الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار أملاه الحاضر 4 العورات بين المجتمعي الإنساني والرباني

عبد المجيد حمدان

2012 / 9 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العورات ....بين المجتمعي الإنساني والرباني
قلت لمحدثي : كنا قد ختمنا حديثنا السابق بالإشارة إلى عورات النساء ، وما يترتب على كشفها من فتنة وإغراء فإغواء ...الخ . كما أشرنا إلى ما تفعله أحاديث الدعاة من إيقاظ وإلهاب لغرائز بعض الرجال ، ومن ثم تحويلهم إلى شيء أقرب إلى البهيمة منه إلى الإنسان . والآن آن لي أن أسألك : هل العورات ، الفتنة ، الإغراء ، الإغواء والسقوط في هاوية الفاحشة ، مفاهيم إنسانية ، أبدعها وطورها الوعي الإنساني المجتمعي ، أم هي مفاهيم ربانية ، قررها الله للإنسان ، منذ خلق آدم ، وبالتالي ستبقى ثابتة إلى الأبد ؟ وسؤال آخر يستتبع الأول بالضرورة : هل الأحكام ، بما في ذلك الحدود ، المترتبة على تلك المفاهيم ، هي إنتاج بشري ، ثمرة الوعي الجمعي ، استهدف تنظيم المجتمعات البشرية ، كما عبرت عنه العادات والتقاليد والأعراف ، الملائمة لكل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية ، أم أحكام ربانية ، استهدفت تنظيم الحياة البشرية ، ثابتة الصلاحية ، منذ بدء الخليقة ، وحتى يوم القيامة ؟
قال محدثي : لا شك أن مفهوم العورات ، وما ترتب على كشفها ، مفهوم رباني ، ابتدأ مع خلق الإنسان ، وسيرافقه إلى نهاية الزمان . ودليلنا ذكر العورات ، والتعليمات بسترها في العديد من آيات القران ، تسندها سلسلة طويلة من الأحاديث النبوية الشريفة . والأمر ذاته مع الأحكام ، ونصوصها في القرآن الكريم والسنة النبوية . وأنت ولا شك تعرف أن القرآن الكريم مسطور في اللوح المحفوظ منذ الأزل ، وسيبقى كذلك إلى الأبد . وإذن لا مجال للظن بأن هذه المفاهيم ، فالأحكام ، هي إنتاج بشري ، أبدعه وطوره الوعي الجمعي ، مسايرا لتطور ورقي وتقدم المجتمعات الإنسانية ، وحاجاتها لتنظيم نفسها ، كما أشرت في سؤالك .
قلت : هل ترتكز في حكمك هذا على قراءات مترابطة واعية للنصوص القرآنية ، أم إلى تلك القراءات ، والتفاسير ، ومن ثم استنباط الأحكام ، التي تعمد إلى النظر في جزء من الآية ، باعتبارها عالما مستقلا عن الأجزاء الأخرى ؟ قال : بالطبع أعتمد ، كما يعتمد الفقهاء والأئمة ، وكل متحدث في الدين ، إلى القراءات المترابطة والواعية في النصوص ، ولا شيء غير ذلك . قلت : وماذا عن ذات النصوص في الديانات السماوية الأخرى ؟ قال : مع أنني غير مطلع على ما ورد بهذا الخصوص ، في الديانتين الأخريين ، إلا أنني لا أظن أن هناك تعارضا ، بل أنا مقتنع أن هناك توافقا تاما ، حول ما نعرض إليه من مفاهيم وأحكام ، فيها جميعا .
حواء وآدم والجنة :
قلت : إذن دعنا نحاول أن نقرأ النصوص معا ، قراءة مترابطة ، علنا نتوصل إلى جواب على السؤال الذي بدأنا به حوارنا الآن . وأظنك تتفق معي في اختيار قصة خروج أبوينا ، آدم وحواء من الجنة ، بداية لهذه القراءة . قال : نعم هذا صحيح . قلت حين نراجع آيات الخروج من الجنة ، في سور البقرة والأعراف وطه ، لا بد أن يسترعي انتباهنا 1) أن آدم وحواء عاشا تلك الحقبة التي عاشاها في الجنة عراة تماما . لكنهما رغم عريهما ، ورغم أن الواحد منهما كان يرى عضو الآخر ، لم يعيا حقيقة عريهما ، ومن ثم لم يعرفا الشعور بالخجل منه . 2 ) حينما خالفا أمر الله ، وارتكبا المعصية ، بالأكل من الشجرة المحرمة ، وهي شجرة المعرفة ، وليس التفاحة أو العنبة أو أي شجرة أو نبتة مثمرة أخرى ، رأيا عضويهما لأول مرة . 3 ) ولأول مرة وعيا أن هذين العضوين " سوءة "، وأنه يتوجب سترهما عن بعضهما أولا ، وعن غيرهما من المخلوقات التي يعيشان بينها ثانيا ، والأهم عن الله خالقهما . 4 ) ولأول مرة أحسا بالخجل من هذا العري . الخجل من انكشاف عضويهما أمام الله . ولذلك بادرا هما ، دون أن يدلهما الله ، على خصف ورق الشجر ، وربطه معا ، وصنعا منه سائرا لعضويهما . 5 ) ومع ذلك ، وكما تقول التوراة تصريحا ، ما يقوله القرآن تلميحا ، لازمهما الخجل من أن يراهما الله على هذه الصورة . ولذلك وحين أحسا بأن الله يتجول في الجوار اختبآ خلف أكمة – الأدبيات الإسلامية تقول أنهما هربا من وجه الله ، لكن شجرة أمسكت بهما ، وأوقفت هربهما - . 6 ) بحث الله عنهما ولما لم يجدهما ناداهما ، فأعلماه أنهما تواريا خجلا من أن يرى عريهما . 7 ) سألهما الله كيف عرفا أنهما عريانان . اعترفا ، بعد أن كان قد عرف ، أنهما ارتكبا معصية عدم إطاعته ، وأكلا من الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها ، وهي شجرة المعرفة . 8 ) طردهما من الجنة إلى الأرض . لكنه بعد ذلك ، وكما تقول الآيتان 26 و27 من سورة الأعراف ، أقر ما كانا قد بدآ به من ستر عضويهما – عوراتهما – بأن أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهما . ثم تطور هذا الساتر إلى لباس من ريش ، يصنعه الإنسان بنفسه ، كما خصف ورق الشجر بنفسه ، وحيث يحتاج صنعه بالضرورة إلى مهارة ، يتوجب أن يكتسبها الإنسان ، خلال طريق تطوره الصاعد .
وأضفت لمحدثي ، وقد وافق على عرض الجزء الخاص بالعورة في قصة الخروج من الجنة ، في شكل النقاط السابقة ، قائلا : دعنا نحاول إمعان النظر في هذه النقاط مجددا . ولعلك توافقني الرأي في أن أكثر ما يلفت النظر فيها ، أن الله لم ير ، ولم يشر إلى ، أي جزء من جسد آدم أو من جسد حواء ، وبما في ذلك عضويهما ، كعورة ، يتوجب سترها عن الأنظار . ولم ير في كشف هذه الأجزاء أمامه ما يوجب الخجل ، سواء أكان هذا الخجل منه أو من بعضهما البعض ، وبديهي من خَلِفهما فيما بعد . ويلفت الانتباه أيضا أن وعي الإنسان – آدم وحواء هنا – هو من وصف العضوين بالعورة ، وهذا الوعي هو من بعث الخجل من رؤية الآخرين لهما ، وهو من فكر ثم ابتكر مسألة الستر ، بأن استخدم ما توفر له آنذاك ، وهو ورق الشجر ، في صنع هذا الساتر لتغطية العورة – عضوي التناسل – عن العيون الأخرى . والمسألة الجوهرية هنا أن الله أقر ما توصل إليه وعي الإنسان وصنعه ، أولا بتوصيف العضوين كعورة – سوءة - ، وثانيا بالذهاب إلى ابتكار ما يسترهما ، وثالثا بقبول ما توصل إليه وعي آدم من نوع اللباس ، ورق الشجر ، ثم لباس الريش . قال : محدثي : ولكنك نسيت لباس التقوى الذي تحدثت عنه الآية . قلت : إنما قفزت عنه لأنه مجازي ، اختلف الأئمة والمفسرون في تعريفه ، وبالتالي لن نتمكن أنا وأنت ، لا من تعريفه ، ولا من مساعدة القارئ على التعرف على حقيقته .
يوم الحشر :
قال محدثي : لا أتفق معك ، فالعورات تصنيف إلهي . وحتى لو أن آدم وحواء هم من بادروا إلى تحديدها ، فذلك لأن الله أوحى لهما بذلك . هو من وضع الفكرة في رأسيهما ، وهو من أرشدهما ، وحركهما إلى قطف ورق الشجر ، وصنع الساتر لعضويهما منه . ثم إن ذكر العورات في عديد من الآيات يؤكد أنها تصنيف إلهي كما ذكرت ، وليس وعي الإنسان ، الذي هو أيضا من عمل الله . قلت : إذن دعنا نستقرئ موضوعا آخر . موضوع البعث والحساب يوم الحشر . في هذا اليوم ، كما تعرف يخرج الناس من قبورهم ، ويتقدمون للحساب ، عراة كما ولدتهم أمهاتهم . ويفسر الأئمة حكمة العري هذه بأن الناس يكونون ، من هول يوم الحساب ، لاهين عن كل شيء ، بحيث لا يمكن لأي منهم أن ينظر إلى عورة الآخر . وطبعا في جو الرعب هذا لا مكان للشهوة ، ومن ثم للفتنة فالإغراء والإغواء . واسمح لي أن أسألك : ألا يراهم الله ، وهو يحاسبهم ، في عريهم هذا ؟ كيف يمكن فهم هذه المسألة في الوقت الذي تطالب المرأة ، شابة أو عجوزا طاعنة في السن ، أو بنتا لم تبلغ الحلم بعد ، أن تتقنع في الصلاة ، خشية أن ينظر الله منها جزءا ما من جسدها ، لتأتيه هكذا في الآخرة عريانة ملط ، كما نقول في العامية ؟ ثم هل سيكون كل الناس لاهين من فرط هول يوم الحساب ؟ أليس الرسل والأنبياء وأولياء الله الصالحين والقديسون أناسا ؟ هل سيكون الأنبياء والرسل ، الذين سيقفون متشفعين لأممهم ، عراة أيضا ؟ وألا يخجلون من النظر إلى عري أتباعهم ، وهم يحاولون التعرف عليهم ، ليتقدموا بالشفاعة لهم ؟ ثم ماذا عن الملائكة ، هل سيمنعهم هول يوم الحساب من النظر إلى الناس ورؤية عوراتهم ؟ ألا تقول كل أدبياتنا أن الملائكة يخجلون من النظر إلى عورات الناس ؟ وهؤلاء المطمئنون إلى أفعلهم في الدنيا ، وأن مصيرهم الجنة ، هل سيذهلهم هول الحشر عن رؤية أجسادهم وأجساد الآخرين ؟ وهل الذين سيساقون إلى الجنة ستتم كسوة عوراتهم قبل أو بعد الدخول إلى الجنة ، أم سيبقون عراة هناك ، كما كان حال آدم وحواء قبل طردهما من الجنة ؟
وبعد هذا السيل من الأسئلة الذي لا ينتهي ، دعني أنتقل إلى جانب آخر . تعلمنا الأدبيات الإسلامية ، أن سائر البشر ، يعني مليارات لا حصر لها ، ومن مختلف الأجناس ، سيواجهون النشر ثم الحشر ، فالحساب وهم عراة . والنص القرآني يؤكد لنا أن الله لن يعذب أمة لم يبعث فيها رسولا . وبتنا نعرف أن العديد من أمم الأرض لم تعرف الرسل ، وبالتالي فهو تحصيل حاصل أنها لن تتعرض للعذاب ، ومن باب أولى لن تعرف معنى الذهول الذي سيأخذ بالمرضعة ويلهيها عن رضيعها في ذلك اليوم . يعني هناك مليارات عديدة من البشر لن يذهلهم هول يوم الحساب عن رؤية عورات بعضهم البعض ، فكيف تفسر لي ذلك ؟ قال : في الحقيقة لم يخطر أي من هذه الأسئلة ببالي ، ولا جواب عندي عليها . لكن أعتقد أن الله سيذهب بشهوة الناس ، ومن ثم ستكون العورات بدون فتنة ، وستكون مشاهدتها بلا إثارة .
قلت : لكن ربما قرأت تصوير الإمام ابن تيمية لشهوة الناس في الجنة ؟ قال : أكيد فعلت . قلت : يقول ابن تيمية أن الله سيضاعف شهوة الرجل هناك أضعافا مضاعفة ، كي يتمكن من الاستمتاع بهذا الكم الكبير من الحوريات اللواتي سيحظى بهن في الجنة ، ولدرجة أن عضوه سيبقى في حالة انتصاب دائم . قال : هذا تفسير ابن تيمية ، وهو حر في تفسيره ، وأنا حر في قبوله أو عدم قبوله . قلت : أنا أيضا مثلك ، ولكن هل يذهب الله بالشهوة ساعة الحساب ، ويعيدها بعده أم ماذا ؟ وحتى لا نتوه في خضم هكذا أسئلة دعنا نعود إلى ما بدأنا به ، وهو مفهوم العورة .
عورات الإماء وعورات الحرات :
قال : قبل أن نعود أحب أن أؤكد على رفضي لهذا الأسلوب في الحوار ، وبما تضمن من طرح للأسئلة ، التي يبدو أن لا هدف منها سوى التشكيك في صحة ديننا الحنيف ، وسلامة أحكامه ، التي لا نجني من الشك فيها سوى ضياع أمة الإسلام . قلت : على رسلك يا صاحبي . أنا مجرد أحاول قراءة النص قراءة يحضر العقل فيها . وأنا مثلك أعرف أن الإيمان والعقل لا يجتمعان . القضايا الإيمانية لا تقبل الحوار العقلي . وكثيرون هم الأئمة الذين نهوا عن أي حوار عقلي ، لأنه بداية السير على طريق الكفر كما قالوا ، ناقضين الآيات العديدة التي تختمها هذه اللازمة :" أفلا تعقلون " ؟ . إذن دعنا ننتقل إلى موضوع آخر ، يتفق الأئمة والفقهاء على تجنبه دائما ، وكأنه ليس جزءا من الشريعة . موضوع طبيعة المجتمع الإسلامي وقت النزول ، وعل مدى القرون الطويلة بعد انتصار الدعوة . موضوع النساء المسلمات وذلك الانقسام بين الحرية والعبودية ، وما ترتب على هذا الانقسام ، من تصنيف للعورات والفتنة والإغراء والإغواء .
قال : لم يا صاحبي تحاول ، كما فعل المستشرقون ، تشويه فكرة العدالة والمساواة والحرية التي إنبنى عليها الشرع ، بالقول بمجتمع عبودي قسم الناس إلى أحرار وعبيد ؟ قلت : ليس هذا قولي أو قول المستشرقين . هو حقيقة أكد عليها النص في عشرات الآيات . كما عالجتها السنة في عشرات الأحاديث . وكرست لها كتب الفقه أبوابا كاملة . ومن ثم يكون تجاهلها محاولة للهرب مما يتصور الهارب أنه معيب ، وأن ذكره أو حتى تذكره مدعاة للخجل . رد محدثي مستفزا : ليس في ديننا ما نخجل منه ، بل كل ما فيه مصدر للفخر . قلت على رسلك مرة أخرى . إذن يا صديقي تعال لنتعامل مع الحقيقة . الإسلام ورث مجتمعا عبوديا . وكانت الأعراف والتقاليد قد سنت لطرفيه أحكاما وشرائع . الإسلام ، كما يتفق الأئمة والفقهاء ، حاول بأفعال فردية – فك الرقبة والعتق والمكاتبة ...الخ – الخلاص منه بخطوات تدريجية . لكن حروب الفتوحات عمقته أضعافا مضاعفة . وعليه بقي المجتمع الإسلامي ، حتى في عهد النبي ، الذي عكس بيته صورة واضحة ، منقسما إلى أحرار وعبيد . وفي العهود الإسلامية كلها ظلت النساء العبدات – الإماء ، ملك اليمين ، السراري ، المحظيات – يزدن عددا على الحرات . والمهم أن التشريع الخاص بكل طرف ظل قائما وفاعلا ، وفيه ما يستفز حتى العقل الخامل لطرح الأسئلة . قال : كيف ذلك ؟ وماذا تعني ؟ قلت نحن نتحدث هنا عن العورات . وأنت تعرف أن الشرع حدد عورة المرأة الحرة بكل جسمها ، ما عدا الوجه والكفين . والإسلام الجديد الذي يدعو لسيادة النقاب ، لم يكتف بأن جعل الوجه والكفين عورة ، بل ووصل إلى الصوت ، ليكون إخراس المرأة بعد تنقيبها ، هو الهدف والمرام . أما عورة الأمة المسلمة ، فهي ذات عورة الرجل ، أي ما بين السرة والركبتين . وعليه ، وفي كل العصور الإسلامية ، بما في ذلك أيام النبي ، ظلت المسلمة الأمة ممنوعة من ستر شعرها ، ونحرها . وظهور أجزاء أخرى كان محببا ، وليس فقط مقبولا . وفي جلسات التسرية ، وعن الأصحاب ، ظلت الإماء يظهرن ، ويخدمن الضيوف شبه عاريات . ولا أظنك إلا وتعرف حديث أنس عن إماء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اللواتي كن يخدمن مسامريه من الصحابة " وأثداؤهن تترجرج " . قال والحرج يمسك به : نعم ذلك صحيح . ولكن ماذا تقصد ؟
قلت : لا أظنك إلا وتعرف أن أنوثة المرأة لا يحددها وضعها الاجتماعي ، فقرها أو غناها ، حريتها أو عبوديتها . وأنت ولا شك تعرف أن إثارة شعر المرأة ، أو ساقيها ، أو نحرها ، أو استدارة كتفيها ، وما يشع من أعضائها هذا من فتنة ، لا علاقة له بوضعها الإجتماعي . والحرية أو العبودية ، لا تجعل من واحدة امرأة ، ومن أخرى سبت خضار . وعليه دعنا نفهم : كيف يستقيم أن يكون شعر الحرة ، كيفما يكون شكله ، عورة ، وشعر الأمة ليس بعورة ؟ كيف يكون أسفل ساق الحرة وظهر قدمها عورة ، وظهوره مدعاة للفتنة ، وكل ساقي الأمة ليس بعورة ، وانكشافهما لا يستدعي لا الإثارة ولا الفتنة ؟ ألا يدهشك هذا التقسيم في الشرع المنسوب إلى الله ؟ قال : يا أخي لماذا هذا النبش في الماضي ؟ لقد انقضى عهد الإماء وملك اليمين ، ومجتمعاتنا ليس فيها غير نساء حرات ، موقف الشرع من عوراتهن صحيح صحيح صحيح . قلت : لنعد إلى السؤال الذي بدأنا به حديثنا عن مفهوم العورات ، وما إذا كان نتاج الوعي المجتمعي الإنساني ، أم هو تنزيل إلهي . ألم يكن هذا التفصيل في العورات قائما قبل الإسلام ، وأن كل ما فعله النص أن صادق عليه ؟ غلى محدثي من الغيظ وقال : هذا كلام مردود عليك . قلت من البداية أن الإنسان لم يصل بفكره إلى شيء إلا وكان وحي الله قد سبقه وصبه صبا في وعيه . قلت : لا تغضب يا صديقي ، ودعنا ننتقل إلى نقطة أخرى قد تكون خاتمة حديثنا .
طواف العراة حول الكعبة :
تحدثنا أدبيات التراث أن أهل مكة استنوا لأنفسهم عرفا يخص طواف الحجيج حول الكعبة . استندوا في تشريع عرفهم هذا ، إلى حقيقة أن الحاج يستهدف من أدائه لمناسك الحج ، تخليص نفسه مما علق بها من دنس الآثام التي كان قد سبق وارتكبها . قسموا مكة إلى جزأين : الحل والحرم . وكان على القادم من خارج مكة أن يدخل إلى منطقة الحل ، وأن يستأجر منها ثيابا ، يطوف بها حول الكعبة ، إذ يحرم دخول منطقة الحرم ، في ثياب ارتكب صاحبها ، وهو يلبسها ، الدنس الذي يريد الخلاص منه ، بتأديته مناسك الحج . وكان أهل مكة ، الذين أضفوا على أنفسهم لقب الحُمْس ، يمنعون وصول الحاج إلى منطقة الحرم ، قبل التخلص من ثيابه تلك . وإذا ما عارضهم ، هاجموه ومزقوها عنه . وفي حال لم يجد ثيابا يستأجرها من منطقة الحل ، طاف حول الكعبة عاريا كما ولدته أمه . وهذا العرف يجري تطبيقه على الرجال والنساء سواء بسواء . وبعض الأدبيات تقول أن طواف العراة هذا كان مختلطا ، وبعضها يلطف المسألة بالقول أن النهار كان مخصصا لطواف الرجال العراة ، والليل لطواف النساء العاريات .
ما يهمنا هنا أن النبي شاهد هذا الطقس كل سني عمره قبل البعث ، وطوال السنوات التي قضاها في مكة – 13 سنة – قبل الهجرة . يعني ذلك ، وهو من كان ملازما للكعبة ، أنه شاهد هذا الطقس ، كما شاهده مسلمو مكة ، عشرات المرات . وقد تقول لي : ما الغريب في أمر مشاهدة النبي وسائر المسلمين لهذا الطقس ؟ وأقول ليس الغريب في المشاهدة ، ولكن في الموقف من الطقس نفسه . قال : وكيف ذلك ؟ قلت : لو أنك فتشت السور المكية ، أو السنة النبوية ، وكذلك سير الصحابة – الذين صاروا يعرفون بالمهاجرين – لما وجدت إشارة واحدة إلى هذا الطقس الجاهلي . وحين يتحدث التراث عن الفحش الذي جاء الإسلام ليخلص الناس منه ، تطرق جدران دماغك سلسلة من الأسئلة من مثل ، وهل كان هناك فحش أكثر من هذا ؟ وكيف ولماذا سكت عنه النص كما سكتت عنه السنة ، وسكت عليه الصحابة أجمعين ؟ ما هو السر وراء ذلك ؟ وإذا كشف شعر الحرة سيدفع بها لأن تعلق منه في نار جهنم ، فماذا عن كشف هذه العورات كلها ، في طقس يعتقد منفذوه أنه سيسقط عنهم كل دنس أو جرم أو فاحشة ارتكبوها قبله ؟ وأكثر من ذلك : ما هي حقيقة موقف الرب من مفهوم العورات وأحكامها ، وقد سكت عن هذا الكشف الشامل للعورات كلها ؟
وتتضاعف هذه الأسئلة إثر الوقوف على حقيقة أن هذا السكوت استمر بعد صلح الحديبية ، وبعد انفتحت مكة أمام تأدية المسلمين لطقوس الحج والعمرة ، والأهم بعد الفتح وإزالة الأصنام من حول الكعبة . واصل المسلمون لثلاث سنوات السماح بهذا الطقس . وكثيرون ، كما تؤكد كتب التراث ، من هؤلاء المسلمين ، رجالا ونساء ، مارسوه . والنص يلتزم الصمت تجاهه وكذلك السنة ، حتى كانت السنة التاسعة للهجرة ونزول سورة براءة ، حين أصدر النبي بلاغه بلسان علي ، يأمر بوقف هذا الطقس . كان الأمر " لا يطوف حول الكعبة و مشرك ولا يطوف حول الكعبة عريان " ، ليتوقف بهذا الفرمان السلطاني ، هذا الطقس شديد الفحش آنذاك .
استنكر محدثي كل ما رويت ، واعتبره من تخليقات المستشرقين . ودهش حين أوضحت له أنني لم أقرأ كتابا واحدا لهؤلاء المستشرقين ، وأن كتب التراث ، التي كما يبدو يقاطعها ، هي من يزخر بأنباء هذا الطقس . وأضفت : افتح المجلد السابع من كتاب " الإصابة في تمييز الصحابة " لابن حجر العسقلاني ، مجلد النساء ، واقرأ فيه سيرة الصحابية ضباعة بنت عامر بن صعصعة القشيرية ، كونها ذات دلالة كاشفة .
ضباعة :
تقول السيرة أن ضباعة كانت واحدة من أجمل جميلات العرب . تزوجت ، إثر وفاة زوجها الأول ، من رجل كبير السن ، يدعى عبد الله بن جدعان . أعجب بجمالها هشام بن المغيرة أحد أثرياء بني مخزوم . عرض عليها الزواج منها بعد تطليق ابن جدعان . عرضت الأمر على زوجها الذي وافق على طلاقها مقابل مطالب عينية ، لباها المغيرة ، والطواف حول الكعبة وهي عارية . وافق هشام أيضا على هذا الطلب ، واستخدم نفوذ عائلته في إخلاء ساحة الكعبة ، ساعة التنفيذ . لكن النبي ، وكان غلاما حينها ، شاهد العرض مع صبي آخر هو المطلب بن وداعة السهمي . خلعت ضباعة ثيابها ثم نثرت شعرها الطويل على جسدها ، وأخذت في الطواف ، وهي تقول : اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا لا أحله . والنبي الغلام مستمتع بالعرض الذي جلس يشاهده . تزوجها ابن المغيرة ودارت الأيام . وبعد فتح مكة أسلمت ضباعة وهاجرت إلى المدينة ، وكان زوجها هشام قد مات قبل ذلك . لقي النبي ابنها واسمه سلمة في عرض الطريق . سأله النبي تزويجه أمه ضباعة . استغرب سلمة السؤال ، وطلب العودة لأمه . سألها فلامته على التردد في قبوله طلب النبي ، حيث تمنت أن تختم حياتها كأم للمؤمنين . عاد سلمة ليبلغ النبي قبول أمه للطلب . لكن بعض الصحابة كانوا قد سبقوه ، وأخبروا النبي أن ضباعة اليوم ليست هي من رآها تطوف حول الكعبة عريانة . كبرت وسقطت أسنانها وابيض شعرها وتجعد وجهها . ولذلك حين عاد سلمة لم يفعل النبي غير أن أعرض عنه . وهذا يعود بنا إلى السؤال من جديد : لماذا تجاهل النص والسنة وأقوال الصحابة هذه الحالة ؟ أجاب بعض جامعي التراث بأن هذا الطقس – الطواف عراة حول الكعبة – كانت له مبررات تجارية . والنص كما النبي تجنب محاربة قريش في تجارتها . لنعود ونسأل : هل مفهوم العورات ، وما ترتب عليه من أحكام ، إلهي رباني ، أم هو إنساني ، أنشأه وطوره الوعي المجتمعي ، وما كان من الله غير تبنيه ، ثم تثبيته في نصوص ، كما حدث مع عادات وأعراف وتقاليد أخرى ؟
قلت : تفاديا لحرجك ، أنا أجيب على السؤال : كان ذلك تحديد إنساني ، قبله الله ، وسكبه في النصوص . وأكثر من ذلك فقد وافق أيضا على الأحكام وثبتها هي الأخرى في النصوص . والمدهش أن أحكام النصوص جاءت أكثر تشددا من الأحكام الإنسانية الأصلية . والعقوبات المترتبة عليها لا تتناسب مع المخالفات ، كما هو الحال في العقوبات الوضعية . وأكثر من ذلك تقرر الأحكام ، أو القوانين الوضعية عقوبة واحدة للمخالفة الواحدة ، بينما هذه العقوبات الربانية المتبناة عن البشر ، تقول بعقوبتين للمخالفة الواحدة ، واحدة في الدنيا وثانية ، قاسية وطويلة الأمد جدا ، في الآخرة . فتح محدثي عينيه على وسعهما دهشة ، وتهيأ لهجوم عنيف علي ، تحاشيته بتأجيل الحوار حول العقوبات – الشرع والحدود – إلى حلقة حوار قادمة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يا انسان
السيد كمال ( 2012 / 10 / 7 - 03:14 )
يا ايها الحمدان...كلامك له وجهان...وجه به صدق وبرهان...و وجه به كذب و بهتان....واما حوارك فقد كان....بين نفسك وعقلك الحيران....فاعانك الله علي الاثنان .........يا ايها الانسان

اخر الافلام

.. حديث السوشال | فتوى تثير الجدل في الكويت حول استخدام إصبع أو


.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا




.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس


.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت