الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستشراق والاستعراب الروسي (6-6)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 9 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مدرسة بطرسبورغ ـ صيرورة المركز الثقافي ـ السياسي.

تتشابه عملية تكون مدرسة بطرسبورغ الاستشراقية مع مثيلتها الموسكوفية. فللمدن في الحياة السياسية والروحية للأمم مصيرها الذي لا يمكن أن يحدده سوى ما تبتاعه وتشتريه من ذاكرة الأجيال وقدراتهم المادية والمعنوية، او ما تفرضه عليهم بالقوة او ما تأخذه طواعية لكي تتحول إلى رمز للاستقلال والهوية القومية والثقافية. وبهذا المعنى كانت بطرسبورغ رمز الإمبراطورية الصاعدة. فقد حاولت أن تبني كيانها المادي والمعنوي بشكل يمثل عناصر القوة والعظمة، والأبهة والجلال. وسعت بهذا القدر او ذاك من النجاح في مدّ هذه القوة إلى شرايين وجودها. ولم يختلف الاستشراق في هذه العملية نظراً للدور الكبير الذي لعبه الشرق في الكيان الإمبراطوري للقيصرية الروسية.
وبغض النظر عن كون جامعة بطرسبورغ قد افتتحت عام 1819، فإن ذلك لم يكن يعني غياب الاهتمام العلمي الأكاديمي بالشرق. فقد أولى معهد التربية الذي تأسس عام 1804 اهتماماً لدراسة اللغات والآداب الشرقية. لكن قلة الأساتذة المتخصصين أدت إلى تقديم طلبات استجاب لها المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي الذي رشح للعمل في بطرسبورغ اثنين من تلامذته وهما جان فرانسوا ديمانش (1789—1839) وفرانس برنارد شرموا (1793—1868). حث ترأس الأول كرسي اللغة العربية، وترأس الثاني كرسي اللغة الفارسية. وعندما فُتح باب القبول تقدم (18) طالباً برغباتهم للالتحاق بهذا المعهد. وقد أسفر امتحان الدفعة الأولى عام 1820 في قسم الآداب الشرقية عن نجاح سبعة طلاب فقط. ومع ذلك جرى تقليد الأوسمة للفرنسيين على جهودهما في تذليل العقبات الأولى. إلا أن تعقد الحياة السياسية قي ثلاثينيات القرن التاسع عشر نتيجة لصعود وسيطرة الظلامية الدينية والرجعية السياسية وبفعل المضايقات التي اخذ يتعرض لها رجال الاستشراق اضطر كل من ج.ف. ديمانش وف.ب.شرموا إلى ترك الجامعة والعمل في القسم الآسيوي لدى وزارة الخارجية. ومع ذلك لم يكن هذا الفعل انتهاء أو ضعف العمل التدريسي في الميدان الجامعي.
آنذاك قام بتدريس اللغة العربية (بعد خروج ديمانش وشرموا) المستعرب والأديب الشهير اوسيب سينكوفسكي (1800—1858)، الذي وصفه خ.د.فرين بأنه افضل من يعرف اللغة العربية في بطرسبورغ. وقد ترأس قسم الأدب العربي وهو في عمر لا يتجاوز الثانية والعشرين. وبعد ذلك بقليل تخرجت الدفعة الأولى من القسم الشرقي (1823). وعلى أساس قسم الآداب الشرقية وبمساندة فعالة من أ.سينكوفسكي تأسست كلية التاريخ واللغة، التي اصبح هو عميدها. وأخذت الجامعة وقسمها الشرقي في التوسع بحيث تحولا إلى ميدان للتخصص الرفيع والتأهيل ومنح الشهادات العليا للمستشرقين الروس وترقيتهم إلى درجة أساتذة في العلوم الاستشراقية. ومن بين أبرز شخصيات الرعيل الأول تجدر الإشارة إلى كل من أ.بتروشيفسكي، وأ.موخلينسكي، و ب.ى.بتروف. كما أنجز دراسته ما بين 1830—1839 أيضا كوكبة من المستشرقين الروس لعل اشهرهم آنذاك كان كل من ب.س. سافيليوف (1814—1859)، ف.ف.غريغوريف (1816—1881). وإذا كان ب.س.سافيليوف متخصصا كبيرا في النقود الشرقية واحد مؤسسي المجمع الروسي للأبحاث الأثرية (الشرقية) وواضع أسس دراسة تاريخ الاستشراق الروسي نفسه (حيث كتب سيرة حياة الكثيرة من شخصياته الكبيرة مثل سيرة حياة خ.د.فرين، ف.ف.شرموا،أ.ي.سينكوفسكي وآخرين)، فان ف.ف.غريغوريف كان من أغزر مستشرقي تلك المرحلة إنتاجا في الترجمة والتأليف،وبالأخص في مجال الدراسات التاريخية وعلاقة الروس بشعوب آسيا الوسطى والتتر.
لكن ذلك لا يعني أن الاستشراق والدراسات العربية والإسلامية قد شقت طريقها بالسهولة المتخيلة. إذ تعرضت الحركة العلمية والثقافية إلى نفس تذبذبات الحياة السياسية في هرم السلطة. وقد طال ذلك مختلف جوانب الحياة الاجتماعية. وأدت مرحلة الرجعية السياسية (عهد نيكولاي الأول) إلى"هروب" الكثير من المستشرقين إلى الميادين الأخرى للعمل فيها. ولحسن الطالع فقد أدت هذه "الملابسات" بالدراسات الشرقية إلى الاندماج بكلية الفلسفة في بطرسبورغ. وبذلك تم تمهيد بعض السبل الأولية للتلاقح الفكري بين الدراسات اللغوية والتاريخية والفلسفية. إلا أن للسياسة مع ذلك"منطقها" المتعرج. فهي في الوقت الذي تقمع الفكر، تضطر في حالات عديدة للرجوع إليه، على الأقل من اجل الاستعانة به من جديد لتنفيذ "منطلقها". وبقدر ما ينطبق ذلك على العلوم الطبيعية وأساتذتها، والعلوم "الأيديولوجية" وأساتذتها فإنه ينطبق أيضاً على علوم الاستشراق وممثليه. فقد أدت الحرب الروسية التركية حول القرم إلى تأسيس كلية اللغات الشرقية في بطرسبورغ عام 1854 بفعل حاجة الحكومة آنذاك لمعلومات عن الشرق. غير أن هذه التناقضات "الطبيعية" في مسار السياسة والسلطة، التي تدوس أحيانا بأقدامها براعم الثقافة الناشئة، لا تفعل في الواقع إلا على تسوس ذاتها. إلا أن للمصالح الدولية منطقها الخاص. فهي لا تسير إلا وراء حاستها المباشرة. وفيما بين هذه التناقضات تظهر الانكسارات في التقاليد وتتصلب عقدها الفكرية، العلمية والثقافية أيضاً. فاحتياج الدولة القيصرية إلى أبحاث ودراسات ومترجمين حول الشرق (الدولة العثمانية خصوصاً) وتأسيسها لكلية اللغات الشرقية في بطرسبورغ عام 1854 لعب أيضاً دوراً ايجابياً في تجميع وتركيز القدرات الذهنية والعلمية للاستشراق الروسي آنذاك. وهو ما انعكس مثلاً في نقل تسعة أساتذة من قازان إلى بطرسبورغ، فأصبح أ. كاظم بك أول رئيس للمعهد. وضمّ المعهد آنذاك خمسة أقسام هي القسم العربي ـ الفارسي، والتركي ـ التتري، والعبري ـ العربي وقسمين للغات الشرقية الأخرى. وكان من بين أساتذة هذه الأقسام كل من أ. كاظم بك أستاذ الفارسية وتاريخ الإسلام، و أ. موخلينسكي أستاذ التركية وتاريخ الشرق، والشيخ الطنطاوي (1810 —1861) أستاذ العربية، و أ.ن. بيريزين أستاذ اللهجات التركية، و د. أ. خفولسون أستاذ العبرية. ولم يكن اهتمام هؤلاء الأساتذة محصوراً في ميدان اللغات، بل تعداه إلى مختلف مجالات التاريخ والفكر. فقد كتب د. أ. خفولسون (1819 — 1911) أولى الدراسات المتخصصة الكبيرة في روسيا عن الصائبة الحرانية (باللغة الألمانية)، وذلك فضلاً عن أبحاثه في تاريخ الزراعة عند العرب وكذلك دراسته لتاريخ ابن رسته، وبالأخص للمعلومات الواردة فيه عن شعوب أوربا الشرقية. إضافة لذلك انه قام بتوجيه اهتمام المستشرق الروسي الكبير ف. ف. بارتولد (في بداية نشاطه العلمي) نحو ضرورة الاعتماد على المصادر العربية في دراساته لتاريخ تركستان وهو ما أنجزه بصورة ممتازة في وقت لاحق. أما أ. موخلينسكي، الذي اصبح رئيساً ثانياً لكلية اللغات الشرقية ما بين 1859 — 1866، فهو في الوقت نفسه احد اشهر من بحث في تاريخ التتر المسلمين في ليتوانيا وبيلوروسيا، إضافة إلى تخصصه بتاريخ خانات القرم.
ومع أول دفعة من خريجي كلية اللغات الشرقية عام 1858 تكون الحركة الاستشراقية وعلومها قد قطعت شوطاً معبداً بالامتحانات الصعبة. إلا أنها استطاعت أن تضع في الوقت نفسه الأساس المتين لتطورها اللاحق. فقد كان من بين هذه الدفعات ف. ف. جرجاس (1835 — 1878) الذي ابتدأت معه مرحلة جديدة في مسار الاستشراق والدراسات العربية والإسلامية في روسيا. فقد أولع جرجاس بدراسة العربية وحبها. ودافع عن أطروحته للدكتوراه عام 1873 في قواعد اللغة العربية، وظل يتولى تدريسها في المعهد حتى وفاته. وقد قام بزيارة إلى كل من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر أعوام 1861 — 1864 وساهم مساهمة فعالة في نشر الكثير من المؤلفات الأدبية العربية واشترك مع ن. ع. روزين في وضع (الشذرات العربية) في اللغة والأدب. إضافة إلى انجازه قاموس اللغة العربية ـ الروسية، الذي كان يعد من أفضل القواميس آنذاك. وكتب الكثير من المقالات عن الأدب العربي ووضع فهرست كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، واصدر كتاب الدينوري (الأخبار الطوال).
إن الاستشراق الروسي ودراساته العربية والإسلامية قطع بحلول ثمانينات القرن التاسع عشر الشوط الضروري، الذي أرسى أسس مكوناته الذاتية. ومن هنا بدأ ما يمكن دعوته "بالعصر الذهبي" للاستشراق الروسي، حيث اصبح لكبار أعلامه وإبداعاتهم الفكرية قيمة مستقلة تستحق دراستها بصورة منفردة.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن