الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هَل يَخشَى العِرَاقِيُّ العِرَاقِيَّ ؟

فرياد إبراهيم

2012 / 8 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لماذا يتهرب العراقي من العراقي في المهجر؟
ولماذا لا يهرب الهندي او الافغاني او المغربي من بعضهم البعض؟
بل الأغرب لماذا لا يتهرب العراقي من الهندي أو من أي فرد آخر من أي بلد آخر عدا بلده؟!
ويصعب للبعيد ان يتوصل إلى إجابة شافية . ويسهل ذلك على القريب والذي خبر الواقع عن كثب.
قبل أربعة عشر عاما وفي الكامب (مخيم إيواء اللاجئين) والتي تسمى : ASC تطوعت كمترجم لطالبي اللجوء من الكرد و العرب والأفغان والفرس والتركمان ، كوني أجيد اللغة الانكليزية إلى جانب لغاتهم.
أول من جاء لي طالبا المساعدة كانت امراة عراقية شابة . رافقتها وترجمت لها والتي شكت حالها هكذا:
“إن هناك نفرا من مقيمي الكامب يستغلونني لا لشئ الا لأنني أتكلم نفس اللغة ونفس اللهجة وأنا أرملة، كلما مررت اسمع تعليقاتهم السامة: إنها مودرن، تلبس قصير، تغري... وما شاكل ذلك، ما لهم ومالي؟ ولماذا لا ينتقدون غيري وهنا تسكن نسوة من خمسين قومية؟"
ثم أجهشت بالبكاء.
ثم أضافت : " ليست هذه هي الحرية التي كنت أحلم بها قبل الرحيل." ثم طلبت مني أن اترجم له عبارتها حرفيا:
- انقلوني إلى أي جهة لا يوجد فيها عراقي!
الدهشة عقدت لساني ولسان حالي يقول: واويلاه أيعقل هذا؟
فقد كنت جديدا بعد على المخيم (الكامب)
ثم جاء الآخر يعرج. رافقته إلى نفس القسم الذي اعتاد موظفوه على وجوهنا لكثرة المراجعة.
بدأ الرجل يشرح حاله ومشكلته قائلا: " إن هناك رجلا ذا شوارب كثة يشاركني نفس الغرفة . إنه له سحنة وملامح نفس مفوض الأمن الذي عذبني والهب ظهري بالسياط."
ثم قام متوترا ليكشف عن ظهره الذي بدت فعلا عليه آثار سياط على شكل خطوط وردية من قروح ملتئمة قديمة. وأردف: " ولم يكتف بهذا بل ضرب على رجلي بعمود فهشمها."
ثم جاء مسك الختام الروتيني: " أتوسل اليكم، انقلوني إلى أي مكان لا يسكن فيه عراقي."
وآخر ذكر في شكواه إنه محتار اي الملابس يرتدي؟ اي لون؟ كل لون دال على حزب وانا مستقل. وكأن الكامب صار عراقا مصغرا!
لبست اخضر قالوا من جماعة كذا...
اصفر من حزب كذا. اسود خطر انهم....احمر خطر...انهم زالوا بزوال غورباتشوف.
كل الألوان محجوزة. و اخيرا اخترت الأبيض . ففاجأني أحدهم منبريا لي من ركن مظلم وقال لي : " حسنا ما فعلت واخترت الابيض فاللون الإسلامي أفضل لك.!!"
يا رب صبرك! ما لي وما للإسلام. أنا مسيحي!!
وهناك وكالعادة عند الأجانب شكا حاله وتقدم بنفس الطلب وبكى.
والأغرب من كل ما سبق إنه جاء أحدهم يوما. كان رجلا في نهاية الاربعينات من عمره. مدرس قص قصته أمام ذوي الشعر الأشقر والوجوه الحمر. وترجمت له وأنا ارتجف. كنت قد رأيته يمر امامي ويرفع يده ملوحا. كنت اسمع همسات من حوله خاصة من الشباب لم افهم معناها أو مغزاها بعدُ.
قال شاكيا: " إنهم يتندرون علي ويدعون بانني مجنون ويطلقون الفاظا غريبة متهامسين بينهم كلما مررت بهم."
كانت حكايته طويلة وغريبة . خلاصته: إنه في زمن الجيش الشعبي قدم تقريرا طبيا لمدير مدرسته يصرح بانه مجنون ، وقدمه للمدير. وهذا وبدلا من أن يكتم سره افشاه إلى هيئة التدريس. فذاع الخبر. ومنذ ذلك اليوم تصاعدت همسات الـ: ششش. وكان هذا هو سبب إلتجائي إليكم فاسعفوني.
وسألته الشقراء وقد تعاطفت معه كثرا: ماذا تريد؟
أجاب: إلى جهنم بشرط أن لا أرى عراقيا فيها.
ولم أمكث أنا كذلك طويلا: فقد جاء دوري للهروب. ففي يوم ما اعترض مقيم كمب رافقته يوما للترجمة سبيلي وحدثني بلهجة غريبة لها صدى ايام الرعب والرهبة التي هربت من جحيمها وكلمني بصرامة الآمر: " يبدو لي إنك منحاز إلى هذا الطرف على حساب الطرف الآخر، وتقوم بترجمة غير أمينة لخصومك، إانك غيرت كلماتي اثناء ترجمتك لي."
ماذا قلت؟ خصوم؟ !
هل جزاء الإحسان الا الإحسان؟!
أنج بجلدك.
هربت.
هرعت إلى لجنة الشؤون الاجتماعية الذين إندهشوا لعدم وجود أحد معي. قلت لهم وأنا ارتجف: " أنا، إنه أنا هذه المرة، اتوسل إليكم أن تنقلوني...."
وقاطعوني متممين موافين، والأبتسامة لا تفارق شفاههم الباهتة:" إلى مكان لا يوجد فيه عراقي."
مكان ليس فيه عراقي؟ أأنا قلت ذلك؟ وآأسفاه أوصل الأمر إلى هذا الحد؟!
لعنت الحظ الذي الجأني إلى ممارسة الترجمة .
فلهذا يهرب العراقي من العراقي في الخارج.
فالعراقي عندما يهرب من بلده لا يهرب من البلد فحسب بل من مواطنيه ممن الحقوا به الأذى يوما ما بشكل أو بآخر.
إنه لا يهرب من وطنه فحسب بل يهرب من خلفيته وماضيه ومن سجله الشخصي أيضا.
بعد كل ما عاناه من شقاء وويلات .نعم هذه هي الحقيقة المرّة.
ولذلك فحالما يطأ بقدميه أرض بلد غريب يرفع يديه ويتنفس الصعداء ثم يتأفف: أريد أن أعيش بقية عمري بسلام: اففففف.
صار الأمر وكأن العراقي يخاف من العراقي .
إنها قبل كل شئ مسألة فقدان ثقة.
ولا يصلح الحال إلا بعد أن تعود العلاقات إلى حالتها الطبيعية قبل أن تفسدها وتسممها الحروب والحصار والويلات. وإلا بعد ان تعود الثقة، نعم الثقة التامة كما كانت في سنوات الخمسينات والستينات ، أي قبل الثورة الفاشتية البعثية.
وعودة الثقة تبدأ من الداخل لا بالعكس. في داخل القطر، من المنبع ثم في المصب.
وحينها تعود الثقة والمحبة والعلاقات الطبيعية إلى نفوس الافراد في الخارج كذلك ، وبصورة أولى لأن الغربة مقيتة بل مميتة.
والحب دائما للحبيب الأول كما يقول أبو تمّام الطائي:
نقِّل فؤادك ما استطعت من الهوى ما الحبُّ الا للحبيب الأول
والآخر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وقومي وإن ضنّوا عليّ كرامُ
فرياد إبراهيم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السيد فرياد المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2012 / 8 / 28 - 21:31 )
تحيه وامتنان
اولا تذكرني بصديق اسمه فرياد خريج الجامعه التكنولوجيه وهو من اكراد خانقين
تحيه له ولك
ما قلته صحيح لاسباب منها يهرب العراقي من العراقيين لانه لا يثق بهم من خلال تداخل ما جرى ويهرب لانه يريد ان يتفرد وان لا ينفضح لان اهل العراق ادرى بمن كان و ما جرى ولان الاشكالات كانت عامه و متداخله سياسيا و دينيا
موضوع جميل و فيه صدق و الم وامنيات
دمتم بخبر و عافيه وعلى حب العراق نلتقي

اخر الافلام

.. شبكات| فيديو يظهر شجاعة مقاومين فلسطينيين في مواجهة جيش الاح


.. شبكات| مغاربة يدعون لمقاطعة مهرجان موازين بسبب غزة




.. عمليات البحث عن الرئيس الإيراني والوفد المرافق له


.. خبيرة بالشأن الإيراني: الدستور الإيراني وضع حلولا لاحتواء أي




.. كتائب القسام: استهداف قوات الاحتلال المتموضعة في محور -نتسار