الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار أملاه الحاضر 3

عبد المجيد حمدان

2012 / 9 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حوار أملاه الحاضر 3
منظومة القيم ...إلى أين ؟
فاجأت محدثي بالسؤال : لماذا في رأيك لا يخاف المسلم من الحرام ، ولا يتورع عن ارتكابه ؟ رد محدثي مستنفرا : من قال هذا ؟ من أين لك قول ما تقول ؟ فلا أحد في هذه الدنيا يخشى الله ، ويخاف الحرام ويتجنبه مثل المسلم . قلت : على مهلك يا صاحبي . لو أخذنا أهل هذه القرية ، أو تلك المجاورة ، أو أية قرية أخرى كمثال . أليس أهلها بالمسلمين ؟ ألا يصلون جميعا الأوقات الخمسة جماعة ؟ هل يتغيب أي منهم عن صلاة الجمعة وموعظتها وخطبتها ؟ ألا يصومون جميعا رمضان ويصلون التراويح ؟ ألا يمدون الموائد في رمضان لأولئك اللواتي يوصفن بالأرحام ؟ ألا يتسابقون على تأدية العمرة والحج ، وكثيرون منهم يؤديها أكثر من مرة ؟ قال : قبل أن تواصل ما الذي ترمي إليه وتقصده ؟ قلت : أعتقد أن كل هؤلاء ينطبق عليهم توصيف المسلم . قال : هذا صحيح وبعد . قلت : ويمكن اعتبارهم عينة عشوائية للبلد . يقدم حالهم صورة ، أو نموذجا للحال العام ، ليس في فلسطين وحدها ، وإنما في الإقليم كله . قال : أوافق على هذا أيضا ، وأعاود السؤال : وماذا بعد ؟ قلت : هؤلاء كما سألت في البداية ، استنادا لما أرى ، أسمع ، وألمس ، لا يخافون الحرام . وبالعكس يملكون جرأة ، تحتاج إلى تفسير ، على ارتكابه . صاح محدثي : ها قد عدنا إلى إلقاء التهم بغير دليل ، وإلى قذف المسلمين بما ليس فيهم . والواضح أن الإسلام نفسه ، عبر المسلمين ، تشويهه وزعزعة إيمان المؤمنين بهذه الرسالة العظيمة ، هو المقصود من إلقاء هكذا تهم ، وبهذا الشكل الجزافي . قلت : على رسلك ، كما يقول متقعرو اللغة ، يا صديقي . دعنا ننحي الانفعال جانبا ، ولا ننساق وراء غريزة الغضب ، ونناقش ما تقول أنها تهم ينقصها الدليل بهدوء ، علنا نتمكن من تشخيص حالة ، أنا أزعم أنها عامة ، ومن ثم نفتش عن المسببات ، فلربما نتوصل إلى بعض الحلول . وأضفت : أسألك يا صديقي : أليس الكذب والنفاق والغش والبغضاء والحسد والتزوير والمحسوبية وشهادة الزور والنميمة والسرقة وأكل المال الحرام ، والتزوير في المستندات وفي أي شيء ، والتدليس والتحرش الجنسي والاعتداء على الغير ، أشخاص أو ممتلكات ...قاطعني قائلا : مالك تمضي في هذا التعداد ؟ أليس ماذا ؟ قلت : أليس كل ذلك يقع في أبواب الحرام ؟ ومنه ما يقع تحت باب الحرام المغلظ ، أو الكبائر كما نصنفها ؟ قال : ذلك صحيح . وماذا بعد ؟ قلت : أليس فعل الناس لها بات أمرا عاديا ، وكأنه جزء من سلوكهم وتصرفاتهم التي لا يخشون أية عواقب لها ، لا دنيوية ولا أخروية ؟ قال : لا أوافقك فيما تدعي وتزعم . وعلى فرض أن ذلك يحدث ، ما شأنه بالإسلام وتعاليمه السمحة ، ومنظومة قيمه التي لا تضاهيها منظومة أخرى ، سواء أكانت سماوية أو وضعية؟. قلت : ها قد وصلنا يا صديقي إلى بيت القصيد . ودعني أسألك ، وأرجو أن نلتزم معا ، في إجاباتنا خدمة الصالح العام . كم هي ، في تقديرك ، نسبة الذين لا يمارسون الكذب ، في العمل ، في المعاملات بأنواعها ، في العلاقات ...الخ ، من بين ناس العينة العشوائية التي ذكرناها ؟ بعد لحظة تفكير قال : قليلة . قلت : ومن واقع التجربة التي نعايشها ، كم هي نسبة الذين يرفضون الغش ، إن واتتهم الفرصة ، سواء فيما يبيعون ويشترون ، أو حتى فيما يطلب منهم من نصح أو مشورة ؟ بعد تفكير قال : القليل . قلت وفي تقديرك من جديد : كم هي نسبة الذين لا يقبلون على أنفسهم ولغيرهم ، النصب والاحتيال ، بما في ذلك أكل المال الحرام ، وبيع ما لا يملكون ، والاستيلاء على ما لا حق لهم فيه ، وفعل ما يلزم ذلك من تزوير ، والاستعداد لشهادة الزور ، بل وفعلها أيضا ؟. قال متبرما : كل ذلك قليل . قلت ملحا : كم هي النسبة في رأيك ؟ قال : عشرة في المائة ، ربما أكثر وربما أقل . قلت : وكما تعرف تنتشر في بلادنا أنواع جديدة من السرقات مثل سرقة المياه والكهرباء . في رأيك كم نسبة من يفعلون ذلك في قرانا ؟ قال : حسبما أعرف هناك قرى بكاملها تسرق الكهرباء والماء ، ونسبة كبيرة في أكثر القرى ، لنقل أربعين وربما خمسين بالمائة ، والأمر ذاته في المدن ، خصوصا أصحاب المصالح الكبيرة . قلت وكل الناس ، متدينين وغير متدينين ، يفعلونها في الأعراس تحت حجج وذرائع مختلفة . قال ذلك صحيح . قلت : وهناك من يتبرع من الشيوخ بإفتاء جواز هذه السرقات . قال وذلك صحيح أيضا . قلت : إذن سأختم أسئلتي بهذا السؤال : أنت ربما تقرأ ، وبالتأكيد تسمع ، عن حملات وزارة التموين المتكررة بحثا عن المواد التموينية الفاسدة . وتسمع ولا شك عن مصادرة ، وحرق ، عشرات الأطنان ، بين الفينة والأخرى ، من اللحوم والمعلبات والمواد الغذائية الفاسدة ، والتي أعيد تغليفها ، وتزوير تواريخ صلاحيتها . والحال هذا يتكرر ويتكرر ، والسلطة ، رغم ما يقال عن ضبط واعتقال التجار المستوردين ، لا تقدم أحدا للمحاكمة . ويبدو للمواطن العادي أنه يعايش دائرة جهنمية لا سبيل أمامه إلى الخروج منها . وأضفت : تجار الأغذية المستوردون معروفون . وطرح أغذية فاسدة في السوق ، يمكن أن تلحق الضرر ، وقد تقتل أناسا ، وبينهم أطفال وعجزة ومرضى ، أكبر من أن يوصف بالجريمة ، أو بالكبيرة ، وهو ، حسب تصوري من كبريات الكبائر . وما لا يجوز غض النظر عنه هنا هو أولا : صفات هؤلاء التجار المستوردين . هم مسلمون ، حسب التوصيفات التي بدأنا بها . وبينهم من يؤدي العمرة سنويا ، ومن حج ، ويواصل الحج ، مرات عدة ، قد تزيد عن المرات العشرة . أي أن مثل هذا التاجر يتعدى صفة المسلم ليضيف إليها صفة المؤمن ، شديد الإيمان أيضا . وثانيا ، وهذا التاجر المسلم المؤمن يعرف ، وهو يحدد هدفه سلفا ، بجني هذا الربح الحرام ، وهو ربح ضخم بكل تأكيد ، نقل حال أمثاله نقلات كبرى ، يعرف أن فعله حرام في حرام . والسؤال هو : كيف ولماذا لا يخشى ارتكاب هذا الحرام ، وهو جريمة ، لا يوفيها الوصف بالكبرى حقها ؟ وكيف يبرر لنفسه ارتكاب هذا الحرام ، وينام مطمئنا لا يخشى عقاب الدنيا أو عقاب الآخرة ؟ وكيف نفهم نحن ، وكيف يفهم هو ، هذا الاطمئنان الذي يغشى عقله وقلبه ، بأن مصيره الجنة لا ريب فيها ؟
منظومة القيم :
قال محدثي : حتى الآن لا أفهم إلى أين تحاول أن تقودني في حوارنا هذا . قلت : لنرجع قليلا إلى الوراء ، ولنحاول استرجاع وقائع أحد بنود الصراع ، الذي دار بين تيارات الإسلامي السياسي ، والتيارات التي وصفت بقوى الحداثة ، أو السعي للحاق بركب الحضارة . منظومة القيم والمثل والأخلاق والسلوك ، ظلت أحد الميادين الكبرى لهذا الصراع ، أو لنقل التنافس حسب رغبتك . وأذكرك أن المجتمعات البشرية ، بأديانها المتنوعة ، واختلاف درجات تطورها ، تتفق على الكثير من القيم ، التي تحاول تيارات الإسلام السياسي قصرها على الإسلام . فلا يوجد مجتمع في العالم ، صغر أو كبر ، يعتبر الكذب ، أو الغش ، أو النفاق ، أو الدجل ، أو الحسد ، أو التزوير ، أو شهادة الزور ، أو السرقة ....الخ فضيلة . ولا أحد في العالم يعتبر البخل مثلا فضيلة والكرم رذيلة . ومثلها كل نقائض الصفات السابقة . المهم أن تيارات الإسلام السياسي حاولت كل جهدها إحلال ما تصفه بالقيم الإسلامية محل ما تصفه بقيم الغرب المستوردة . واكتفت في البداية بمكاسب محدودة ، زادتها توسيعا وتعميقا مع الزمن . بداية نجحت في إدخال النصوص القرآنية في المناهج المدرسية . ثم ألحقت ذلك بما تصفه بنظام التربية الإسلامي على المدارس . واتسع هذا كثيرا فيما بعد . ومنذ بداية التسعينات تحقق لها ما يقرب من النصر الكامل في هذا الميدان . والمنابر التي تستخدمها لتثبيت وتعميق مشروعها التربوي هذا متنوعة ومتعددة جدا . فتحت يدها عشرات آلاف ، إن لم يكن اضعف أضعاف هذا الرقم ، المنابر في المساجد . ومنها يحذر على المسلم غير التمسك بفضيلة الاستماع ، والعمل بفضيلة القبول والطاعة . وهناك مئات الفضائيات ، والإذاعات والصحف ، ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية الأخرى . ومنذ سنوات بدأت الهيمنة على رياض الأطفال ، واستخدام فضائيات مخصصة وموجهة لتشكيل عقولهم ....الخ . هذا غير عشرات آلاف الدعاة والداعيات ، والوعاظ والواعظات . باختصار ، حجم الجهد المبذول في هذا الميدان هائل إلى حد يصعب تمثله أو تصوره . وبات واقعا الإقرار بانتصار هذا الجهد ، المتمثل في إزاحة ما يوصف بمنظومة الأخلاق والقيم المستوردة ، وحلول ما يعرف بمنظومة القيم الإسلامية مكانها . وما يلفت الانتباه ذلك الاطمئنان من الأئمة والدعاة والواعظين ، والقائمين على تيارات الإسلام ، بأن كل شيء قد غدا أفضل .
التربية الإسلامية وازدواجية المعايير :

قال محدثي : ولكن هذه هي الحقيقة . الرذيلة تراجعت . والفساد الذي غزانا من الغرب انكمش . وهو في طريقه للانحسار الكامل . والأسرة تعافت من حالة التفكك الذي أصابها ، وغدا حالها أفضل . نعم كل شيء غدا أفضل بكثير مما كان . قلت أنا أعرف قصدك من الحديث عن الرذيلة والفساد ، والذي سنخصص له جلسة حوار كاملة . وأضفت مشكلتكم أنكم تحكمون على الظاهر ، ولا تلتفتون إلى المستور ، المختفي تحت قشرة الظاهر . في الظاهر غدا الناس ، بأدائهم لطقوس العبادات أكثر تدينا ، والمفترض أنهم أشد تمسكا بفضائل الأخلاق . مثلا لا تلتفتون إلى السؤال ، الذي يتردد على الألسنة ، والقائل : لماذا ، وكيف نفسر أنه كلما زاد تدين الناس في الظاهر ، زاد فسادهم ؟ هذا السؤال ليس اتهاما للمتدينين ، بقدر ما يعكس حقيقة لا سبيل إلى المرور عنها ، أو السكوت عليها . ومضيت : أنتم كما أشرت تعنيكم المظاهر ، وترفضون مبدأ دراسة أي ظاهرة ، أو اللجوء للبحث والاستقصاء حولها ، أو حتى عمل استطلاع رأي ، للوقوف على الحقيقة . وبالطبع لا تؤمنون بالإحصائيات التي توضح حقيقة نمو ظاهرة أو اختفائها ، لا لشيء إلا لأنها ، في نظركم بدعة . هناك مثلا من جادلني أن المجتمعات الإسلامية محصنة ضد أمراض المجتمعات الغربية ، ومنها إدمان المخدرات والاتجار بها . والإصابات بمرض نقص المناعة ، الإيدز . ويتحدث مزهوا كيف أن هذه المصائب تأخذ بخناق المجتمع الإسرائيلي ، في حين أن المجتمع الفلسطيني ناجٍ منها ، بفضل حالة التدين التي يعيشها . وإن سألته عن الإحصائيات التي استند إليها ، يتذكر الجانب الخاص بإسرائيل منها ، ويقر بعدم توفر إحصائيات فلسطينية ، ليأخذها كدليل على خلو فلسطين من هذه الآفات ، رغم الحقيقة المرة التي نعيشها ، والتي تقول بعكس قوله .
قلت لمحدثي : والآن ، وبعد ما قطعنا هذا الشوط في حوارنا ، دعنا نعود إلى البداية . إلى السؤال : لماذا لا يخاف المسلم الحرام ، ولماذا لا يخشى ارتكابه ؟ قال : أنا مصر على ما قلته : هذا زعم غير صحيح ، إذ لا أحد في عالمنا هذا يخشى الله ، ويحفظ شرعه ، وبالتالي يجتنب ما حرم مثل المسلم . قلت : إذن يبدو أن هناك ضرورة لتذكيرك بإجاباتك على أسئلتي التي بدأنا بها هذا الحوار . أما أنا فسأجتهد لأجيبك على لماذا التي بدأت بها هذا السؤال .
أنتم يا سيدي تعتمدون الوعظ بديلا ليد العدالة وحكم القانون . لأن القانون في رأيكم مستورد ويخالف الشريعة . وأنتم لا تألون جهدا ، ولا تفوتون فرصة ، إلا وتستغلونها في وعظ الناس على التزام الفضيلة ، والتحلي بمكارم الأخلاق . ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو مكابر . لكنكم في مواعظكم لا ترون ما تنطوي عليه استشهاداتكم من ازدواجية للمعايير . لا ترون أنها تحمل الشيء ونقيضه في آن . لا ترون أنكم وأنتم تحببون الناس في المكارم ، تدفعونهم في ذات الوقت إلى المغارم . قفز صديقي محتجا : هذا كلام غير صحيح ومردود عليك . نحن نحبب الناس في مكارم الأخلاق ، نحضهم على الفضيلة ، ونبصرهم بألوان الرذيلة ، ونحصنهم ضد ارتكاب ما يغضب وجه الله . قلت : مرة أخرى على رسلك يا صديقي . سأكتفي بعرض أربعة أدلة للبرهنة على صحة قولي .
1. أنت تعرف ولا شك الآية { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، وكيف أن الدعاة والوعاظ حين يذكرونها ، يعقبونها بالحديث [ أتبع السيئة بالحسنة تمحها – تمحوها - ] . وأنا لا أظنك قبل الآن تخيلت أن لهذه الموعظة وجهين متناقضين . الوجه الأول حسن ، بل رائع ، إذ هو يدعو ، يحض جمهور المسلمين على فعل الخير . وكل عمل خير – الحسنة – تسقط عن الفاعل سيئة سبق وأن عملها . لكن ألا ترى يا صديقي أنه ما دام محو السيئة سهلا هكذا ، فإن هذه السهولة تسقط أي حاجز قائم في النفس يمنع ارتكابها ؟ ألا ترى أن هذه الموعظة كما تحمل الدعوة إلى الخير في أحد وجوهها ، تحمل دعوة أشد وأقوى لإسقاط الخوف من فعل السيئة . هذه الموعظة تقدم للسامع معادلة سهلة وبسيطة غاية البساطة . إعمل ما بدا لك من المعاصي ، ولا تخف ، ألحق بكل معصية تعملها حسنة . وإن كنت تملك المال فلا معصية مهما عظمت ، يستعصي عليك محوها . هذه موعظة لكسر حاجز الخوف من فعل أي محرم .
2. يروي الوعاظ وأئمة المساجد عن الرسول حديثا مفاده التالي : أن مجرما ارتكب أنواعا شتى من الجرائم بينها قتل 99 نفسا . هذا المجرم خطر له أن يتوب . توجه إلى عالم يسأله إن كان من الممكن قبول توبته . وقص على العالم سلسلة جرائمه ، ومن بينها ال 99 نفسا . أفتى العالم بانعدام أي إمكانية لقبول توبته ، فما كان منه إلا أن قتل العالم ، ليكمل على المائة . بعد فترة عنت على باله التوبة ، فتوجه إلى حكيم عالم يسأله ، وحكى له كيف قتل العالم الذي أفتى بعدم قبول توبته . أفتى هذا العالم الحكيم ، أو الحكيم العالم ، بقبول توبته ، فتاب ودخل الجنة . قلت لمحدثي : بداية أسألك هل هذا الحديث صحيح ؟ قال : أعتقد أنه غير صحيح . قلت إذن كيف تفسر إذاعته مرارا وتكرار من سماعات المساجد ، وكيف تفسر انتشاره كشريط ، يفرضه على سمعك سائقو حافلات النقل العام ، كلما أتعسك الحظ وصعدت إلى إحداها ؟ قال حقيقة لا أعرف . قلت ولكنك حين تسمعه تسكت ولا تعترض . قال : ذلك صحيح . قلت : دعنا الآن نترك تفنيده وإثبات أنه حديث غير صحيح ، ولنركز معا على جوانب الموعظة فيه . هذا الحديث يحبب الناس في التوبة ، وهذا وجهه الحسن ، لكنه في وجهه الثاني ينزع الخوف من قلوب المؤمنين إزاء الجرائم الكبيرة . فما على من يقترف الجريمة ، بل ومائة جريمة قتل ، إلا التوبة ، ليمحو كل ذلك ، وأكثر منه يضمن دخول الجنة . ألا يشكل مثل هذا الحديث المنسوب للنبي ، دعوة صريحة وفجة ، غاية في الفجاجة ، لعدم الخوف من الحرام ، ومن فعل هذا الحرام ؟ قال : في هذه معك حق . قلت إذن دعنا ننتقل إلى أخرى .
3. المثل الشعبي ، كما لا شك تعرف ، هو تكثيف وتكريس لخبرة أجيال من الناس ، في بضع كلمات . هناك مثل شعبي فلسطيني يصف جرأة الشخص على ارتكاب فعل السيئة قبل وبعد أدائه لفريضة الحج . يقول المثل عن الحاج " بيروح قدوم بيرجع منشار " . والقدوم والمنشار أداتان من أدوات النجارة ، الثانية أكثر فعالية في التقطيع من الأولى بما لا يقاس . والمثل واضح في معناه ، وهو أن أذى الشخص لمن حوله يكبر كثيرا بعد الحج عما كان قبله ، أو جرأته على فعل المعصية تزداد كثيرا بعد الحج عما كانت قبله . وأنا أسألك : لماذا يتمسك الناس بهذا المثل ؟ لماذا يزداد الشخص قدرة وجرأة على الأذى ، قي نظر من حوله ، بعد حمله للقب الحاج ؟ قال : في الحقيقة لا أدري ، وأنا أفترض أنه يعود من الحج أفضل بكثير مما كان عليه قبل ذلك . قلت : مرة أخرى أذكرك بأنه ربما لم يخطر في بالك التوقف ، ولو لدقيقة ، لفحص المواعظ التي تحض على أداء هذه الفريضة . في تحبيب المسلم لتحمل عناء هذه الفريضة ، يقولون له أن أداءها يسقط عنه كل ذنوبه قبلها . تسقط عنه هذه الذنوب على سفح جبل عرفات ، ويعود بعدها طاهرا من الذنوب كما ولدته أمه . أنتم بالطبع ترون هذا الجانب الرائع من هذه الموعظة ، وهو تحبيب الناس في أداء هذه الفريضة المقدسة . لكن هل توقفتم مرة للنظر إلى الجانب الآخر منها . جانب كسر حاجز الخوف من ارتكاب الذنب ، بل وغرس الجرأة على ارتكابه ، لأن الخلاص منه ، من كل الذنوب ، مهما كثرت ، تنوعت ، وعظمت ، سهل وبسيط : مجرد أداء فريضة الحج . وكأنكم تقولون للمسلم : افعل الأفاعيل ، ولا يهمك ، اذهب إلى الحج ، تغسلها كلها ، تسقطها كلها من على منحدرات جبل عرفات ، وتعود نظيفا ، جميلا وطاهرا كما ولدتك أمك . ثم ابدأ دورة ارتكاب الذنوب من جديد ، ثم قم بعملية غسلها مرة بعد أخرى . ترى هل فهمت الآن لماذا يواظب تجار المواد الغذائية الفاسدة ، ومثلهم تجار المخدرات ، التي يمكن أن تحصد الأرواح بلا حساب ، على أداء الفريضة كل سنة ؟
4. وأخيرا في الدعوة لتحجيب المرأة ، يكثر الدعاة من الحديث عن جسد المرأة العورة ، وعن الفتنة من كشف شعرها أو نحرها أو أي جزء آخر من جسدها . وفي تحريك وإلهاب غرائز الرجل . وفي الحديث هذا ينسون ، أو يتناسون أن أكثر أجزاء جسد المرأة المسلمة ، ولكن الأمة ، ملك اليمين ، العبدة ، لم تكن لا عورة ولا مثار فتنة . المهم أن الواعظ لا يرى من وعظه غير جانب الحض على الفضيلة ، والوصول إلى مجتمع نظيف ، يسد كل الطرق أمام الرذيلة . وأظنك أنت لا ترى غير هذا الجانب . قال محدثي : نعم صحيح ، فليس في هذه الموعظة غير هذا الجانب . قلت : هل تكرمت ونظرت إلى جانب الرجل ؟ هل فكرت فيما يمكن أن تفعله هذه الأقوال ، وانتفاخ عروق القائلين بها ، في شاب يمر بفترة المراهقة ، أو في شاب معافى وصحيح الجسم ، يشعر بعنفوان الشهوة ، ولا يجد سبيلا إلى زواج كريم ؟ يا سيدي ما تفعله هكذا مواعظ ، والتأكيد على فتنة جسد المرأة ، وصوتها ، ومشيتها ...الخ ، في مثل هذا الشاب ، هو إيقاظ غريزته ، وحتى تحويلها إلى وحش ، يفقد مع الوقت زمام السيطرة عليه ، فيغلبه محولا إياه من إنسان ، يملك غرائزه ويحكمها ، إلى بهيمة تملكه هذه الغرائز وتتحكم فيه . وإلا بمَ تفسر حالات التحرش والاغتصاب التي يصرخ الناس في كل أقطار العرب من تفاقمها ؟. وستقول لي ولكن الحل قائم وموجود ، وهو الذي يجنب الرجل البهيمة من السقوط في هاوية الزنا . وهذا الحل في لباس المرأة الشرعي والحجاب . وأقول لك : لكن اتضح أن إيقاظ غريزة الرجل وتحويلها إلى وحش لم يوقفها تحجيب المرأة . و جرى اقتراح حل النقاب . ثم كان أن بان فشل هذا الحل أيضا . وغدت الدعوة إلى حجز المرأة في البيت ، هي الحل . فلا حل لوقف وحش غريزة البهيمة الرجل إلا الفصل التام الكامل بين الجنسين . لكن الواقع المسكوت عنه يصرخ قائلا : لكن هذا الفصل التام والكامل ، بحبس المرأة في البيت ، بعد فشل حبسها في الحجاب ثم النقاب ، سيفاقم من جرائم سفاح الأقارب ، ومن جرائم الاغتصاب . ففي المناطق المكتظة كالمخيمات في فلسطين ، والأحياء الفقيرة والعشوائية في مصر ، ونظيراتها في باقي البلاد العربي ، يكون هذا الفصل المنشود من عاشر المستحيلات . لكن الحكمة على ألسنة الدعاة تقول : كل ما هو مستور مقبول .
أخيرا سأختم حوار هذه الحلقة بحادثة وقعت في قرية من قرانا ، تحولت روايتها إلى نكتة سوداء . تقول الحادثة أن شخصا من كثرة تدينه يطلق الناس عليه لقب الشيخ . هذا الشيخ ، كالكثيرين من أبناء قريته ، سرق الماء . كسر الأنبوبة قبل العداد ، ربطها بانبوب مطاطي وملأ بئر الجمع خاصته من هذا الماء المسروق ، الذي ظل هو وعائلته يستخدمونه في الوضوء والاغتسال ، والشرب واحتياجات المعاش الأخرى . المهم أن الرجل مات . ولغسل جثمانه أحضر أهله ماء من عند الجيران . لماذا ؟ لأنه لا يجوز شرعا غسل جثمان الميت بالماء الموجود في بئر الدار . وتناقل الناس هذه الحادثة بعض ، ثم مثل أي شيء آخر تناسوها ، بعد أن حل مكانها جديد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لم يمسسهم بشر ولم يكونوا بغايا
لا مبالي ( 2012 / 9 / 5 - 12:13 )
ا صديقي اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

ان مجتعاتنا تنخر فيها القيم السيئة،وتتراجع بشكل مضطرد بدل اللحوق في ركب التقدم والانسانية، ونتتنقل من هزيمة لاخرى،وهذا مرده للعجز الذي تقيع فيه الشعوب العربية، النابع من التمسك الاعمى في فرض نموذج حياة عاشته جماعة في منطقة صغيرة قيل اربعة عشر قرن على مجتمع يعيش الى جانب شعوب قطعت اشواطا في التقدم والعلم والتربية والفنون، بالاضافة الى فرض والتمسك باقوال عفا عليها الزمن واصبحت مصدر تخلف وتراجع
واول الكوارث هي - كنتم خير امة اخرجت للناس- بما تحمله من عنصرية واتكال وغرور وتحيز.
وثانيها ما يسمى باسماء الله الحسنى وما تحمله من معاني كارثية على المجتمعات الاسلامية
فالله الرازق وما ينتجه من كثرة الاولاد وبالتالي عدم التربية الصحيحة والتسول........
والله الحافظ وما بحمله من مصائب كحوادث الطرق والسقوط عن المباني وحوادث العمل
وكذلك المغني والغافر والحفيظ والمذل والمهين ، والماكر ، والذي هدم القرى على راس مافيها من اطفال ونساء بسبب عصبان شلة لاوامره لانهم طردوا ناقة او عقروها،


ووووو

اخر الافلام

.. حديث السوشال | فتوى فتح هاتف الميت تثير جدلاً بالكويت.. وحشر


.. حديث السوشال | فتوى تثير الجدل في الكويت حول استخدام إصبع أو




.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر