الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستشراق والاستعراب الروسي (5- 6)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 9 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مدرسة قازان- مركز ثقافي ديني

لعبت قازان في تاريخ الاستشراق الروسي ودراساته العربية والإسلامية دوراً هائلاً للغاية. كما انه دور متناقض فبفعل موقعها الخاص في التاريخ الروسي ونفسيته الجديدة المشبعة بروح الانتقام والقوة من "قرون النير التتري". وذلك، لأنه حالما انحّلت هذه العناصر في العملية الثقافية حتى أخذت مكوناتها بالرجوع صوب مسار البناء الذاتي. فإذا كانت قازان عاصمة التتر المسلمين ومركز السيطرة التي أخضعت روسيا لقرون عديدة، فان احتلالها وضمها إلى الدولة الروسية لم يكن يعني مجرد فتح الطريق أمام تحول روسيا إلى "دولة عظمى"، بل واستثار موجة التفوق الروسي تجاه الشرق، وبالتالي افرز صداه الثقافي والديني في كل تلك الآثار التي مازالت تزخر بها المدن والأرياف الروسية، في فكرها النظري وفلكلورها الوطني.
بصيغة أخرى، لقد افرد التاريخ الروسي لقازان مهمات القيام بالدور الشرقي والإسلامي الخاص. فكانت لعقود طويلة البوابة الضرورية التي يمكن من خلالها الاتصال والاحتكاك بآسيا الوسطى. وبهذا يمكن القول، بان الدراسات الاستشراقية والإسلامية فيها كانت عريقة وسابقة زمنياً حتى على تأسيس جامعتها عام 1804. إلا أن الدراسات العلمية الأكاديمية لم تبدأ فيها بداية جدية ومنظمة إلا حين ترأس خ.د.غرين (1772—1851) قسم اللغات الشرقية بين أعوام 1805— 1817. وبغض النظر عن أن غرين، شأن رهطه الألمان، لم يكن يعرف إلا بضع كلمات روسية، وتربى على تقاليد المكاتب الأوربية الكلاسيكية، أي إتقان العالم ودراسته من خلال الكتب، فان تدريسه للغة العربية باللاتينية لم يلق نجاحا. وبحلول عام 1810 لم يبق من تلامذته سوى ينوارى يارتسوف (1792—1861)، الذي اصبح أول روسي حصل على شهادة الماجستير بالآداب الشرقية من جامعة قازان. وهو نفسه الذي اخذ بمساعدة خ.د.فرين في تدريس العربية باللغة الروسية. ولم تتحسن ظروف التدريس في قازان بمجيء ف.اردمان (1793—1863)، رغم عمله فيها قرابة ست وعشرين سنة، وذلك لفشله في مجال التدريس. إلا أن ذلك لم يوقف تطور الدراسات الشرقية الأولية، خاصة فيما يتعلق باللغات وتاريخ الأديان، وجزئيا بقضايا الفكر الفلسفي واللاهوتي، إضافة إلى جمع المخطوطات وطبعها. إذ استطاعت جامعة قازان منذ تأسيسها في عام 1804 حتى عام 1842 أن تجمع (604) مخطوطة شرقية نادرة. وأفلحت إلى حد كبير في اجتذاب بعض الأساتذة ومدرسين اللغات الشرقية من بلدانهم، مثل احمد بن حسين المكي لتدريس العربية (من مكة) وحجي عثمان أوغلي لتدريس التركية (من اسطنبول) وإبراهيم خلفن لتدريس التترية (من تترستان) واستطاع قسم اللغات الشرقية أن يخرّج كثيراً من الشخصيات اللامعة في مجالي الاستشراق والدراسات الإسلامية نخص منهم بالذكر فيلهيلم ديتل (ت ـ 1848) وأ.ن.بيريزين (1818—1896) اللذين تم إيفادهما لمدة ثلاث سنوات إلى المنطقة العربية للتعلم فيها ومنها.
وقد كانت قازان في جامعتها وقسمها الشرقي ممرا ثقافيا يبعث على الاعتزاز في أوساط الحلقات الاستشراقية المتنورة نسبيا وذلك بفعل موقعها الوسط بين "روسيا النصرانية" "وروسيا الإسلامية"، بين روسيا وآسيا الوسطى، بين الغرب والشرق. وبهذا كانت أشبه بالمصفاة العلمية والثقافية لانتقاء وإيفاد نوابغها إلى المعاهد المركزية في بطرسبورغ. وهذا ما يمكن العثور عليه ولمسه على سبيل المثال في حياة وإبداع كل من خ.د.غرين وأ.كاظم بك (1802ـ1870) وغيرهما.
