الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستشراق والاستعراب الروسي (1-6)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 9 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


روسيا "الغربية" وبوادر الدراسات الاستشراقية


لقد ظهر الاهتمام الروسي "بالشرق" من الناحية التاريخية والثقافية نتيجة إما لظهور الشرق كقوة متحدية أو معارضة للروس، وإما لتبلور "الأنا الغربية" الروسية ككيان حضاري يعي ذاته في مواجهة الشرق. وإذا كانت علاقة الغرب والشرق في جوهرها هي علاقة ثقافية لها مقدماتها وأصولها في الوحدة الثقافية للتنوع الإنساني، فان تمظهرها غاية في التباين. ولم تظهر هذه المعضلة بشكلها الروسي إلا في مرحلة متأخرة نسبيا من تطور الدولة الروسية، حيث كانت لروسيا صلة بالشرق. فالموقع الجغرافي للشعوب السلافية (والروس منهم) جعلهم بالضرورة في احتكاك وثيق بالشعوب التركية ومن خلالها بالشرق.
تكمن خصوصية الصيرورة الحضارية الروسية في تحول الدولة الروسية إلى قوة كبرى، بعد "إدغامها" الشرق في كيانها، وتحولها بين ليلة وضحاها من دويلات صغيرة لا قيمة لها إلى دولة عظمى قضت على السيطرة التترية واحتلت سيبريا. فقد أدى احتلالها قازان واستراخان ثم تصديها لإيران و آل عثمان إلى أن تبرز كقوة في مواجهة "الشرق الإسلامي".
و لكنها قبل أن تبلغ هذه الذروة كان لابد لها من أن تمرّ في معراج الحضارة، الذي ترافقه عادة صيرورة الأنا الثقافية الواعية. إن إحدى خصائص الوعي الروسي القومي والتاريخي تقوم في تجاوز نظرته إلى الحدود الجغرافية والعسكرية والسياسية إلى نظرة تعتبرها قضية هوية وثقافة. وليس مصادفة أن يظل السؤال عن هوية الأمة الروسية يقلق وعيها المعرفي والأخلاقي دائما. ولهذا كانت حلوله متباينة علي الدوام وفقا للمراحل التاريخية المختلفة.
فقد ظلت روسيا "شرقية" الطابع نسبيا، بمعني أنها لم تندمج عضويا بالثقافة الأوربية. حتى بعد اعتناقها الديانة النصرانية الأرثوذكسية في القرن العاشر. إذ لم يلعب هذا الاعتناق دورا جوهرياً أو كبيراً في تحديد الهوية الروسية. و السبب ههنا لا ينحصر في أن روسيا لم تكن محدودة المعالم، ضعيفة، بل وبل ويعود إلى مستواها المتخلف الذي كان في درجة من التطور لا يتعدَّى المستوى البربري. و بالتالي لم يكن اعتناق النصرانية نتاجاً للتطور الروحي والفكري، بقدر ما كان وليد ظروف سياسية. وأدى هذا الاعتناق في مجرى تعمق عناصره الفكرية والروحية إلى تجمّع صيغ إدراك العالم "الآخر" من خلال موشور التقاليد النصرانية البيزنطية. فقد شكلت التصورات والانطباعات البيزنطية والتاريخية المصدر الأساسي للمعارف الروسية آنذاك، التي لم تتعدَّ في اغلبها حدود التصورات الدينية المبسطة الدائرة حول المناطق المقدسة في فلسطين، وبالأخص القدس، إثناء الحديث عن الشرق الأوسط، الأمر الذي يتيح لنا تخمين مستوي " المعارف الشرقية " في تلك المرحلة. ولما لم تكن التجارة متطورة بعد، إذ أن طرقها ما بين السلافيين واليونان هي طرق التجارة العربية، ويظهر واضحا ما كان قي معارف الروس من نقص شديد إلا انهم إبَّان تطورهم اللاحق، أنشئوا طرقهم التجارية الخاصة، التي كان طريق خوارزم إحدى قنواتها الكبرى. فمن خلاله جرى توثيق الانطباعات الأولية عن الشرق.على أن التجارة لا تصنع علما. ولكنها تستطيع تمّهد بصورة أولية لإقامة صلات تستحث التطلع العلمي والمعرفي. وفي الإطار العام يمكن القول بأن المعرفة الروسية عن الشرق بقيت حتى القرن الثامن بسيطة للغاية. فمن بين اشهر المؤلفات الواسعة التداول آنذاك هما كتابان عن رحلتين،الأولى قام بها القس دانيال إلى القدس عام1104م والثاني حول رحلة دوبرينين إلى القسطنطينية عام 1204م. ولا تتضمن الأولى اكثر من انطباعات سائح ـ حاج، بينما تقتصر الثانية علي انطباعات رحالة أذهلته معالم الحضارة البيزنطية.
لكن ذلك لا يعني أن روسيا كانت متقوقعة على ذاتها. لا سيما وان موقعها الجغرافي بين "الغرب" و"الشرق" جعلها على الدوام محط أنظار وضغوط القوي المختلفة، وساهم في جعلها عرضة للتغلغل والاختلاط بالطرفين. فقد تعلم الروس الكثير من "الدروس الشرقية" مثل مركزية الدولة وجوهريتها بالنسبة للرقي الحضاري، الأمر الذي جعلها تبرز، بعد تذليل السيطرة التترية، كدولة كبرى في مواجهة "الشرق" و"الغرب". وقد أشار المستشرق الروسي الكبير فاسيلي غريغوريف في مقالة كتبها عام 1874 عن (السياسة الروسية في آسيا الوسطى) إلى أن روسيا ظلت شرقية تترية قرونا عديدة (باستثناء الديانة) وكانت قبلتها السراي وليس باريس مثلما كان مثالها عن الدولة المركزية هو مثال الشرق.
حددت هذه الأرضية التاريخية المهمات العملية لدراسة الشرق. ومن ثم أملت طابعها النفعي ـ العملي. وبذلك ارتبطت دراسة الشرق ومعرفة جوانبه المختلفة بمصلحة الدولة منذ البداية. غير أن المعارف الخاضعة لمصلحة الدولة عادة ما ترتبط بالجوانب العملية الظاهرية وبالأخص بمكوناتها المادية (العسكرية والاقتصادية). وهي عملية طبيعية في بداية الأمر. وقد أدى ذلك بالضرورة إلى ضيق تداول هذه المعلومات باعتبارها جزء من أسرار الدولة. أما تطور روسيا اللاحق وتحولها إلى معسكر المواجهة المباشرة للدولة العثمانية وإيران فقد جعل منها مركزاً جديداً للمواجهة الدينية (النصرانية ـ الإسلامية ). خصوصا بعد سقوط القسطنطينية بيد الأتراك. و ليس من قبيل الصدفة أن تأخذ في التبلور لاحقا فكرة ومبادئ نظرية مؤداها أ ن موسكو هي روما الثالثة. ولكن إذا كانت هذه القضية نتاجاً إلى حدٍ ما لتطور التقاليد السياسية والروحية للغرب النصراني، فان المواجهة الروسيةـ التركية والتوسع الروسي في الشرق الإسلامي قد أديا إلى تعميق الرؤية الثقافية الوحيدة الجانب للإسلام، مما أدى بالضرورة إلى دراسة الشرق بشكل عام والإسلامي بشكل خاص. ولم يخل هذا التوجه من التأثر بمفارقات العصر ذاته، أي من تناقض مقدماته النفسية والثقافية. فقد كان الشرق بالنسبة لروسيا، كما هو الحال بالنسبة للغرب الأوربي ككل، هو شرق العجائب والغرائب، شرق الحكمة والكنوز، مثلما كان في الوقت نفسه بؤرة القسوة والبربرية وكل الرذائل الممكنة، ولاسيما في حالته الإسلامية. ولم يكن ذلك معزولا عن حروب خاضتها الدولة الروسية طيلة قرنين ضد السلطنة العثمانية، من اجل تثبيت كيانها الإمبراطوري على حساب الشرق الإسلامي. وإذا كانت هذه العملية قد أعاقت سيطرة الروح الثقافي فإنها أدت إلى تعميق المساعي الإمبراطورية. إلا أنها أدت أيضاً، وان بصورة جزئية، إلى صنع المقدمات الأولية للتفاعل الحضاري، الذي شكلت الدراسات العمليةـ الأكاديمية الأولية (والبدائية لحد ما) براعمه الأولى.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن