره جيدًا أنها كانت محطة نوعية في رحلة تعرفي إلى نصر حامد أبو زيد.
قبل لقائي به في قسم اللغة العربية عام 2004، أو 2003 حسب تكهن صديقي وتلميذ أستاذي نصر: جمال عمر، منشئ الصفحة المذكورة في مطلع هذا النص، كان الدكتور أحمد مرسي قد دعاه لحضور ندوة في الهيئة العامة لدار الكتب الوثائق القومية التي كان يرأسها مرسي آنذاك. ولا أتذكر كيف عرفت سلفًا بحضور د. نصر . ربما من مرسي نفسه وأنا في مكتبه. لكن ما أتذكره حقًا هو أني حرصت على إبلاغ صديقي هشام عبد العزيز بوجود الدكتور نصر بعد أيام في هذه الندوة. لم يكن هشام قد التقى به منذ تخرجنا. وكنت دومًا أشتم في هشام اجتهاد أستاذنا نصر ، من لدن زملاء دفعتي (ربما كان هذا أحد الأسباب الرئيسة في أن نكون جيرانًا في العمارة نفسها، إلى حد أنه لا يفصل بيننا سوى سقف شقته الذي هو نفسه بساط شقتي). وصلنا إلى الندوة في الموعد. وبالرغم من تحفظي على وجود أبو زيد مدعوًا للاستماع إلى الندوة وحضورها، وليس متحدثًا ومحاضرًا حُرمنا لسنوات من حديثه الحيوي بعد سفره إلى هولندا، لكني كنت سعيدًا لأننا كنا (أنا وهشام) نجلس على المقعدين اللذين من خلف مقعده تمامًا. لا أذكر عما دارت الندوة (إلا بعض هسيس مرسي) ولا من كان فيها (إلا بصيص مرسي أيضًا). لكن ما أتذكره حقًا هو أني كنت أنظر إلى أستاذي نصر من خلف، أرقب إنصاته، وأتابع ميله إلى الميمنة حينًا وإلى الميسرة حينًا، وبينهما اعتدال عظيم. ثم انتهت الندوة. وقدمت هشام أمامي ليكون أول من يكون مطلاً على وجه الدكتور نصر من لدن الحاضرين، وأنا في الخلف أيضًا لا أزال أتأمل في صمت، مد هشام يده إلى الدكتور نصر، ومد الدكتور نصر يده إلى هشام، انحنى هشام ليقبل يد أستاذه الذي يحب (ولم يكن هشام قد قبل يد شخص قط غير أبيه الحاج عبدالعزيز)، انجزع الدكتور نصر، ورفع تلقائيًّا كتفي هشام بكلتا يديه، فارتمى هشام في حضنه وقد غلبته الدموع، وقال: وحشتنا أوي يا دكتور نصر. فقال الدكتور نصر بتأثر شديد: يا بني أنا عمري ما سبتكم، ليه كدا؟
بينما أكتب هذه المشاهد من سيناريو الذاكرة، كنت أتحدث إلى صديقتي الباحثة الفلسطينية فيليتسيا البرغوثي التي تنكب على عملها في سوسيولوجيا الحجاب، أسرد لها بعض الأحداث الفكرية التي عشتها طالبًا وقارئًا وباحثًا مع إسهامات الدكتور نصر حامد أبو زيد، وكانت للمرأة فيها موقعًا يليق بوجودها إنسانًا، بعدما استهدف الفكر الديني ورجاله حريتها وكرامتها. وبالرغم من تخصصي في الأدب الشعبي جامعًا ميدانيًّا وباحثًا ومحاضرًا، فإنني ظللت قابضًا على النظر إلى العالم وقضاياه بالجدل الذي استنبته الدكتور نصر في عقلي. وكان هذا الحوار مع البرغوثي هو مواصلة لتواصل حميم مع إنجاز نصر، أبديه مع كل باحث مائز أتعرف إليه. وتمثل مجموعة المقالات القصيرة التي أنشرها في موقع الحوار المتمدن منذ ربيع عام 2005 مواصلة لإصراري على مجاوزة التخصص المنكفئ. فقضايا الفكر الديني يجب أن تكون دومًا محط شجاعتنا الفكرية، ودأبنا البحثي والمنهجي في تجلياته ومجاليه. وآن الآوان أن نقول لنصر: إننا نمضي في الطريق نفسها جماعة وفرادى.
ــــــــــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب