الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي في أقصى درجات الاحتمال

مهدي بندق

2012 / 9 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يتصور البعض أن العلم الحديث ليس له أن يبشر بنتائج تتجاوز فكر أرسطو – على المستوى الفلسفيّ – من حيث تأكيد المعلم الأول على رسوخ مبدأ السببية ، بما يعني أن كل أفعال البشر وغيرهم من المخلوقات خاضعة لجبرية مطلقة ، وبما يعني أيضاً قدم المادة واستغراقها، وآية ذلك - بحسب قول هذا البعض - أن البيولوجيا والفسيولوجيا المعاصرتين تعدان الوعي وظيفة من وظائف المخ ، وهو تصور يعد تحديثاً Modernizing لما بيّنه أبيقور من أن ثنائية المادة / الروح عليها لا يمكن إثباتها بالدليل "المادي " وهو قول صحيح وإن قاد إلى باطل ، من حيث أن الذين يطلبون دليلا ً ماديا ً على وجود شئ غير مادي إنما يمارسون نوعا ً من العنت والمصادرة على المطلوب .
ومع ذلك ، وبعيدا ً عن أصحاب الفلسفات المادية الخالية من الروح أمثال أرسطو وأبيقور وجون لوك الزاعمين أن ما قالوه هو الكلمة النهائية في الموضوع ؛ فإن العلم التجريبي لم يتوقف لحظة عن البحث في طبيعة الكون الذي نعيش فيه ، بما في ذلك هذا الكيان الباحث نفسه والمسمى " العقل " . فكانت أولى النتائج البحثية ذات الاعتبار الإقرار بأن الكون وإن صنع من خامة واحدة إلا أنه لا يمكن اختزاله إلى مادة Material خالصة أو حتى عقل Reason خالص . وتؤكد الفيزياء الحديثة هذا المعنى باعترافها بالطبيعة المزدوجة لظاهرة الضوء ، وحين يبرهن علم النيورولوجيا على أن انقداح الضوء على خلايانا العصبوية الحاملة لطول الموجة هو ما يترجم في المخ إلى صورة للشئ الموجود بالخارج ؛ فإنه – أعني علم النيورولوجي – ليعجز عن تفسير الأثر النفسي والوجداني ( بهجةً أو دهشةً أو حزنا ً أو ضيقا ً) لهذه المعالجة العصبوية المخية . فمن أين تأتي إذن هذه المشاعر ؟
هنا نرى أن جون سيريل الذي هو أكثر فلاسفة العلم انفتاحا ً- وإن لم يتخلص تماماً من نظرية الخامة الواحدة - يقف مبهوتاً أمام وجود الفجوةGap بين ما هو مادي صرف وما هو وجداني ، حتى أنه أعلن رفضه للقول بأن الشعور ليس أكثر من ظاهرة مصاحبة للمادة . وهكذا فإن سيريل الذي ألقي الضوء على المشكلة ولم يجد حلا ً نهائيا لها ، أبقى الباب مفتوحا ً على مصراعيه لمزيد من البحث والاستقصاء ، ليس أمام علماء البيولوجي والفسيولوجي والنيورولوجي فحسب ، بل ولفلاسفة الجمال وربما أيضا ً للقديسين والمتصوفة .
في هذا الاتجاه يدفع العالم الفيزيائي ورئيس " Queens Collage " بول كنج هورن مؤكداً أننا شخصيات " مستديمة " تملك نفوسا روحية هي التي تؤدي أدوار التواصل بيننا وبين الآخرين ، ومحال أن نكون مجرد وسائل ملائمة لإطلاق الأحاديث ( كأننا أجهزة حواسيب متطورة بُرمجت لتجيب على الأسئلة ) ولهذا فكنج هورن يلقي بالقفاز متحديا ً : فمن إذن المتحدث ؟!
وأنا أوافقه على ما طرحه بهذه الصيغة الاستنكارية ، فنحن لسنا مجرد أبواق ، بل نحن كائنات بشرية تملك الحرية في أن تتحدث أو تصمت . ولكنني أمضي لما هو أبعد من سؤاله ، الذي قصد به أن تكون " الأنا " إجابته الناجزة ، أعود لأسأل عمن يكون المتحدث الحقيقي ؟ إننا نرى على شاشة التليفزيون – بطريق البث المباشر – رئيس الدولة يوجه لنا خطاباً هاماً . ونحن نسلّم بأنه تحدث إلينا فعلا ً ، وفي الواقع لقد تحدثت إلينا صورته ، أما هو بذاته فخارج الشاشة . هكذا أنا حين أحدثك .. صورة تكلم صورة . وليس في الأمر خداع من أي نوع ، بل حقيقة وان كانت نسبية ، فأنا صورة حقيقية لأصل خارج المشهد الفعلي ، ولو كنت أنا أصلا لذاتي لكنت خالقا ً لنفسي ، وهذا باطل واضح .
بهذا الإدراك ومستعيرا ً ابن عربي أقول : إن المتحدث على الأصالة هو الخالق ، ونحن ( صور وجوده ) نتحدث بحرية هي ملك لنا باعتبارها منحة من خالق كلي القدرة [ ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين ] ولأن هذا الخالق حر حرية مطلقة فلقد صار منطقيا ً أن تكون لمخلوقاته (= صُوَرِه ) نفس القدرة على التحدث بحرية وإن كانت حرية نسبية جراء حلولها في أبدان ، هي بلا ريب محكومة بقانون السببية ، القانون الذي يطبق على كافة أجهزة البدن بدء من عضلة القلب وانتهاء بالمخ مرورا ً بالجهاز العصبي والعضلات والأعضاء الحيوية و....الخ
فماذا عن الجانب المقابل من الفجوة ؟ ماذا عن الوعي ؟ ذلك هو السر الذي يتأبى على البدن أن يفض مغاليقه ، وهو السر الذي تتعطل السببية إزاءه ، فهو مناط الحرية ، والسبيل الأوحد إلى المعرفة الحقيقية . أين مكانه ؟ إنه بلا مكان وأيضا ً بلا زمان ، فالكون الذي نعيش فيه ذو طبيعة مزدوجة : الأولي مكانية زمانية ، أما الثانية فتعلو على التحدد حيث عالم الأزل الذي لا يعرف الفناء . ولأن الطبيعتين مرتبطتان ارتباطا ً وثيقا ً فلقد نرى البدن يتوق الي الخلود مثل صاحبه الوعي ، وله الحق في ذلك ( بحكم الغيرة والجوار ) فيطمح الناس على البقاء بأجسامهم بعد الموت ! فهل ثمة إمكانية لتحقيق المراد؟ تبشر المسيحية بالقيامة في شخص يسوع الذي قام فعلا ً من الموت بعد أيام ثلاثة ، أما الإسلام فيشير إلى قيامة كل فرد بذاته في الصورة التي تناسبه والتي يستحقها بناء على ما قدمت يداه في الدنيا ، وما من شك في أن هذه الرؤية لتتسق مع متطلبات الوعي ، وبها تكتمل الدائرتان الوجودية والمعرفية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 202-Al-Baqarah


.. 204-Al-Baqarah




.. 206--Al-Baqarah


.. 210-Al-Baqarah




.. 212-Al-Baqarah