إلا أن قازان الشرقية والإسلامية الأصل ما أن فقدت كيانها السياسي المستقل، حتى تحولت إلى احد الميادين التجريبية للصراع الثقافي، الذي ساهم فيه الاستشراق والدراسات الإسلامية بدور نشط وحساس. ولم يكن ذلك بدوره معزولا عن الاحتراب الديني ـ العقائدي القديم فحسب، بل وكان أيضا استمرارا للموجة الدينية الظلامية واضطهاد الفكر الحر المميز لهيمنة الرجعية السياسية التي رافقت صعود نيكولاي الأول في ثلاثينات القرن الماضي. إذ تعرضت قازان بدورها إلى مضايقات شديدة مما اضطر العلم الاستشراقي إلى التخفي بغية الاحتفاظ بجذوته المتقدة كجزء من معترك العقائد والأفكار الدينية اللاهوتية، التي أنيط تدريسها بالأكاديمية الروحية (أكاديمية علوم الدين النصرانية) في قازان. وبغض النظر عن رجوع ى.ف.غوتفالد (1813—1897) إلى رئاسة قسم الآداب واللغات العربية والفارسية في أعوام 1849—1855 وإعادة فتح قسم اللغات العربية الفارسية برئاسة خولموغوروف عام 1861 فإن ذلك لم يكن أكثر من ومضات عابرة بالمقارنة مع الجهود النشطة التي قامت بها الأكاديمية الروحية النصرانية. فقد تحولت هذه الأكاديمية إلى مركز للدراسات الاستشراقية والإسلامية.
حيث شكلت قضايا الصراع الديني ـ العقائدي والثقافي مع الإسلام بوصلتها الموجهة لاختصاصاتها العديدة. وليس من المستغرب أن يجري في عام 1854 فتح قسم تحت اسم (قسم مناهضة الإسلام)، أنيطت به مهمة"القضاء على الإسلام" وسط التتر والبشكير وغيرهم من الشعوب الإسلامية. وفي مجرى هذه العملية تبلورت تقاليد الصراع الديني في مسار الاستشراق الروسي على شكل عداء وبغضاء. ولكنها أفرزت في الوقت نفسه بذور تهشمّها بفعل التعمّق التدريجي لحصيلة المعرفة وتدقيقها الدائم في خضم صراع المدارس وتطور العلوم والثقافة. ومن بين أكبر الشخصيات الأولى التي بزغت ولمعت في مجال إذكاء هذه التقاليد العدائية تجدر الإشارة إلى شخصيات مهمة مثل ن.أ.ايلمينسكي (1822—1891)، غ.س.سابلوكوف (1804ـ1880)، ى.غ.مالوف (1835ـ1918)، ن.ب.أستراؤموف (1846ـ1930)، م.أ.ماشانوف (1852—1941).
وقد كان دور ن.أ.ايلمينسكي كبيرا جدا في وضع أسس هذه التقاليد الاستشراقية المناهضة للإسلام في توجهها وغاياتها العامة. ويمكن القول أن إيلمينسكي كان من أذكى الشخصيات الاستشراقية التي نشأت على تقاليد المناهضة الفكرية العقائدية للإسلام في التقاليد الروسية للقرن التاسع عشر. فهو لم يكتف بكتاباته المعارضة لثقافة الإسلام وعقائده الدينية، بل وأسس عام 1872 ( معهد المعلمين المناهضين للإسلام)، الذي أوكلت إليه مهمة إعداد وتربية المعلمين الذين سيأخذون على عاتقهم مهمة "دحض الديانة المحمدية". وقد أتصف إيلمينسكي بسعيه المعرفي الدءوب ومزاجه الديني المتطرف. فبعد أن تخرج من الأكاديمية الروحية النصرانية عام 1846 بدأ يدرّس فيها اللغة العربية، وقام بعدئذٍ برحلة إلى العالم العربي فزار كلاً من مصر وسوريا في أعوام (1851—1854). ومكث مدة في الأزهر حيث اهتم بدراسة التفسير وقام بترجمة كتاب البيضاوي في التفسير. وبعد رجوعه إلى قازان وعودته إلى تدريس العربية وتاريخ الإسلام اتسمت محاضراته بطابعها الشيق والجذاب، مما حدا برئاسة الأكاديمية إلى اتهامه بمحاباة الإسلام، الأمر الذي اضطره إلى مغادرتها عام 1858 والالتحاق بالعمل مع المستشرق الشهير ف.ف.غريغوريف(1816—1881) في مدينة ارنبورغ. إلا أن مكوثه لم يطل هناك فعاد للعمل في قازان من جديد، ولكن في جامعتها لتدريس اللغتين التترية والتركية (عام1861) أولاً، ثم في الأكاديمية من جديد عام 1863. ومن بين أعماله القيمة دراسة عن تاريخ ابن الأثير مع التركيز على العلاقة بين المغول والروس الموجودة فيه. كما ترجم عقيدة البرقوي، ونشر كتاب بابورنامه (التركي). اما غ.س.سابلوكوف فشهرته التاريخية في ميدان الاستشراق الروسي ودراساته الإسلامية تقوم أولا وقبل كل شيء في انه أول من قام بترجمة القرآن إلى اللغة الروسية عن الأصل العربي. فقد كان .س.سابلوكوف من الباحثين الذين استندوا في بداية توجههم العلمي الاستشراقي إلى ما يمكن نعته بالتربية الذاتية. لكن ذلك لم يكن معزولا، فيما يبدو، عن دراسته في الأكاديمية الروحية النصرانية في موسكو عام 1830. لقد حاول في بداية الأمر نشر ترجمته لرحلة ابن فضلان، إلا أن محافظ مدينة سامارا منعه من ذلك فاضطر فيما بعد للسفر إلى قازان عام 1849. حيث بدأ بتدريس اللغة العربية في نهاية عام 1858. وأنجز ترجمته الأولى للقرآن عام 1877. ثم أضاف إليها حواشي وتعليقات (عام 1879). ومن بين مؤلفاته القيمة تجدر الإشارة إلى كتابه (أخبار القرآن) الصادر عام 1884، والذي ضمنّه أساسا القضايا المتعلقة بموقع القرآن وأهميته في حياة المسلمين. غير أن مأثرة غ.س.سابلوكوف في مجال الاستشراق الروسي لا تنحصر في مجال الترجمة والتأليف، بل تعدتها إلى ميدان تربية جيل من الكفاءات، ولعل اشهر تلاميذه آنذاك كان ي.غ. مالوف، الذي اصبح في عام 1868 أستاذا لتدريس مواد"مناهضة الإسلام". وتحت إشرافه المباشر جرى التحضير والإعداد لسلسلة "دراسات تهافت الإسلام"، التي صدر منها عشرون جزءاً. وقد تناولت هذه السلسلة مختلف القضايا المتعلقة بعقائد الإسلام والصراع الإسلامي ـ النصراني، أي تلك التقاليد التي سار عليها أيضا كل من أستراؤموف و م.أ.ماشانوف الذي ترأس القسم العربي في الأكاديمية الروحية، وقام في أعوام 1885—1887 بزيارة للقاهرة وجدة. وهو من بين الأوائل الذين زاولوا دراسة علم الكلام الإسلامي، إضافة إلى كتابة مختلف الأبحاث ذات الصلة بمسائل "العادات" في الفقه الإسلامي وحقوق الذميين في الإسلام.
ومن الصعب القول بأن هذا التيار كان خاتمة الحركة الاستشراقية والدراسات الإسلامية في مسارها الثقافي ـ الديني. فقد تصد له وان بصورة موضوعية كجزء من عملية التطور الثقافي والعلمي، الباحث العربي الكبير بندلي جوزى(1871—1942). فهو أول من كتب الأبحاث المتخصصة في روسيا عن المعتزلة. ولعل أطروحته للماجستير في كلام المعتزلة عام 1899 من افضل أعمال زمانها بهذا الصدد. واستطاع أيضا انجاز الكثير من الأعمال القيمة المتعلقة بمختلف جوانب تاريخ الإسلام وحركاته الاجتماعية ـ السياسة والفكرية. كما تميزت أعماله بالطابع الموضوعي والعلمي الحصيف. وهو، فضلاً عن ذلك كله، أول من ألف كتابا لتدريس اللغة الروسية للعرب. وألقى محاضرات حول الفقه الإسلامي في قازان عام 1916. لقد توجت أعماله في الكثير من جوانبها انجازات المدرسة القازانية. وهي تعكس في حصيلتها العامة ما قامت به هذه المدرسة في مجرى التيارات الكبرى للاستشراق الروسي، الذي تتوج دون شك بمدرسة بطرسبورغ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن