الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستشراق والاستعراب الروسي (3-6)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 9 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


"الاطراف" و"المركز" في تقاليد الاستشراق والاستعراب

إذا كان القرن الثامن عشر بالنسبة لروسيا هو قرن العهد البطرسي، الذي أرسى أًسس الدولة العصرية وكيانها الإمبراطوري، فإن القرن التاسع عشر كان القرن الذي ابتدأه صعود الكسندر الأول (1801—1825)، أي قرن التحولات الثقافية والسياسية المضطرب وانعطافاتها الحادة، قرن التحولات التي أبدعت صورة روسيا الجذابة والمنفرة القوية والضعيفة، الغنية والفقيرة، الحرة والمقيدة بقيود القنانة . أي الصورة الشاملة لروسيا التي نعثر على ملامحها المميزة في أشعار شعرائها من درجافين إلى بوشكين، وإبداعات كتابها من دوستويفسكي حتى تولستوي، وفي إبداع نقادها ومفكريها من بيلنسكي حتى تشيرتشيفسكي، وفي انتفاضات فلاحيها وقوزاقها، في لوحات فنانيها وموسيقى مشاهيرها، أي تلك الحالة الثقافية، التي عمـقَت تقاليد الوعي النظري واستثارت حب المعرفة والنزعة العلمية. وإذا كان هذا القرن هو قرن التنوير الروسي أيضا، فأن مآثره لا تقتصر على مد جسور الصلات الوثيقة بالشرق، بل وتغلغل آدابه وقيمَه الثقافية في الكينونة الروسية ذاتها، وبالأخص في أقسام جامعاتها وأذهان مفكريها. فقد كانت هذه العملية النتاج الطبيعي لتطور الدولة الروسية القيصرية.
فقد رافق صعود الكسندر الأول إلى السلطة تحولات أولية تضمنت فيما تضمنته التوجه إلى إلغاء القنانة. وأخذت إصلاحات عديدة ترسي أسسها الأولية في مختلف ميادين الحياة. بينما جرى التخطيط نفسه لفتح ست جامعات في روسيا. وإذا كانت جامعة موسكو قد تأسست عام 1755م فأن الجامعات الأخرى تأسست على التوالي في تارتو (1802)، فيلنو (1803)، قازان (1804)، خاركوف (1805)، بطرسبورغ (1819). وبغض النظر على أن هذه الجامعات أدركت في توجهها العام ضرورة وجود أساتذة للغات الشرقية في كل قسم من أقسامها الأدبية، إلا أنها ظلت تفتقد إلي برامج محددة. بمعنى أنها لم ترس في البداية الأسس العلمية ـ الأكاديمية لتدريس مواد الاستشراق. لهذا كانت تفتح في بداية الأمر ثم تغلق نتيجة عدم توفر الكوادر وضعف الإقبال عليها. إلا أن هذا "التذبذب" سرعان ما تلاشى. فإذا كانت الجامعات الآنفة الذكر في تارتو (استونيا المعاصرة) وفيلنو (لتوانيا المعاصـرة) وكيف خاركوف واوديسا (اوكراينا المعاصرة) قد ساهمت في وضع اللبنات الأولى في صرح الاستشراق والاستعراب الروسي، إلا أن هذه المساهمات انحلّت في تركيبات وبنى الاستشراق اللاحقة في كل من جامعات ومعاهد المراكز الثقافية والسياسية الكبرى في موسكو وبطرسبرغ وقازان .
وبصفة عامة يمكن القول بان الاهتمام الرئيسي لأقسام اللغات الشرقية في "جامعات الأطراف" كان منصبا علي دراسة اللغات، بما في ذلك اللغة العربية. فقد درَس فيلهيلم غيتسل (ت ـ 1824) اللغات السامية والشعر العربي في قسم دراسة اللغات الشرقية في جامعة تارتو. وفي هذا الميدان والمكان عمل أيضا صموئيل غوتليب غينتسي (ت ـ 1829) تلميذ المستشرق الشهير سلفستر دي ساسي. وهذا ما ينطبق على جامعة فيلنوس. حقيقة أن هذه الجامعة لم تعش طويلاً (1803—1832)، بسبب الاضطرابات السياسية والقومية. إلا أنها استطاعت أن تخرَج علي أيدي أوائل المستشرقين والمستعربين كلاً من س.ف.جوكوفسكي (ت ـ 1834) وم.ببروتسكي (ت ـ 1848) وبعض التلاميذ الذين اشتهروا فيما بعد وأثروا تأثير عميقاً في الاستشراق و الاستعراب الروسيين، ولاسيما اوسيب سنكوفسكي (1800—1858)، واوسيب كافيليفسكي، وانطون اوسيبوفيتش موخلينسكي. أأما جامعة كييف التي تأسست في بداية أمرها على أساس الأكاديمية الروحية (أكاديمية علوم الدين) فإنها لم تحقق إنجازاً معيناً في هذا المجال، باستثناء استخدام المخطوطات القديمة التي بحوزتها لإصدار أربع مجلدات عن التاريخ القديم وذلك في أعوام (1845—1849). كما تعرضت الجامعة في بعض نشاطاتها إلى علاقة اُوكراينا بالشرق العربي.
كان نصيب جامعة كييف في مجال الدراسات الاستشراقية لا يستهان به. وان إسناد قسم اللغات الشرقية في جامعة خاركوف بعد إعادة فتحه عام 1829 إلى ب.أ.دورن، قد أدى إرساء الأسس المتينة لتطوره اللاحق. إلا أن هذه اللبنة الأولى سرعان ما تفتت بعد انتقال القسم المعني إلى بطرسبورغ. ولم يكن ذلك مجرد نتيجة الانتقال إلى العاصمة العلمية والثقافية لروسيا، بل ونتيجة لضعف الأرضية الثقافية والعلمية للاستشراق في الأطراف الروسية آنذاك. أضف إلى ذلك أن ب.أ.دورن وأغلب مستشرقي روسيا الأوائل ذوي الأصول الألمانية، كانوا ضعيفي المعرفة باللغة الروسية او يجهلونها جهلاً تاماً. الأمر الذي جعل محاضراتهم بالغة اللاتينية عن اللغة العربية واللغات الشرقية ثقيلة الواقع صعبة الفهم. كما أدى ذلك في حالات معينة إلى فراغ قاعات الدروس من المستمعين. إلا أن ب.أ. دورن أستطاع هنا للمرة الأولى، في مجرى تدريسه الذي استمر ست سنوات، أن يرسي تقاليد دراسة الكثير من اللغات الشرقية كالفارسية والحبشية (الامهرية). وبقدر ما ترافق خروج ب.أ.دورن من خاركوف مع انحلال اللبنات الأولى للاستشراق الروسي في هذه المنطقة، فان استيلاء الروس على اًوديسا واستردادها من السيطرة التركية (العثمانية) فتح ثغرة أولية كبرى لإيجاد منافذ الطرق المباشرة للاحتكاك بالشرق الإسلامي، والتركي منه على الأخص .
ففي اَوديسا تلاقت في آن واحد أمواج الشرق والغرب، الدبلوماسية والحرب، الاحتكاك الثقافي والمواجهة العنيدة. فهي في الوقت الذي شكلت فيه منفذاً للتوسع الروسي في الإمبراطورية العثمانية، شكلت أيضا البوابة المهمة للرحالة والسواح والمهاجرين من مختلف الطوائف والمذاهب والقوميات والأديان للزيارة والتجارة، للهرب والحرب. وليس مصادفة أن تفتتح في عام 1818 مدرسة الدوق ريشيله العليا التي ضمت بضعة أقسام احتل بينها "معهد التربية" مكانة خاصة تمثل كل ما سيساهم لاحقاً في إرساء الأسس العلمية لمستقبل الدراسات الشرقية. وقد تميز هذا المعهد (1837—1854) أساساً بمنحاه العلمي، إذ أعار جلّ اهتمامه لدراسة تاريخ الدول والشعوب الشرقية ودراسة تاريخ التجارة الشرقية. ومن الممكن حصر المأثرة التاريخية العلمية لهذا المعهد في مساهمته بتخريج أحد أبرز المستشرقين الروس الكبار في القرن التاسع عشر و هو ف.ف.غريغوريف(1816—1881). فهو أول من ساهم في وضع مناهج علم الاستشراق وتدريسها في هذا القسم. وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى البدايات الجدية التي أرساها رافالوفيتش(ت ـ 1886) في تدريس اللغة العربية. فقد كان طبيبا، اشترك ببعثة طبية ما بين أعوام (1845—1848) تنقلت بين تركيا ومصر وسوريا وفلسطين والجزائر وتونس لدراسة مرض الطاعون والكوليرا. ومنذ ذاك بدأ اهتمامه باللغة العربية. وكان الأثر العلمي والثقافي الكبير الذي تركه إلى جانب ملاحظاته وانطباعاته التي نشرها في مجلة وزارة التعليم الوطني عن البلدان العربية، هو طبعه لكتاب رحلته إلى مصر بعنوان (رحلة إلى صعيد مصر والمناطق الداخلية للدلتا)، حيث صدر في بطرسبورغ عام 1850. وقد أثار هذا الكتاب مديح الكثير من معاصريه ولاحقيه. كما حظي فيما بعد بإعجاب كل من بارتولد وكراتشكوفسكي .
ومن المجحف حصر تأثير "الأطراف الروسية" في تطوير الاستشراق والاستعراب في إطار "الانقطاعات" الفكرية والجزئية التي تميز بها مسار بحثه العلمي. وذلك لان الأطراف شكلت، كما هو الحال في كل عملية تطور اجتماعي احد المصادر الكبرى في رفد المركز بطاقات تتقصى الحقيقة ولا تعبأ بالشهرة. وبغض النظر عن كل البواعث القائمة وراء سلوك الباحثين والدارسين والمفكرين الذين انهمكوا في تشيد صرح الاستشراق والاستعراب الروسي، فمما لا شك فيه أن عملية استقطابهم وتجميع انجازاتهم العلمية لم يكن بعيدا او معزولا عن المراكز السياسية والثقافي الكبرى آنذاك، أي موسكو وبطرسبورغ وقازان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن