الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يوجد لدينا مناهج لغة عربية؟

علي هصيص

2012 / 9 / 8
التربية والتعليم والبحث العلمي


(أهدي هذا المقال إلى المربيتين الفاضلتين نائلة زايد وسجود الأقطش)

في مناهج اللغة العربية لدينا نلاحظ ابتعادا بنسب متفاوتة عن روح اللغة العربية، وهذا نابع من صياغة أهداف هي أقرب إلى دروس أخرى منها إلى اللغة العربية، مما يجعل الطالب بعيدا عن الإحساس بجماليات اللغة المفقودة في هذه المناهج، ويخلق أيضا صعوبة في التعامل مع المنهاج من قبل الطالب ومن قبل أولياء الأمور على حد سواء. فمن المعايير التي من خلالها نصدر حكما على كتاب ما، أن ننظر في مدى انسجام المضمون مع عنوان الكتاب، فنرى إلى أي مدى حقق هذا المضمون الرسالة الأساسية التي يتغياها العنوان.
بين يدي الآن كتاب اسمه "اللغة العربية "، للصف الأول، الجزء الأول، أعيدت طباعته 2007 -2010 الأردن. الدرس الأول فيه هو "أسرتي"، وعبارات الدرس تقول :أنا رامي، أبي عامر، أمي ليلى، أختي غادة، أخي باسل. ثم ينتقل الدرس مباشرة إلى التدريبات، وكذلك في جميع الدروس ينتقل الطالب مباشرة من جمل الدرس إلى التدريبات بصورة رتيبة مملة.
أيضا بين يدي الآن كتاب التربية "الاجتماعية والوطنية" للصف الأول، الجزء الأول، أعيدت طباعته 2006-2010، وأول درس فيه أيضا عن الأسرة.
ترى ألهذا الحد نفترض الغباء في طالب الصف الأول لدينا حتى نضع له درس "الأسرة" في كتابين، ويدرس هذه المادة في مدة زمنية متقاربة جدا وبمضامين متشابهة، مع العلم بأنه درس الأسرة في المنهاج الرسمي للصف التمهيدي؟ ألا يعرف ابن السنوات الست أمه وأباه وأخته وأخاه؟ ناهيك عن الصور التراجيدية الموضوعة في هذا الدرس، الأم لها أربع أصابع في كل يد، ورامي له أربع أصابع في كل قدم، وغادة لها أربع أصابع في يدها اليسرى، والله أعلم كم إصبعا لها في اليد اليمنى لأنها جاءت مختبئة تحت قدم رامي، أما الأب فتظهر في يده اليسرى خمس أصابع، ولكن حجم يده اليسرى أكبر مرتين من حجم يده اليمنى. ما يهمنا في الأمر هو أننا عندما نقرأ هذا الدرس في كتاب "لغتنا العربية" ونقرأ ما بعده من دروس، فإننا لا نجد اللغة العربية حاضرة فيه، هناك حروف عربية وكلمات عربية، ولكن هل هناك خصوصية اللغة العربية ورونقها العجيب ومذاقها الرطيب؟
عندما نفتح كتاب الحساب نجد أرقاما وعمليات حسابية من أوله إلى آخره، فنقول إنه كتاب حافظ على خصوصيته بشكل تام بغض النظر عن طريقة تقديم المادة وما إلى ذلك، ولكنه يبقى كتابا في الحساب، ولكن أين خصوصية اللغة العربية إذا قدمت جمل الدرس بالطريقة نفسها المقدمة فيها جمل دروس الاجتماعيات أو العلوم أو حتى الرياضيات؟ نحن نقول لأبنائنا: العربية لغة الجمال، ولغة السحر والبيان، ولكننا عندما ندرسهم إياها فإننا ندرسهم الدرس الأول بطريقة الاجتماعيات، وعندما ندرسهم الدرس الثاني "عودة الخريف" الذي يقول: تظهر الغيوم، تهاجر الطيور، تسقط أوراق اللوز، تبقى أوراق الليمون.
فإننا نقدمه لهم كما نقدمه في درس العلوم، علما بأن درس الخريف والفصول الأربعة يدرسها الطالب في الجزء الثاني من الصف الأول، ولست هنا بصدد الحديث عن غياب التنسيق بين لجان التأليف في جميع الكتب، أو حتى في الكتاب الواحد.
لاحظوا أن جميع جمل الدرس "عودة الخريف" تبدأ بالفعل المضارع، فلا يوجد تنويع أسلوبي في الجمل، وهذا ما أشرت إليه في مقال سابق بعنوان "لماذا فشلنا في تدريس التعبير؟" ولو تتبع القارئ كتاب اللغة العربية المشار إليه أعلاه؛ لوجد أن معظم دروسه مكررة في مواد أخرى، فالدرس الثالث "مدرستي" موجود في كتاب التربية الاجتماعية، ودرس "قواعد السير" موجود في كتاب التربية المهنية، وهناك دروس يأخذها الطالب في صفوف متقدمة تكون مشتركة بين عدة مواد أيضا.
إن مهمة معلم اللغة العربية باتت تقتصر على تدريس كتاب يمكن أن أسميه "مجمع الكتب المدرسية"، فهو في موقف صفي يكون مدرسا للاجتماعيات، وفي موقف آخر يكون مدرسا للعلوم، وفي موقف ثالث يكون مدرسا للتربية المهنية، وفي رابع يكون مدرسا للتربية الإسلامية. وفي هذا الأمر إجحاف في حق اللغة نفسها، فهل يعقل أن تمر سنة دراسية كاملة لا يتعلم فيها الطالب جملة يشعر فيها بجمالية اللغة؟ أو جملة تلامس وجدانه فيحفظها ويرددها وتظل محفورة في ذاكرته؟
إن هذا هو مطلب اللغة العربية، بل قل هذا هو حالها وديدنها، إنها خصوصية اللغة واللغات كافة، ففي كل لغة جماليات صَبّها الكُـتّـابُ أصحابُ الذوق الرفيع في الأنشودة والشعر والأقصوصة والقصة والخاطرة والمقالة والرواية، وغير ذلك من الفنون التي تحنو عليها اللغة بما تجود به من روعة الكلمات، وتنوع الأساليب، وتآلف النظم. بمعنى آخر إن الجماليات اللغوية هي التي تحدد للغة هويتها وتظهر خصوصيتها. فإذا كانت الأرقام والعمليات الحسابية تحدد هوية الرياضيات، فإن الجمال اللغوي بمختلف أشكاله التواصلية هو الذي يحدد هوية اللغة العربية وكذلك باقي اللغات، إن الهدف السلوكي والهدف القيمي وغيرهما من أهداف، تأتي بعد الهدف الوجداني الذي أهملته مناهج اللغة العربية في أغلب أقطار الوطن العربي إن لم يكن فيها جميعا.
كثيرا ما كنت أقف حائرا أمام دروس لا أستطيع تدريسها لأنها ليست من العربية في شيء سوى أنها مطبوعة بحروفها، وهذا نجده في مختلف المستويات، ولا أريد أن آتي بأمثلة لصفوف عليا، فقد أعرج على مثل هذا في مقال قادم بعنوان "لماذا فشلنا في تدريس الشعر؟"
كم أشفق على أولياء الأمور الذين يكدون وهم يحنون الرؤوس حين يدرسون أبناءهم درس "وجبة الفطور" مثلا! وهو درس في الصفحة الرابعة عشرة من الجزء الأول من كتاب الصف الثاني، يبدأ الدرس بقوله: استيقظ أفراد الأسرة نشيطين (درس رياضة)، فتحت إيمان النافذة (بدأ درس العلوم)، وبعد جمل قليلة يقول الدرس: سمعت إيمان صوت والدتها تنادي (هنا درس اجتماعيات؛ لأن إيمان درست أفراد الأسرة في الصف التمهيدي وفي الصف الأول بكتابي العربي والمهني، فمن المؤكد أنها صارت تعرف والدتها بمجرد سماع صوتها)، وبعد نصائح طيبة في الصحة العامة يقول الدرس: سُرّ الأب بكلام ابنته... (طبعا هو دائما مسرور منها وفي كل المناهج وفي كل الدروس، ولا يمكن أن يغضب منها!)، والآن الجملة الأخيرة بعد سرور الأب، وهي الجملة الأخيرة في الدرس، يقول النص: سُرّ الأب بكلام ابنته، وقال: علينا أن نتناول وجبة الفطور بانتظام.
التعاليم التربوية تقول إن الجملة الأخيرة في كل درس من دروس اللغة العربية في الصفوف الثلاثة الأولى، يجب أن تحمل العبرة والخلاصة النهائية من الدرس كما في "وجبة الفطور". صدقوني إنها ليست تعاليمنا التربوية، وإنما هي من المستوردات التربوية من هنا وهناك، ونحن نطبقها ونقع عليها وقع الحافر على الحافر. وأنا لست ضد أن تكون هناك جملة العبرة والقيمة، ولكن ما هي اللغة التي نقدم بها هذه الجملة وغيرها من الجمل حتى نخرج من درس العلوم وغيره من الدروس ونعيش وطلابنا سويعاتٍ في مهرجان العربية الجميل البهيج؟ فما زال أولياء الأمور يحنون الظهور ويتعبون الأرواح وهم يدرسون أبناءهم هذا الدرس العلمي باللغة العلمية بالأسلوب العلمي وهم يظنون أنهم يدرسونهم لغتنا العربية!
كنا نسمع من آبائنا وأمهاتنا أناشيد درسوها وهم صغار، وكانوا يرددونها على مسامعنا دائما، ومنها قول الشاعر في القهوة:
أنا المحبوبة السـمرا // وأُجـلى بالفـناجينِ
وعود الهند لي عطر // وذكري شاع في الصينِ
أليس هذا وما ماثله أسهل على ألسنة طلابنا، وأرق على مسامعهم، وأندى على قلوبهم؟ بلى، إنه أسهل وأرق وأندى، ولكن ليس من المستغرب أن يخرج علينا واعظ تربوي ليقول لنا: علينا ألا نعلم أبناءنا شرب القهوة!
فماذا عساه يقول لو اقترحنا أن نضع في منهاج الصف الثامن مثلا قول الصاحب:
رَقّ الزجاجُ وراقتِ الخمرُ // فتشابها وتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قَـدَحٌ // وكأنما قـدَحٌ ولا خمرُ
من ذا الذي يقنع الواعظ التربوي بأن خمرة هذين البيتين هي خمرة اللغة اللذيذة الذوق، وخمرة التجلي في سكرة الإلهام، وخمرة الأصفياء الأنقياء لا خمرة الحانات والأشقياء؟! وقد يتذرع المسؤول إياه بصعوبة بعض الكلمات، حسنا، وهل يعرف تلميذ الصف الأول معنى كلمة "الصَّمد" حين نعلمه: "قل هو الله أحد"؟ بل هل يعرف المسؤول ذاته معنى هذه الكلمة؟ المسألة حين يتعلق الأمر باللغة العربية ليست مسألة معاني كلمات كما تملي علينا المناهج، ولا مسألة تعاليم سلوكية وإرشادات طبـية، المسألة بكل بساطة مسألة استشعار "Sensing" والاستشعار بات تقنية تدرس في مجال الهندسة المدنية، وتهدف عندهم إلى الإحساس بالأشياء عن بعد، أي دراسة المشروع ووضع تصور عنه وفق أسس علمية قبل البدء به وأثناءه، فإذا كانت الدراسات العلمية التطبيقية تأخذ بمبدأ أو بتقنية الاستشعار والإحساس المجرد بالأشياء، فما بالنا قد غيبنا لغة الإعجاز عن أعماق الشعور وعن تألق الوجدان؟ أما آن الأوان أن ندع درس العلوم لكتاب العلوم، ودرس الاجتماعيات لكتابه ومعلمه؟ فمعلم اللغة العربية غدا واعظا ومهنيا ومرشدا اجتماعيا ومساعدا في الصحة العامة، غيرَ قادر على استفزاز الحس الجمالي الميت سريريا في وجدان أطفالنا الذين ما زالوا يحنون الرؤوس مع آبائهم وأمهاتهم في درس "وجبة الفطور"!
ثمة فرق كبير بين تدريس اللغة العربية وتدريس محو الأمية، ولو جئنا بمنهاج من مناهج محو الأمية لما وجدنا ذلك الفرق الكبير بينه وبين مناهج تدريس اللغة العربية وخاصة في تدريباته! ولذلك لا أستغرب حين ألتقي بطالب دكتوراه في اللغة العربية لا يحفظ عشرين بيتا من الشعر العربي، أو أن نلتقي بطالب ماجستير في اللغة العربية يقرأ من الورقة التي كتبها قائلا: وقد حصلت عليها من القادمون...!
في هذه الأيام يقوم الدكتور عرسان الراميني أستاذ اللغة العربية في جامعة اليرموك بإعطائنا دورة مجانية تطوعية في فن الكتابة والتعبير, وأنا الذي أحسب نفسي كاتبا, أقتنع لأول مرة بأن الكتابة علم وليست موهبة فقط, ولكل مجال في الكتابة أصوله وقواعده الممنهجة, وهذا أمر لم يدخل جامعتنا العربية بعد. لفت انتباهي في كلام الدكتور الراميني جملة قال فيها: الجامعة مخطئة حين تقرر مادة "فن الكتابة والتعبير" على طلبة كلية الآداب فقط, يجب على جميع طلبة الجامعة أن يدرسوا هذه المادة لأن الجميع بحاجة إلى الكتابة.
ما أفهمه من كلام الراميني أن اللغة معين ينهل منه الجميع, وما أفهمه من مناهج اللغة العربية في أغلب نصوصها أنها أداة تنهل من جميع المواد الأخرى، لتفقد خصوصيتها وتضيع هويتها.
ذات يوم قال لي الدكتور مفضي أبو هولا المتخصص في تدريس الموهبة والإبداع إن التدريس هذه الأيام مقتل، وأنا أقول له إن مدرس اللغة العربية هذه الأيام يقتل مرتين لا مرة واحدة.

(ملاحظة: استعملت في هذا المقال وغيره من المقالات السابقة كلمة "منهاج" لتدل على "المقرر" علما بأن المنهاج أعم وأشمل من المقرر، فالمنهاج يشمل القوانين والفلسفات التربوية، والمصادر والوسائل والخطط والاستراتيجيات والمقررات والامتحانات وغيرها).










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - في صميم الموضوع
غزل ( 2012 / 9 / 12 - 19:26 )
المناهج الدراسية لم يحدث عليها التغير والتجديد تبعا للتطورات في المجتمع والاجيال الا القليل وبالمستوى نفسه ويجب ان يكون للمختصين والمعلمين دور فعال في بناء المناهج وامل ان يكون بناء المناهج الاردنية وفقا للادراة التشاركية وفقا للمناهج البازغة والمناهج المعتمدة على المكان
وهذا ما كان عنوان بحث لدكتور له رؤية مستقبلية مميزة في بناء المناهج وتطورها واتمنى ان ينشر هذا البحث ويطبق لتصبح المناهج الاردنية مطورة ومجددة لكل مرحلة من مراحل التعليم لان التعليم اصبح كسلعة مادية فقط تهتم ب الكم فقط. ,,,,,,,

اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو