الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد الأصولية الحمراء : نحو تجاوز مادي و جدلي للماركسية.

بيرم ناجي

2012 / 9 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"ان ما يوجد على هذه الأرض وفي تلك السماء أكبر من فلسفتك"
شكسبير
-1-

تقديم

نقدم في هذا البحث مسودة محاولة علمية جدلية لنقد و تجاوز الفكر الماركسي ايجابيا.اننا نعتبر ماركس من أعظم مفكري البشرية في العصر الحديث و نعتبر فلسفته و ما ارتبط بها من دراسات علمية من "خير ما أبدعته الانسانية" و لكن الجدل يعلمنا ان العلم تاريخي و الحقيقة نسبية و يساعدنا على الآ نعتبرماركس مفكرا رسوليا أتى بالحقيقة المطلقة.
اننا نعتقد ان الفلسفة الماركسية هي – مثل كل فلسفة- وليدة صاحبها و مجتمعها و عصرها العام و هي بالتالي تهرم و تشيخ مثل كل النظريات وتدخل ضمن الميراث الفكري البشري مثلها مثل فكر هيغل و فيورباخ الذين ساهم ماركس أكثر من غيره في ادخالهما الى "متحف التاريخ" الفكري البشري تقريبا.
ان التقدم البشري سواء في المستوى العلمي و الفكري عموما و سواء في مستوى التاريخ الاجتماعي العالمي يسمح لنا بأن نقطع ولكن ايجابيا مع ماركس و الماركسية ضد من يمارسون السلفية الماركسية الأورثوذكسية من ناحية و ضد من يحلمون بالقطع السلبي التام مع ماركس.
اننا نعتقد ان ما وقع للماركسية يمكن توصيفه بنفس ما وصف به ماركس الفكر الهيغلي: كان النسق الفلسفي الماركسي العام ضيقا بينما احتوت الماركسية على نواتات عظيمة ساعدت تقدم البحث العلمي، والتاريخي منه خاصة، على تحقيق انجازات مهمة جدا.و لذلك انفجر النسق بمجرد موت المؤسس الى مدارس مختلفة والى تيارات مختلفة تشبه التيارات التي تولدت من رحم الفكر الهيغلي مع الفرق الكبير بينهما طبعا و خاصة بسبب ارتباط الماركسية بالنضال السياسي و تحولها الى ايديولوجيا دول قائمة في عديد البلدان.

كان يمكننا أن نعنون هذا البحث ردا على فريديرك أنجلز " ماركس و استمرار الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " لأننا نعتقد ان ماركس لم يقطع كليا مع كل أشكال المادية الميكانيكية ولا مع الجدل الهيغلي – رغم قلبه - الا ليؤسس مادية ميكانيكية- عضوية جديدة انسجنت في النسق الهيغلي بعد " ايقافه على قدميه". و سنرى كيف ان ماركس نفسه – في دراساته الجزئية- يمكن ان يساعدنا على تجاوز نسقه الفكري العام وان بعناء.
لماذا هذه الدراسة الآن؟
بدأنا التفكير في هذا الموضوع منذ سنوات و شرعنا في تسويد المخطوطات الأولى منذ سنة 2005 تحديدا الا ان ظروفا عديدة كانت تمنع من التقدم بجدية في تنفيذ المشروع .أما الآن، و بعدما حدث في الوطن العربي الذي تحول ربيعه بسرعة البرق الى خريف أسود قاتم فانه لابد من الابتعاد عن "عبادة المتميز" التي يسعى الكاتب اليها ضمانا لنجاعة كتاباته. اننا نفضل الورش الجماعية الآن على انتظار المنتوج المثالي للمبدع عسى ان يساهم المثقف في ايقاف الخراب الزاحف علينا من كل حدب وصوب في الداخل و الخارج.
ان اليسار الماركسي العربي في غالبية فصائله هو احدى القوى التي لا تزال تقاوم بنزاهة و حماس و لكن بأسلحة قديمة مع الأسف.انه لا يكاد يختلف عن السلفيين في عقليته الأصولية المحافظة من النواحي النظرية و السياسية و التنظيمية و هو ما يعرقل تحقيق الانتصارات في كل هذه الميادين.
ان الوقت قد حان- بل نحن متأخرون- للمساءلة الرصينة و النزيهة للماركسية الكلاسيكية برمتها و الكف عن تكرار تلك الفكرة القائلة "ان النظرية صحيحة و ان المشكل كان في التطبيق فقط".
ان الخراب الذي يلحق بكل شيء الآن لا يمكن وقفه ، او التقليل من خطورته على الأقل، بالأفكار و البرامج و بالطرق و التنظيمات القديمة. لا بد من اعادة النظر الايجابية في كل شيء دون التنكر للتاريخ و دون "رمي الرضيع مع الغسيل الوسخ".
لا بد من الشجاعة و الجراة على مساءلة المحظورات و "الطابوهات" الأكثر حميمية لأن الصدق مع النفس وحده يعطي المرء الثقة التامة في القدرة على القول والفعل . ان البعض يتمسك بالقديم من باب التقليد و البعض الآخر من باب الجهل و الآخر من باب الصدق في الايمان و الآخر من باب الاكتفاء بالموجود الناجز طالما لا يوجد بديل مكتمل جديد و البعض الآخر قد تكون له امتيازات و مصلحة في تواصل الأمور كما هي ،الخ. لكن في كل هذا شعوبنا هي الخاسر الأكبرو هي اليوم في مرحلة لم تعد تحتمل أية درجة من التأخير في البحث عن طاقة جديدة واعية و منظمة تساهم في النضال و تسعى الى درء الخراب واستئناف مسيرة التقدم.
نحن العرب الآن في محطة من أخطر محطات تاريخنا الحديث و المعاصر و تتطلب دما جديدا يعاد بعثه في جسمنا حتى نواصل القدرة على المقاومة و هذا الجسم له " قلب ينبض في اليسار" ، كما قال الشاعر الفرنسي لوي أراغون ذات مرة، وهذا القلب مصاب بتصلب في الشرايين و مهدد بسكتة قلبية ان لم يعالج مما قد يحوله من عضو نابض بالحياة الى مضخة على وشك التوقف او الانفجار.
ان قاطرة اليسار العربي تشيخ في حين تشتعل النيران حولها و المطلوب تجديد محركها حتى لا تتوقف عن التقدم بين و مع و بالفقراء و المظلومين. وان هذه المهمة تتطلب أول ما تتطلب اعادة تقييم الماركسية جذريا و لكن ايجابيا لأن المهم ليس النظريات وتناسقها بل الشعوب و مصالحها .
لا بد من "قطع حبل السرة" و تحقيق الفطام دون " قتل الأب" أو الأم ولكن لا بد من القيام بذلك من داخل الحركة الفكرية و السياسية التحررية مما يتطلب بدء المحاولة في التفكير في البديل النظري السياسي و الاطار التنظيمي الجديد الذي سيلعب دور القابلة.
اننا ندعو الجميع الى الشروع في التفكير الاشتراكي الديمقراطي الانساني ولم لا العمل على بعث التنظيم اليساري الجديد الذي قد يبدأ بجبهة يسارية أو بما يشبه "الجبهة العمالية الموحدة" لينتهي الى حزب اشتراكي ديمقراطي انساني جديد.
ان العمل الأول الذي نقدمه هنا يبدأ بالجانب النقدي النظري العام و قد نلحق به أجزاء أخرى –في المستقبل- تهتم بالاقتصاد السياسي تحديدا و كذلك بالجانب السياسي و التنظيمي أو ما يسميه الماركسيون "الاشتراكية العلمية".
سوف نعتمد في هذا البحث النظري على كراس جوزيف ستالين " المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية" الذي صدر سنة 1938 كفصل من "تاريخ الحزب الشيوعي ( البلشفي) في الاتحاد السوفياتي " لأنه يمكن ان يساعدنا، و لكن نقديا، على الايجاز الشديد و التكثيف العميق للمسألة التي لا نطمح الا لتقديمها بصورة عامة. سنتتبع هذا البحث خطيا وبالتالي نضمنه كاملا في هذه الدراسة مما سيجعل النص ثقيلا بعض الشيء . لكننا تعمدنا ذلك بسبب كوننا لن نعتمد وثائق اخرى تقريبا الا اشارة – من الذاكرة- لأننا نعيش حاليا بعيدا عن مكتبتنا الشخصية فنرجو المعذرة و المساعدة من القراء و الباحثين.


-2-

نبدأ بالتعريف الذي قدمه ستالين للمادية الجدلية و المادية التاريخية نفسه لفتح باب النقد التجاوزي الايجابي.
يبدأ جوزيف ستالين كراسه" المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" (سنعتمد ترجمة حسقيل قوجمانالصادرة عن موقع" الحوار المتمدن" وهي ترجمة متوسطة النوعية و ليست مثل الترجمة العربية الصادرة عن دار دمشق و التي هي ليست تحت ايدينا الآن مع الأسف ) بالتعريف التالي:
" المادية الديالكتيكية، هي نظرة الحزب الماركسي اللينيني للعالم. وهي تدعى مادية ديالكتيكية لان نهجها للظواهر الطبيعية، أو أسلوبها في دراسة هذه الظواهر وتفهمها ديالكتيكي، بينما تفسيرها للظواهر الطبيعية، أو فهمها لهذه الظواهر، أو نظريتها مادية.
المادية التاريخية هي امتداد مبادئ المادية الديالكتيكية على دراسة الحياة الاجتماعية؛ تطبيق مبادئ المادية الديالكتيكية على ظواهر الحياة الاجتماعية وعلى دراسة المجتمع وتاريخه."

لقد صاغ هيغل قوانين و مقولات الجدل كاملة قبل ماركس و لكنه فعل ذلك انطلاقا من تصوره المثالي عن "الفكرة المطلقة" و لم يكن هيغل يرى في جدل الطبيعة و المجتمع و الفكر البشري سوى تحققا لجدل الروح المطلق نفسه. وبعد قلب جدل هيغل من قبل ماركس اصبحت "جدلية الطبيعة" هي المرجع الذي يجب تطبيقه على المجتمع و الفكر فظهرت "المادية التاريخية".
ان الأسئلة الأساسية التي سنبدأ بها هنا هي التالية:
- هل ان علوم الطبيعة كانت قد اكتملت بحيث تمكن هيغل ثم ماركس من استنتاج "أعم قوانين الطبيعة" منها؟
- ولماذا لم يضف الماركسيون لجدل هيغل و ماركس و لو قانونا واحدا أو مقولة واحدة للجدل منذ هيغل الى اليوم اي منذ قرن ونصف القرن؟

- وهل ان ما عرفه هيغل و ماركس من قوانين الطبيعة يبررلماركس تطبيقها على المجتمع و تاريخه بحيث تصبح "المادية التاريخية" امتدادا و تطبيقا ل " جدلية الطبيعة" على المجتمع و تاريخه؟

سنكتفي الآن بالأسئلة تقريبا و لكن قبل المرور الى جوهر المسائل لا بد من ملاحظتين:

أولا: ان الجدل ليس علما "لأعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر" انه ليس "علم العلوم" و لا يجب أن يدعي هذه الصفة أصلا. انه محاولة منهجية تحاول الاقتراب من العلمية لتوحيد المعارف الانسانية حول الطبيعة و المجتمع و الفكر بحيث يقع تنسيق تلك المعارف في تصور كلي عام يساعد الانسان على اكتساب نظرة شاملة للعالم اضافة الى المعارف الجزئية المتخصصة التي تقدمها العلوم المتخصصة التي يمارسها البشر. ان الجدل بذلك يبقى ضمن الميدان الفلسفي الذي يحاول الاقتراب من العلمية و لكنه لا يجب أن يتحول الى علم قائم بذاته الى "علم العلوم" الذي يوجد "فوق العلوم" .


ثانيا: انه من غير المسموح به علميا تطبيق قوانين الفيزياء الكوانطية على الفيزياء النيوتونية و لا قوانين هذه الأخيرة على الكيمياء و لا تطبيق قوانين الكيمياء على البيولوجيا و لا قوانين البيولوجيا على الفيزيولوجيا – رغم وحدة كل هذه الميادين داخل الطبيعة - فهل من المنطقي تطبيق قوانين الطبيعة العامة على المجتمع و هل من من المنطقي حتى تطبيق قوانين الاقتصاد على السياسة أو قوانين الاجتماع على الفن مثلا؟

ثالثا: ان النزعة الموسوعية- الفلسفية-العلمية الهادفة الى تأليف المعارف مهمة جدا للفكر البشري .ولكن لا يجب عليها أن تحاول تقليد النزعة الدينية و الفلسفية المثالية التأملية ،المرتبطة بها، و التي كانت تسجن الفكر البشري في أنساق فكرية مغلقة تتوهم الوصول الى الحقيقة المطلقة و تكفر كل من يخالفها الرأي.
كما ان اهمية تعميم و تجريد النتائج العلمية المختلفة في نسق فلسفي لا يجب ان تؤدي الى سيطرة نزعة علومية وضعية أو مادية أو غيرها تنطلق من علم من العلوم أو من صنف من العلوم – حتى لوكانت العلوم الطبيعية الأشد صرامة- لتعممها على الفلسفة و على العلوم المتخصصة المختلفة الأخرى.
ان الفلسفة الماركسية بهذا هي فعلا - او هكذا تبدو لنا لأول وهلة على الأقل – "مجرد" استمرارمقلوب للفلسفة الكلاسيكية الألمانية- التي لا بد من التذكير انها وريثة التأمل الفلسفي الديني لأيكهارت ونقولا دي كيوز...و قبلهم التيار الأفلوطيني- وانها قد تغذت بوضعية و مادية وموسوعية الفرنسيين و بلآأدرية و علم اقتصاد الأنجليزيين.

-3-


يواصل ستالين فيما بعد التركيز أولا على المنهج الجدلي ولا حقا التصور المادي في الطبيعة و التاريخ الاجتماعي و يكتب:
"لدى وصف ماركس وانجلز اسلوبهما الديالكتيكي، يشيران عادة إلى هيغل باعتباره الفيلسوف الذي صاغ المعالم الرئيسية للديالكتيك. إلا أن هذا لا يعني أن ديالكتيك ماركس وانجلز متطابق مع ديالكتيك هيغل. في الواقع أخذ ماركس وانجلز من الديالكتيك الهيغلي "نواته المعقولة" نابذين قشرته المثالية وطوراها أبعد من ذلك لكي يضفيا عليها شكلا علميا.
يقول ماركس:
"إن أسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فحسب هيغل عملية التفكير أطلق عليها اسم "الفكرة" وحولها حتى إلى ذات مستقلة. هي خالقة العالم الحقيقي، ويجعل العالم الحقيقي مجرد شكل خارجي ظواهري ُللفكرةُ. أما بالنسبة لي، فعلى العكس من ذلك، ليس المثالسوى العالم المادي الذي يعكسه الدماغ الإنساني ويترجمه إلى أشكال من الفكر." (كارل ماركس، الرأسمال، الجزء الأول، ص 30 الطبعة الانجليزية)."

ان الجدل الماركسي قلب الجدل الهيغلي و بذلك بقي سجينا له ولكن "بالمقلوب" .فمقابل الفكرة المطلقة الهيغلة – و هي الله المسيحي وقد تمت فلسفته- التي تتحقق في الطبيعة و التاريخ و الفكر نجد "المادة المطلقة" الماركسية التي تمتد في المجتمع –الاقتصاد – وتتحقق في التاريخ و الفكر.
مقابل خالق مطلق هيغلي ظهر خالق مطلق ماركسي الطبيعة / الاقتصاد و أصبح كل شيء باق من خلقه :البناء الفوقي السياسي و الوعي بأشكاله المختلفة .
مقابل التأمل العقلي و الروحي سقطت ا لماركسية في نزعة عضوية بأن استثمرت تطور الفيزيولوجيا للتأكيد على دور الدماغ ولكن في "الانعكاس" و" الترجمة " "للعالم المادي الخارجي" . تم بذلك رد الفعل على فيورباخ و هيغل عبر "تحقيرالعمل النظري" داخل فخ الأنطولوجيا الهيغلية المقلوبة التي أصبحت تِؤكد على ما سماه أنجلز - في "المسألة الأساسية في الفلسفة" و في "نظرية المعرفة" - الأسبقية أو الأولوية الأنطولوجية و الزمنية و السببية للمادة – الموضوع الفيورباخي -على الفكر- التأمل الفيورباخي- عوض الخروج من الفخ تماما .
هكذا لم يقع طرح المسألة كمسألة براكسيس- ممارسة- فعل و تفاعل الذات مع الموضوع الطبيعي الخارجي (الذاتي أو الخارجي) و الموضوع الاجتماعي الذاتي –الحسي –التجريبي و لكن المتخارج و المتموضع في نفس الوقت .

اما بخصوص "قوانين و مقولات "الجدل فان الجهاز المفاهيمي الهيغلي ، كما قلنا سابقا، قد تم تبنيه بالكامل و لكن عوض اعتباره مجموعة قوانين و مقولات للفكرة المطلقة الهيغلية المتحققة أصبح يسمى "علم أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر".

-4-

يمر الى تعريف االمادية قائلا:
" لدى وصف ماركس وانجلز ماديتهما يشيران عادة إلى فورباخ باعتباره الفيلسوف الذي أعاد المادية إلى صوابها، إلا أن هذا لا يعني أن مادية ماركس وانجلز متطابقة مع مادية فورباخ. في الواقع اخذ ماركس وانجلز من مادية فورباخ "لبها" الداخلي وطوراه إلى نظرية المادية العلمية الفلسفية ونبذا "قشرتها"المثالية الدينية الاثنية. نعلم ان فورباخ، ولو انه كان ماديا بالأساس، اعترض على اسم المادية. وقد صرح انجلز أكثر من مرة أن " فورباخ على الرغم من الأساس المادي، بقي مكبلا بالقيود المثالية التقليدية"، وان "المثالية الحقيقية لفورباخ تظهر بوضوح حالما نأتي إلى فلسفته عن الدين والاثنية". (كارل ماركس، مؤلفات، الطبعة الانجليزية، الجزء الأول ص 439 - 442)."
سقطت الماركسية في الواقع في فخ الماديا ت السابقة باعتراف غير مباشر من ماركس نفسه.
يقول ماركس: " إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها – بما فيها مادية فورباخ – هي أن الشيء ، الواقع ، الحساسية ، لم تُعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل ، لا بشكل نشاط إنساني حسيّ ، لا بشكل تجربة ، لا من وجهة النظر الذاتية . ونجم عن ذلك أن الجانب العملي ، بخلاف المادية ، إنما طورته المثالية ، ولكن فقط بشكل تجريدي ، لأن المثالية لا تعرف ، بطبيعة الحال ، النشاط الواقعي الحسي كما هو في الأصل . وفورباخ يريد الموضوعات الحسية التي تتميز في الحقيقة عن الموضوعات الفكرية ، ولكنه لا ينظر إلى النشاط الإنساني نفسه بوصفه نشاطا واقعيا ولهذا لم يعتبر في كتابه « جوهر المسيحية » شيئا إنسانيا حقا إلا النشاط النظري ، في حين أنه لم ينظر إلى النشاط العملي ولم يحدده إلا من حيث شكله التجاري الوسخ . ولهذا ، لا يدرك أهمية النشاط " الثوري " ، " النقدي–العملي". (ماركس، اطروحات حول فيورباخ، - الأطروحة الأولى)
اننا نعتقد ان مادية ماركس نفسها سقطت في نفس الفخ ، الذي حذر منه ماركس نفسه أعلاه ، و لكن بصورة أقل و بأشكال أكثر تعقيدا واعتبرت ثنائيه المادة/ الفكر مقوما من مقوماتها و عممت استنتاجاتها عن الواقع الطبيعي بوصفه موضوعا يقابله الوعي عموما ليمتد الى الواقع الاجتماعي الذي يقابله الوعي الاجتماعي تحديدا.
كما ان الماركسية ، وان اهتمت بما سماه ماركس "النشاط العملي" فانها، عوضت "شكله التجاري الوسخ" عند فيورباخ بشكله" الانتاجي غير الوسخ" و بذلك تركز النشاط الثوري ،النقدي العملي ، ليس حتى على العلاقات الآقتصادية عموما بل تحديدا على العلاقات و القوى الانتاجية مما جعل الماركسية تسقط – كنسق- برد فعلها ضد فيورباخ في "جوهر المسيحية" - في اعتبار النشاط الانتاجي- الاقتصادي هو "الشيء الانساني الحق" بينما النشاط النظري هو مجرد "انعكاس" يكون "وعيا زائفا" اذا لم يعكس "الموضوع" الاقتصادي الذي هو وحده "الموضوع الحقيقي" في المجتمع.
ان أطروحة ماركس الأولى حول فيورباخ قد تساعدنا على تجاوز ماركس نفسه .

