الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستشراق والاستعراب الروسي (4-6)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 9 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مدرسة موسكو وصيرورة المركز السياسي ـ الثقافي

لم يكن الاهتمام بالدراسات الشرقية والعربية ـ الإسلامية في جامعة موسكو ومعاهدها منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، معزولا عن تعاظم وفاعلية الدور السياسي لموسكو باعتبارها المركز السياسي للإمبراطورية الروسية الفتية. ومن هنا فان اهتمامها بالشرق والدراسات الشرقية إنما حددته في بادئ الأمر متطلبات السياسة والطموحات العسكرية كما هو الحال بالنسبة لكل "الإمبراطوريات" الأوربية صغيرها وكبيرها. فقد أسال الشرق لعاب الغرب في احدى مراحل تطورهما غير المتكافئ، فوجد الشرق نفسه أمام عاصفة هوجاء من مزاعم الحرية والتقدم أثارت فيما أثارته شهوة الانتقام والسيطرة جنباً إلى جنب مع ضرورة المعرفة وتطبيقها. وقد انطوت هذه الظاهرة على الوحدة الخفية للتناقض المميز للظواهر الثقافية والعلمية، أي كمون العناصر السلبية في ايجابياتها وإبداع العناصر الايجابية في سلبياتها.
فالاهتمام الجدي بالشرق لصالح متطلبات النهب الاقتصادي والسيطرة الثقافية استلزم في الوقت نفسه مهمة امتلاك المعارف العلمية. ومن هنا اصبح إتقان اللغات هو المقدمة التي لابد منها كوسيلة سلمية لقراءة الماضي والتعامل مع الأحياء. إلا أن الاهتمام بالشرق كان أيضا نتيجة طبيعية لاستمرار تعمق الثقافة والتحرر الاجتماعي والفكري الذي بشّر به صعود الكسندر الأول إلى سدة الحكم عام 1801، ومشاريعه وأحلامه الشابة. فبغض النظر عن أن جامعة موسكو تأسست عام 1755، إلا أن الدراسات الشرقية فيها لم تبدأ بصورة جدية إلا في بداية القرن التاسع عشر، وبالأخص على يد عَلَمِها الأكبر أ.ف.بولدريف (1780 — 1842). فقد أنهى أ.ف.بولدريف دراسته العليا في جامعة موسكو وحصل على الماجستير عام 1806. وبفعل تفوقه الواضح جرى ترشيحه للدراسة في ألمانيا، ثم تتلمذ بعدئذ على المستشرق الشهير سلفستر دي ساسي (فرنسا). وحال رجوعه شرع بتدريس اللغات العربية والفارسية والعبرية.أما كتبه التعليمية لتدريس اللغة العربية ( وهو أول من وضع كتاب تدريس اللغة العربية في جامعة موسكو) فقد ظلت محتفظة بقيمتها العلمية والتدريسية على امتداد القرن التاسع عشر. وقد تولى أ.ف.بولدريف أول الأمر كرسي اللغات الشرقية، ثم رئاسة كلية الآداب (عام 1832) ثم عمادة جامعة موسكو (عام 1833) الأمر الذي يعكس الإمكانية الواقعية التي كان يتمتع بها هذا الرجل بوصفه رائد الاستشراق الموسكوفي الأول، ويعكس بالتالي الآفاق الواسعة لإمكانيات تطوير الدراسات الاستشراقية والاستعراب.
غير أن روسيا بنظامها القيصري، عادة ما كانت تقلب "المسار التاريخي" مع كل نزوة فردية تبدر عن قياصرتها الجدد، مما كان يحمل في ثناياه نموذج الوحدة المحيرة للصعود والهبوط، والحرية والقمع، والانفتاح والانغلاق، والانطلاقات والمصادرات. وبقدر ما ينطبق ذلك على الحالة السياسية والاقتصادية، ينطبق جزئياً على حالة العالم الثقافي الروحي. فإذا كان صعود الكسندر الأول قد ترافق مع انفتاح ثقافي وإصلاحات أولية، فان أفول نجوم الحرية بعد صعود نيكولاي الأول وسيادة الظلامية الدينية والاضطهاد الفكري والسياسي منذ ثلاثينيات القرن (التاسع عشر) قد سدد أيضاً للاستشراق والاستعراب ضربة قوية. والقضية هنا لا تكمن فقط في نصرانية نيكولاي الأول المتعصبة واهتماماته الغيبية، بل وفي تلك النزعات الفكرية المعارضة للقيصرية التي أطلق عنانها الروح المتحرر منذ بدايات القرن. فقد كان أ.ف.بولدريف رئيسا لجامعة موسكو وبالتالي عضوا في هيئة الرقابة على المطبوعات.بينما استطاع الفيلسوف الروسي تشادايف أن ينشر في عام 1836 كتابه المعروف بـ (الرسائل الفلسفية)، الذي انتقد فيها الدولة القيصرية وسلطتها، متهما القيصر بالجنون مما أدى إلى اعتقال تشادايف وسجنه. وترافق ذلك أيضا باعتقال أ.ف.بولدريف نفسه وإيداعه السجن لمدة سنة. وترتب على ذلك فصله من منصبه ثم طرده وتجريده حتى من حق التقاعد. وإذا كانت تلك هي مرحلة الديسمبريين والهجوم الراديكالي والديمقراطي ضد السلطة القيصرية، فأنها كانت أيضا مرحلة القمع الشديد. وحالما سقط ضحيتها الأولى في مجال الاستشراق أ.ف.بولدريف، أثارت تلك المرحلة مخاوف لدى كل من كان يرغب في مجرد ذكر اسمه، ناهيك عن مواصلة إبداعاته او حتى احتلال مكانه في قسم اللغات الشرقية وآدابها. لقد اصبح هذا القسم واهتمامه مثار مخاوف السلطة والجمهور. وبذلك يكون قد أطبق الخناق على كل ما كان يبدو في بدايته مثار شهية بالنسبة للسلطة والمثقفين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى إبعاد "شبح" الاستشراق عن جامعة موسكو وتحوله بالتالي إلى جزء من الاهتمامات الشخصية.
إلا أن ذلك لم يعن اضمحلال اثر جامعة موسكو، ومن ثم تقاليدها العلمية والأكاديمية الناشئة في الوسط العلمي والثقافي. وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبه معهد لازاريف للدراسات الشرقية. فقد انتقل إليه في أعقاب طرد أ.ف. بولدريف من الجامعة كل من أستاذ اللغة العربية نيكولاي كونوبلوف (ت ـ 1855)، وبافل بيتروف (ت ـ 1875)، الذي كان يعد من اشهر مدرسيّ اللغة العربية والفارسية. وقد كان صديقاً للناقد الروسي الكبير بيلينسكي. وخلفّ إلى جانب ذلك جملة من التلاميذ، لعل من أكثرهم شهرة ن.ى. كورش، وف.ف.ميلر.
لقد أنشأ معهد لازاريف عام 1815 بمساعدة أموال إحدى العائلات الأرمنية الغنية (عائلة لازاريف) القاطنة في موسكو، كمدرسة للطلبة الأرمن. ومنذ البداية جرى تدريس اللغة العربية والفارسية والتركية كمواد إلزامية. وعندما جرى الاعتراف به عام 1842 بصفة معهد اخذ يتغير اتجاهها وظيفته وبالتالي موقعه في عالم الاستشراق والاستعراب الروسي. حيث بدأ الاعتراف بحصول خريجيه على نفس حقوق خريجي الأقسام الشرقية في بطرسبورغ وغيرها من مراكز اللغات الشرقية وآدابها. وفي عام 1871 جرى تجديد وتحديث هذا المعهد فافتتحت فيه عشرة صفوف (ابتدائية ومتوسطة وعليا)، تحولت الأخيرة (ثلاثة صفوف) إلى قاعات مفتوحة للطلاب الراغبين في دراسة اللغات الشرقية. وقد تخرّج من بين جدران هذا المعهد الكثير من الشخصيات اللامعة في الاستشراق الروسي مثل ف.ف.ميلر (1848—1913)، الذي اصبح مديرا للمعهد عام1897، وا.ي.كريمسكي (1871—1941)، وف.أ.غوردليفسكي (1876—1956)، وف.ت.مينورسكي (1877—1966) وأ.أ.سيميونف (1873—1959) وبارانوف (مؤلف القاموس العربي ـ الروسي ومترجم كتابات الجاحظ) وكثير غيرهم. إضافة إلى ذلك تخرّج من هذا المعهد كوكبة من مبدعي الثقافة الروسية مثل الأب الروحي للمسرح الروسي ك.س.ستانيسلافسكي، وأ.ن.سيميونف (الذي أرسى أساس مسرح فاختانكوفا الشهير).
وبهذا اصبح معهد لازاريف احد المراكز الحيوية للدراسات الاستشراقية والعربية والإسلامية في موسكو آنذاك. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن مأثرة هذا المعهد وأحد أسباب نجاحاته اللغوية في تحضير الطلبة تقوم في اعتماده على أساتذة يدرّسون لغاتهم الأم. ومن المناسب هنا الإشارة إلى الدور الذي لعبه مدرس اللغة العربية وآدابها العربي الدمشقي النصراني أ.ج.مرقص(1846—1911) الذي ترأس فيما بعد قسم الآداب العربية. فقد أنهى أ.ج.مرقص دراسته الاستشراقية في بطرسبورغ عام1869. والى جانب تدريس اللغة العربية وآدابها قام بترجمة الكثير من الكتب والرسائل والأشعار، مثل رحلة البطريق ماكاريوس الأنطاكي (في القرن السابع عشر إلى موسكو)، ورسائل الإمام علي بن أبي طالب (من نهج البلاغة) وكذلك معلقة امرئ القيس، إضافة إلى تأليفه الكثير من المقالات العلمية عن الأدب العربي المعاصر له. كما أنجز الكثير من المقالات التي تتحدث عن الشام ومناهضة السيطرة التركية على العالم العربي، أي كل تلك المقالات كانت تدعو إلى تحرر العرب من النير التركي العثماني.
واستطاع المعهد أن ينجز من خلال أساتذته الكبار الكثير من الأعمال التحضيرية الأولية في مجال إعداد الكوادر العلمية والمترجمين إضافة إلى اختيار المؤلفات الضرورية وتسليط الضوء عليها بالنسبة للباحثين المستشرقين والمستعمرين. وهنا تجدر الإشارة على سبيل المثال إلى قيام أ.ن.خولموغوروف (المتخصص بالأدب الفارسي) بترجمة كتاب الفخري (تاريخ الفخري) وكتاب (نصيحة الملوك) لابن طقطقة، فضلاً عن كتابته لأبحاث عديدة حول الكتابة العربية وخطوطها. في حين لعب ،.ى.كورش دوراً كبير في وضع أسس الدراسات العلمية في روسيا وأوربا عن العروض العربية. فقد كان، بإجماع علماء تلك المرحلة، أفضل العارفين بالعروض العربية. وهو أول من درّسها في روسيا وأوربا. كما قام بدراسة مقارنة بين العروض العربية والفارسية. وفي الحصيلة العامة يمكن القول بان معهد لازاريف استطاع في غضون قرن من الزمن (حتى ثورة اكتوبر1917) أن يقوم بدور الفاعل المنشّط في تمتين صرح الاستشراق الروسي. وليس من قبيل الصدفة أن يتحول مبنى هذا المعهد وأساتذته ومكتبته في وقت لاحق إلى (معهد الاستشراق السوفيتي).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن