الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مثقفون أم عمال فكريون؟

عبد القادر ملوك

2012 / 9 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من هو المثقف و ما الفرق بينه و بين العامل الفكري؟ أليس المثقف بالتعريف هو من امتهن العمل الفكري و به ارتقى الى مصاف فئة تجاوزت مرتبة معرفة الكتابة و القراءة الى مستوى التنظير و التأليف ليتبوأ منزلة عقل الامة الذي يضطلع بتوجيهها الوجهة الصحيحة وتقويم اعوجاجها و تخطيط مساراتها و الذود عنها فكريا و تسفير تاريخها و ترميم ذاكرتها؟ ثم من هو المثقف على وجه التحديد هل هو العالم أم الفقيه أم الأديب أم الكاتب أم هو هؤلاء جميعا؟ و إذا كان الامر كذلك، أي إذا كان لفظ المثقف يشمل كل هؤلاء ألا نكون أمام تسمية جوفاء و بلا طائل مادات لا تعين و لا تحدد؟ ثم ما نوع العلاقة التي تجمع بين هذا المثقف و بين المجتمع؟ هل يعيش متغيراته و أحداثه و يواكبها و يتفاعل معها أم ينآى بنفسه عنه و عن أحداثه لكي يمارس التأمل و التفكير في سكينة و هدوء منزويا في برجه العاجي لا يبرحه الا إذا ألحت عليه مطالبه البيولوجية؟
صحيح أن المثقف، مهما كان مجال اشتغاله، حينما يُعمل التفكير فهو بالضرورة يفكر في شيء ما، بلغة هوسرل، و هذا الشيء المفكر فيه يكون ذا صلة بالمجتمع إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لذلك يظل تفكير المثقف، شاء ذلك أم أبى، يدور في فلك المجتمع الذي شكل منظومته الفكرية و إن تعداه نسبيا نحو المجتمع الاكبر (العالم بصفة عامة) في ظل ما باتت تتيحه وسائل الاتصال و التواصل الحديثة. مع ذلك يحق لنا ان نتساءل: هل يشفع لرجل الفكر ممارسة العمل الفكري التنظيري، أم هو مطالب بأجرأة فكره على أرض الواقع من خلال التفاعل مع قضاياه و المساهمة في صنع أحداثه بطريقة او بأخرى؟
ألسنا هنا بصدد تبني منظور أحادي للمثقف يختزله في ما كان يسميه المفكر الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي بالمثقف العضوي؟
يقول غرامشي في تعريفه للمثقف: "إنه إذا كان من الممكن الكلام عن المفكرين [أي المثقفين] فإنه لا يمكن الكلام عن غير المفكرين، لأن غير المفكرين ليسوا موجودين...إن كل إنسان... يقوم خارج نطاق مهنته بنوع من أنواع النشاط الفكري، أي أنه يكون فيلسوفا و فنانا و ذواقة يساهم في مفهوم معين للعالم و يتبع خطا واعيا للسلوك الاخلاقي، و بالتالي يساهم في دعم أو تطوير مفهوم معين للعالم" . بهذا المعنى الذي يعطيه غرامشي للمثقف أو للعامل الفكري، مادمنا لم نميز بعد بين الاثنين، لا نعثر على ميزة خاصة يمكن الركون اليها في تمييز المثقف عن الناس العاديين ما دام هؤلاء بدورهم، خارج نطاق عملهم، يعملون فكرهم في الحقول الاجتماعية المتعددة كالتفلسف، ممارسة الفن، الحكم الذوقي، الحكم الاخلاقي...الخ. فكيف يتأتى للمثقف التميز عن الاخرين إن لم يكن عن طريق إعمال الفكر؟
من المؤكد أن الطريقة التي يفكر بها المثقف ليست عينها الطريقة التي يفكر بها الناس الاخرون، و إلا كانت المعرفة العالمة بصفة عامة غير ذات جدوى، إلا ان الامر لا يقف عند حدود ما يمتلكه الفرد من معارف بل بالطريقة التي يوظف بها تلك المعارف، ثم بدرجة الانتفاع منها، إذ ان المعارف التي تظل حبيسة دفتي الكتب دون ان ينتفع بها، يصير وجودها كعدمه ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... او علم ينتفع به...). قد يبدو هذا الموقف أقرب الى الموقف الماركسي الغرامشي بالخصوص، لكن العودة بمفهوم المثقف الى جذوره الأولى يطلعنا على ان التصور الغرامشي برز لاحقا لحادثة تبلور المفهوم. لنحاول توضيح الصورة:
يعود المرحوم الجابري بلفظة المثقف الى الكلمة الفرنسية intellectuel و التي تحيل على الشخص الذي يمتهن العمل الفكري، معتبرا، بعد وقوفه عند الجذور الاشتقاقية للفظتين معا، أن دلالة لفظة المثقف كما تستعمل في الحقل المرجعي العربي الاسلامي، تختلف جملة و تفصيلا عن دلالتها الخاصة في مرجعيتها الاصلية أي المرجعية الفرنسية، لذلك نجده يربط تشكل مفهوم المثقف بحادثة عزا اليها سبب تبلور هذا اللفظ في البيئة الفرنسية:
لمقولة المثقفين intellectuels في فرنسا مرجعية تاريخية سياسية و فكرية ارتبطت بالخصوص بما اصطلح عليه "بيان المثقفين" manifeste des intellectuels الذي ارتبط بقضية الضابط الفرنسي من أصل يهودي ألفريد دريفوس الذي حكم عليه بباريس سنة 1894 بالنفي الى غويانا بتهمة التجسس لصالح ألمانيا. و بعدما تبين، بعد ذلك بسنتين، لبعض أصدقاء الضابط المنفي زيف الوثائق التي أدين بسببها، اتجهوا الى الرأي الفرنسي يستنفرونه و يستنهضونه للمطالبة بإعادة المحاكمة، و استطاعوا أن يجندوا شخصيات مرموقة من عالم الفكر و الادب كإميل زولا و أناتول فرانس و مرسيل بروست و غيرهم الذين عملوا على إصدار بيان شهير سمي بـ "بيان المثقفين" و كان ذلك في 14 يناير 1898 . و منذ هذه الحادثة رفع لفظ المثقف ليصبح علما على جماعة من الناس هم أولائك المفكرون و الادباء الذي أبوا الا أن يحتجوا ضد ما رأوا فيه مساسا بكرامة مواطن فرنسي و ظلما سافرا يعتبر السكوت عنه ضلوعا فيه. و هل يعقل، مثلا، ألا يرفع صاحب "البؤساء" عقيرته بالتنديد و الاحتجاج دون ان يكون مناقضا لذاته.
ان ما يستوقفنا عند هذه الحادثة ليس كشف سر التسمية و الذي سيذيع منذئذ، بل هو مضمون التسمية الذي يورده الجابري بالخط العريض قائلا: " [إن مقولة المثقفين] كمقولة عصرية تدل على المشتغلين بفكرهم – لا بأيديهم- في فرع من فروع المعرفة، و الذين يحملون آراء خاصة بهم حول الانسان و المجتمع، و يقفون موقف الاحتجاج و التنديد إزاء ما يتعرض له الافراد و الجماعات من ظلم و عسف من طرف السلطات، أيا كانت، سياسية او دينية."

لا نحتاج الى كبير تركيز لنستشف من هذا التعريف تلك الاضافة القيمة التي سيشهدها مفهوم المثقف في البيئة الفرنسية و من ثم العالمية منذ حادثة دريفوس، فلم يعد هذا المفهوم يحيل فقط على الشخص المشتغل بفكره تمييزا له عن الشخص الذي يشتغل بيده، و الذي يمتلك آراء حول الانسان و المجتمع بشكل عام، و هي العناصر التي يمكن ان تنطبق على العامل الفكري، اما المثقف فهو شخص يضيف الى هذه الخصائص خصائص أخرى تتمثل في الاحتجاج و التنديد و الوقوف في وجه كل أنواع العسف و الظلم. بمعنى آخر أن المثقف يتجاوز نخبوية العامل الفكري الذي يختار لنفسه، وفق مبدأ نخبوي، العزلة و الهامشية. يرسم علي حرب للمثقف الدور الذي ينبغي أن يلعبه إن هو أراد تجاوز وهم النخبة الذي يستحوذ على العامل الفكري، يقول: "(...) [ينبغي] على المثقف [العامل الفكري هنا] تغيير ذاته و مهمته، بعد كل هذا الهزال الوجودي و القصور المعرفي و السياسي، أي بعد الفشل في مهمة قود المجتمع أو البشر، نحو عالم أقل استلابا أو اكثر تقدما، سواء تعلق الامر بقول الحقيقة أو بممارسة الحرية أو بتحقيق العدالة. فالاجدى أن يعمل [العمال الفكريون] على التحرر من أوهامهم النخبوية، لاعادة صوغ المفاهيم المتعلقة بالتغيير الاجتماعي و العمل السياسي أو الانمائي."
بهكذا معنى يمكن ان نخلص، كإجابة عن الاسئلة التي طرحناها في مستهل هذه الورقة، الى ان هناك تباينا كبيرا بين العامل الفكري الذي ينشغل بقضايا الفكر و الثقافة و الذي يكسب لقمة عيشه بفكره لا بيده و بين المثقف في معناه القوي الذي يتحدد وضعه بطبيعة الدور الذي يقوم به داخل المجتمع " كمشرع و معترض و مبشر بمشروع" او في أضعف الحالات كرجل متيقض و صاح و متابع بعين العقل و النقد لكل ما يعرضه مسرح المجتمع. يقول بول باران في موقف يرفع اللبس نهائيا بين العامل الفكري و المثقف :" إني أقترح انه، عندما يتعلق الامر بموقف إزاء القضايا التي تطرحها الصيرورة التاريخية بأكملها، يجب أن نبحث عن الخط الفاصل بين العمال الفكريين و بين المثقفين" . فالقضايا التي يفرزها المجتمع و التي تهم الافراد أو الجماعات هي التي ينبغي ان تتخذ فيصلا بين عمال الفكر الذين لا ينخرطون في شؤون المجتمع و لا في أحداثه و بين المثقفين الذين يشكلون ضمير الامة.
فما أحوجنا في وقتنا الراهن الى مثقفين يصدحون بأفكارهم جهارا، متحلين بالشجاعة الفكرية و بروح البحث عن الحقيقة مهما كانت النتائج، و ما احوجنا كذلك الى انتقال عمالنا الفكريين الى مثقفين نحتمي بهم عند الشدائد و نستلهم ضمائرهم عندما لا تسعفنا ضمائرنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تتوسع في إفريقيا.. والسودان هدفها القادم.. لماذا؟ | #ا


.. الجزيرة ضيفة سكاي نيوز عربية | #غرفة_الأخبار




.. المطبات أمام ترامب تزيد.. فكيف سيتجاوزها نحو البيت الأبيض؟ |


.. حماس وإسرائيل تتمسكان بشروطهما.. فهل تتعثر مفاوضات القاهرة؟




.. نتنياهو: مراسلو الجزيرة أضروا بأمن إسرائيل | #غرفة_الأخبار