-5-
يقدم ستالين نبذة مختصرة جدا عن التطور التاريخي للجدل و مصطلحه قائلا :

"تأتي كلمة ديالكتيك من Dialego الإغريقية، وتعني المجادلة، المناقشة. في العصور الغابرة كان الديالكتيك فن التوصل إلى الحقيقة عن طريق كشف التناقضات في مجادلة الغريم والتغلب على هذه التناقضات. كان ثمة فلاسفة في العصور القديمة اعتقدوا أن كشف التناقضات في الفكرة وتصادم الأفكار المتناقضة كان أفضل وسيلة للتوصل إلى الحقيقة. هذه الطريقة الديالكتيكية في الفكر، امتدت فيما بعد إلى الظواهر الطبيعية، وتطورت إلى الأسلوب الديالكتيكي لتفهم الطبيعة، الأسلوب الذي يعتبر الظواهر الطبيعية في حركة دائمة وتطرأ عليها تغييرات دائمة، ويعتبر تطور الطبيعة نتاجا لتطور الظروف في الطبيعة نتيجة التفاعل المتبادل بين قوى الطبيعة المتضادة.
إن الديالكتيك في جوهره هو النقيض المباشر للميتافيزيقا. "
ثم يمر ستالين الى تقديم المعالم الأساسية الأربعة للديالكتيك كما يلي:

" إن المعالم الأساسية للأسلوب الديالكتيكي الماركسي هي كما يلي:

أ‌) على العكس من الميتافيزيقا، لا يعتبر الديالكتيك الطبيعة تراكما عرضيا من الأشياء، أو الظواهر، لا ترتبط إحداها بالأخرى، أو منعزلة ومستقلة إحداها عن الأخرى، بل يعتبرها كيانا كليا مرتبطا ارتباطا لا ينفصم تكون فيه الأشياء والظواهر مرتبطة ارتباطا عضويا وتعتمد إحداها على الأخرى وتقرر إحداها الأخرى.
وعليه فان الأسلوب الديالكتيكي يعتبر انه لا يمكن فهم أية ظاهرة طبيعية إذا أخذت بذاتها، منعزلة عن الظواهر المحيطة بها، إلى حد أن أية ظاهرة في أي مجال من الطبيعة قد تصبح عديمة المعنى لنا إذا لم تدرس بالترابط مع الظروف المحيطة بها، بل بالانفصال عنها، وانه على العكس من ذلك يمكن تفهم أية ظاهرة وتوضيحها إذا درست في ارتباطها الذي لا تنفصم عراه مع الظواهر المحيطة بها، كظاهرة تقررها الظروف والظواهر المحيطة بها."

اننا نعتقد ان الماركسية النسقية لا تلتزم بهذا المنطق الجدلي الترابطي بسبب الفخ الهيغلي المقلوب نفسه وذلك كما يلي:
يعتبر هيغل ان الفكرة المطلقة – مثل الله - موجودة و مكتفية بذاتها و ان قوانينها موضوعية – لذلك اعتبر ماركس هيغل مثاليا موضوعيا- و لكنها تتحقق في الطبيعة و المجتمع و الفكر. هذا يعني ان هيغل يبدو وكأنه لا يؤمن بالترابط بين الفكرة المطلقة نفسها و اي شيء آخرخارجها وان تبادل التأثير اللآحق يتم دون حاجة "الفكرة المطلقة" نفسها للترابط و التأثير و التأثر المتبادل و انما من باب التحقق الموضوعي في التاريخ الذي تحتاجه الطبيعة و المجتمع و الفكر البشري.
ان هذه الصيغة تشبه مبدأ اكتفاء الله بنفسه دون حاجة لتبادل التفاعل مع غيره و ظهور ذلك التفاعل الحاصل لاحقا كحاجة طبيعية و اجتماعية لتحقيق الارادة الالهية و الخضوع لنواميسها من باب الطاعة و الخضوع.
بعد قلب الجدل الهيغلي يصل ماركس تقريبا الى نفس الاستنتاج العام. فبما ان الطبيعة مكتفية بذاتها و أزلية –مثل الله- فانها ليست في حاجة الى ترابط مع شيء آخر بل ان الترابطات تتم داخلها و تتحقق في المجتمع و الفكر كأمتداد و تواصل ل"جدلية الطبيعة".
ان ما يهمنا هنا ، على عكس ما قد ينتظره البعض، ليس التبرير الفلسفي لوجوب وجود الله بحجة الترابط- و هذا التبرير سيكون غبيا لأنه سيبرر حاجة الله نفسه لشيء آخر للترابط معه- و لكن خطورة تحويل الطبيعة الى ما يشبه الله الواحد الأحد الأزلي المكتفي بذاته،الخ على التفكير الفلسفي و العلمي على السواء.

ان العلم مادي و اجتماعي و هو لا يحتوي فرضية و جود الله في تفسيراته و لكن استنتاج الحاد العلماء و الفلاسفة كشرط ضروري للأبحاث العلمية او للدراسات الفلسفية العلمية والحاد البشر كشرط للتحرر السياسي ،الخ يؤدي الى دوغمائية و تعصب ديني مقلوب حري بالدين الوضعي السان سيموني الجديد.

من ناحية ثانية، يناقض ماركس قانون الترابط و التأثير المتبادل هذا عندما يؤكد على عمومية وأزلية الدور الأساسي الذي تلعبه الترابطات الذاتية للطبيعة ثم الترابطات "الطبيعية" للاقتصاد المكتفية بذاتها و التي هي وحدها تمارس الفعل على غيرها بينما غيرها يمارس رد الفعل فقط و على قاعدة حاجيات الترابطات الطبيعية و الاقتصادية نفسها لا غير.
تظهر خطورة هذا المنطق في الطبيعة نفسها ،كما سنرى لاحقا بالتفصيل ،اذ انه في نظرية المعرفة الماركسية مثلا ليس هنالك ترابط و تفاعل بين الانسان الاجتماعي و الطبيعة بقدر ما هنالك ترابط و تفاعل بين المادة في شكليها "الموضوعية" و "الذاتية" .بين الطبيعة الخارجية و الدماغ الذي هو "أرقى أشكال المادة" فتتحول عملية المعرفة الى انعكاس الموضوعي في الذاتي الفيزيولوجي الذي لا يفعل "سوى" "ترجمة" المعطى الخارجي .

ان عضو الدماغ الفيزيولوجي البشري يكاد يعوض هنا الكائن البشري: الانسان الاجتماعي المفكر وذلك حفاظا على مادية النسق الفلسفي العام.
كما تظهر خطورة هذا المنطق طبعا،وربما أكثر، في المادية التاريخية. فالتأثير المتبادل و الترابط الاقتصادي بين قوى الانتاج و علاقات الانتاج يفسر كل شيء تقريبا، في "آخر التحليل" أو" المطاف"، أما التأثير المتبادل بين الاقتصاد و السياسة و الاجتماع و الفكر فهو ترابط ثانوي و مشروط بالترابطات الداخلية الخاصة بالاقتصاد نفسه.
ان قانون الترابط و التأثير المتبادل الجدلي الماركسي يتنكر لنفسه بسبب النسق الفلسفي العام و المغلق. فلوحة الترابطات ثابتة على مر التاريخ الطبيعي و الاجتماعي و هي ليست جدلية كما ينبغي ان تكون على ما يبدو.

-6-

بعد الترابط يمر ستالين الى القانون الثاني للجدل: قانون الحركة و التحول ، قائلا:

"ب‌) على العكس من الميتافيزيقا، يعتبر الديالكتيك أن الطبيعة ليست في حالة سكون وعدم حركة وجمود وعدم تغير، بل في حالة حركة دائمة وتغير مستمر، حالة تجدد وتطور مستمرين، حيث ينشأ شيء ما جديد ومتطور على الدوام وشيء متفسخ وزائل على الدوام.
وعليه فان الأسلوب الديالكتيكي يتطلب دراسة الظواهر ليس فقط من وجهة نظر علاقاتها المتبادلة واعتماد بعضها على البعض، بل كذلك من وجهة نظر حركتها وتغيرها وتطورها، من وجهة نظر نشوئها وزوالها.
إن الأسلوب الديالكتيكي يعتبر ذا أهمية أساسية ليس ذلك الذي يبدو في اللحظة الراهنة دائم الوجود مع انه قد بدأ فعلا في الزوال، بل ذلك الذي ينشأ ويتطور، حتى لو كان يبدو في اللحظة الراهنة غير دائم الوجود، لان الأسلوب الديالكتيكي لا يعتبر شيئا لا يقهر إلا ذلك الناشئ والدائم التطور.
يقول انجلز :
"الطبيعة كلها من اصغر الأشياء إلى أكبرها، من حبة الرمل إلى الشمس، من البروتيستا (وحيد الخلية) إلى الإنسان، هي في حالة دائمة من النشوء والزوال، في حالة تغير متواصل، في حالة حركة وتغير لا يتوقفان." (ف . انجلز، ديالكتيك الطبيعة)

وعليه يقول انجلز ان الديالكتيك "يأخذ الأشياء وصورها المحسوسة بالجوهر في ترابطها المتبادل، في تسلسلها، في حركتها، في نشوئها وفي اختفائها". (نفس المصدر)"


هل تلتزم الماركسية دائما بمبدأ الحركة و التحول و تطبقه على نفسها قبل كل شيء؟
في معرض انتقادهما لهيغل يذكر ماركس و أنجلز، و الماركسيون من بعدهما ، كيف ان هيغل يخون منهجه بنفسه عندما يدعي ان فلسفته انجزت نهائيا تحقق الفكرة المطلقة في التاريخ و الفكرو يبرر بالتالي نهاية تاريخ المعرفة مثلما يبرر نهاية التاريخ الألماني مع الملك غيوم.
ولكن ماركس يفعل نفس الشيء تقريبا في المعرفة و يؤجل-لا غير- فعل نفس الشيء في التاريخ.
ان المادية الجدلية هي "علم أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر" و كل من ينتقدها خائن و تحريفي و انتهازي يميني أو وسطي أو يساري .انها النظرية الفلسفية العلمية الوحيدة الصحيحة التي ستحقق نهاية "ماقبل التاريخ" – حسب عبارة ماركس الشهيرة في "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"- لتفتح الباب أمام التاريخ الفعلي الذي تمثله الشيوعية التي بها ينتهي التاريخ البشري نهايته الخلاصية السعيدة .
انه اعلان جديد لنهاية الفلسفة و المعرفة باكتشاف " أعم القوانين" و لم يبق سوى اثراء النسق داخليا و تحريم نقده و تفكيكه و تجاوزه نظريا و الاكتفاء بالتطبيق السليم . كما انه وعد باعلان "نهاية ماقبل التاريخ" و بداية "التاريخ الحقيقي" الشيوعي النهائي الذي لن يكون بعده "تحول" أو "تطور" نوعي تماما لأن الانسانية ستحقق ذاتها فيه و في ايديولوجياه الشيوعية العلمية.
انتهى تاريخ المعرفة العام ولكن تبقى تواريخ جزئية و فرعية و أعلن عن بدء نهاية جديدة للتاريخ البشري في آخر مرحلة من التطور ووصلنا الى التأليف النهائي التاريخي و الفكري بعد سلسلة اطروحات و أطروحات مضادة فيهما.

-7-
بعد قانون التحول المستمر يتعرض ستالين الى طريقة حدوث ذلك التحول عبر التراكمات الكمية و التحولات النوعية و يكتب:

"ج‌) على العكس من الميتافيزيقا، لا يعتبر الديالكتيك عملية التطور أنها عملية نمو بسيطة، حيث لا تتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، بل على أنها تطور يجتاز من تحولات كمية تافهة غير محسوسة إلى تحولات أساسية مكشوفة، إلى تحولات كيفية، يعتبرها تطورا لا تحدث التغيرات الكيفيه فيه بصورة تدريجية، بل بصورة سريعة ومفاجئة، تتخذ شكل طفرة من حالة إلى حالة أخرى، لا تحدث بصورة عرضية بل نتيجة طبيعية لتراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية.
وعليه فان الأسلوب الديالكتيكي يعتبر أن عملية التطور يجب تفهمها ليس كحركة في دائرة، ليس كتكرار بسيط لما كان قد حدث فعلا، بل كحركة إلى أمام والى الأعلى، كتحول من حالة كيفية قديمة إلى حالة كيفية جديدة، كتطور من البسيط إلى المركب، من الادنى إلى الأعلى.
يقول انجلز:
"ان الطبيعة اختبار الديالكتيك، ويجب ان يقال لصالح العلم الطبيعي الحديث انه قد زودنا بمواد غنية جدا ومطردة الازدياد يوميا لهذا الاختبار، انه اثبت بهذا ان عملية الطبيعة بالتحليل الاخير ديالكتيكية وليست ميتافيزيقية، على انها لا تتحرك في دائرة ازلية الانسجام تتكرر على الدوام، بل تجتاز غبر تأريخ حقيقي. هنا يجب ان نذكر بالاساس داروين الذي وجه ضربة شديدة للفكر الميتافيزيقي عن الطبيعة ببرهانه على ان العالم العضوي المعاصر، النبات والحيوان، وعليه كذلك الانسان، كله نتاج عملية تطور كانت في تقدم ملايين السنين". (ف . انجلز، ضد دوهرينغ)

ويقول انجلز في سياق وصفه التطور الديالكتيكي كتحول من التغيرات الكمية إلى التغيرات الكيفية:
"في الفيزياء ... يشكل كل تغير تحولا من الكمية إلى الكيفية، نتيجة لتغير كمي من شكل معين من الحركة، اما ان تكون كامنة في الجسم، أو موجهة له.فعلى سبيل المثال، ان درجة حرارة الماء ليس لها في البداية تأثير على الحالة السائلة، ولكن حين ترتفع درجة حرارة الماء السائل أو تنخفض، تحل لحظة حيث تتغير هذه الحالة من التماسك وينقلب الماء إلى بخار في الحالة الاولى والى ثلج في الحالة الثانية ... يلزم حد ادنى من التيار ليجعل سلك البلاتينيوم يتوهج. كل معدن له درجة حرارة انصهار، كل سائل له درجة حرارة انجماد ودرجة غليان معينة تحت ضغط جوي معين، وبقدر ما نستطيع بالوسائل المتوفرة تحت تصرفنا بلوغ درجات الحرارة المطلوبة. واخيرا، كل غاز له النقطة الحرجة التي عندها، تحت الضغط والتبريد المناسب، يمكن تحويله إلى حالة السيولة. ان ما يعرف بالدرجات الثابتة في الفيزياء (الدرجة التي تتحول بها حالة معينة إلى حالة اخرى) هي في اغلب الاحيان تعبير عن النقاط العقدية التي يؤدي (التغيير) الكمي فيها، زيادة أو نقصان الحركة إلى تغير كيفي في حالة الجسم المعين، تتحول نتيجة لها الكمية إلى كيفية." (ديالكتيك الطبيعة)

منتقلا إلى الكيمياء يواصل انجلز:
"يمكن تسمية الكيمياء علم التغيرات الكيفية التي تحدث في الاجسام نتيجة لتغيرات التركيب الكمي. كان هذا معلوما لدى هيغل ... خذوا مثلا الاكسيجين، اذا احتوت الجزيئة على ثلاث ذرات بدلا من ذرتين في الجزيئة الاعتيادية، نحصل على الاوزون وهو جسم متميز جدا في الرائحة والتفاعل عن الاكسيجين العادي. وماذا يمكن القول عن الخواص المختلفة التي يتحذ فيها الاكسيجين مع النيتروجين أو الكبريت وكل مركب منها يشكل جسما مختلفا كيفيا عن الاجسام الاخرى؟" (نفس المصدر)

وأخيرا، لدى انتقاد دوهرينغ الذي وبخ هيغل عن كل كفاءاته ولكنه اختلس منه مقولته المعروفة بان الانتقال من العالم غير المحسوس إلى العالم المحسوس، من مملكة المادة غير العضوية إلى مملكة الحياة العضوية، هو طفرة جديدة، يقول انجلز:
"هذا هو بالضبط خط قياس العلاقات الهيغلية الحرجة التي فيها، في نقاط حرجة معينة، تؤدي الزيادة أو النقصان الكمي البحت إلى طفرة كيفية، فمثلا، في حالة الماء الذي يسخن أو يبرد، حيث تشكل نقطة الغليان ونقطة الانجماد النقطتاه اللتان فيها، تحت ضغط جوي اعتيادي، الطفرة إلى حالة تكتلية جديدة، والتي فيها نتيجة لذلك تتحول الكمية إلى كيفية." (ضد دوهرينغ)"

مثلما تساءلنا سابقا نعيد السؤال: هل تلتزم الماركسية بمبدأ التحولات الكمية و النوعية المتتالية ،غير الدائرية- التكرارية ؟
ولكن هل تجنبت النزعة التطورية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر؟ الاجابة سلبية مع الأسف.
أولا : يكرر عدد كبير من المؤلفين الماركسيين الفكرة التالية حول التاريخ البشري اعتمادا على ثلاثية هيغل : الأطروحة ، نقيض الأطروحة و التأليف. يقولون ان الانسانية مرت بالشيوعية البدائية ( الأطروحة) ثم تعاقبت عليها التشكيلات الطبقية العبودية و الاقطاعية و الرأسمالية ( نقيض الأطروحة) و ستصل الى الشيوعية التي تعتبر التأليف النهائي و ينتهي "ماقبل التاريخ" ليبدأ التاريخ الحقيقي.
ان هذه الفكرة تدل على ان التاريخ البشري ، من المنظور الماركسي، دائري في النهاية اذ سيتوقف ظهور القفزات النوعية و الطفرات فيه و لن تبقى سوى التطورات الكمية داخل المجتمع الشيوعي. كما يمكن ربط هذه الفكرة بما اعتبره عديد الباحثين بمثابة تأسيس ديانة وضعية خلاصية جديدة استفادت من الدين الوضعي السان سيموني الفرنسي وربطته بالجدل الهيغلي .
ان الماركسية تبدو و كأنها تنطلق من "الجنة الأولية" – عدن الشيوعية البدائية -حيث كان الانسان يتميز بطيبة طبيعية شيوعية أولية ثم عرف "الخطيئة الأولى" بظهور الملكية الخاصة . وبخروجه من الجنة الأولى عرف الانسان المجتمع العبودي ثم الاقطاعي فالرأسمالي حيث لعنة الظلم و الاستغلال و سيصل الى "الخلاص الأخير" في "الجنة الموعودة" في المجتمع الشيوعي. ان هذا المجتمع هو الذي فيه تتحقق كل الحاجيات (من كل حسب عمله ولكل حسب حاجته) و تنتفي كل التناقضات (الا التناقض بين الانسان و الطبيعة) اذا اتبع "الدين الوضعي الحق" الذي هو الماركسية و "علم أصول الدين الوضعي" الذي هو المادية الجدلية و المادية التاريخية" أي"علم اعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر" و كان من شعب الله المختار "البروليتاريا" و انتظم في "الفرقة الناجية" الوحيدة التي هي الحزب الشيوعي.
هكذا يختلط هيغل بالمسيحية و يطعمان ب ج.ج روسو و طيبة الطبيعة البشرية الأولية و بسان سيمون و "دينه الوضعي" كي نصل الى" قفزة نوعية" نظرية لن توجد بعدها طفرات أو قفزات علمية او فلسفية أخرى و عملية "الشيوعية" لن توجد بعدها تشكيلات اقتصادية-اجتماعية.
يبدو التاريخ هنا سائرا بحتمية تامة نحو نهايته السعيدة و هذا ما يطرح مشكلا آخرهو التالي.
ثانيا : المشكل الثاني هو مشكل النزعتين الحتمية و التطورية الخطية تقريبا. صحيح انه من الناحية النظرية يكرر ماركس و أنجلز كثيرا فكرة التطور اللولبي الهيغلية و لكن سجن هيغل به مشكلة النسق العام الذي يرى في ان الفكرة المطلقة تسير نحو تحققها الحتمي في التاريخ لاكتمال التأليف أما سجن ماركس فيختلف في ماديته فقط عن سجن هيغل.
ان هذا السجن، و ان كان "ماديا" أكثر و"مستقبليا" - من الناحية التاريخية- مقارنة مع حكم الملك غيوم المتزامن مع حياة هيغل ، يبقى في "نهاية التحليل" هو نفسه من حيث منطقه النظري المنهجي الموروث عن كوندورسيه و هيغل و عن أو غست كونت و سان سيمون وغيرهم.
ان التطور "تصاعدي" من البسيط الى المركب ومن الأدنى الى الأعلى و "الى الأمام" و هو حتمي بحكم "قوانين موضوعية" الكونية الصالحة لكل المجتمعات و لا سبيل الى التراجع الى الوراء أبدا.
ان ما عمق هذا المسار الفكري عند ماركس هو عمل لآمارك ثم داروين خاصة اذ كما قال ستالين: "... هنا يجب ان نذكر بالاساس داروين الذي وجه ضربة شديدة للفكر الميتافيزيقي عن الطبيعة ببرهانه على ان العالم العضوي المعاصر، النبات والحيوان، وعليه كذلك الانسان، كله نتاج عملية تطور كانت في تقدم ملايين السنين"
و ان المشكلة ليست في داروين نفسه- الذي يتنكر له انجلز في موضوع آخر سنراه لاحقا- بل في اسقاط النموذج الدارويني في علم الحياة على التاريخ البشري بحيث تمر كل المجتمعات حتما بنفس المراحل التطورية لتصل الى نفس النتيجة . كأنننا بالتاريخ يسير الى غاية محددة سلفا هي السعادة البشرية النهائية في الشيوعية. بل ان أنجلز في "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" وصل به الأمر الى تطبيق التصور التطوري على الماضي التاريخي نفسه عند قبول التصنيف التطوري للشعوب " الوحشية" و "البربرية" و "المتمدنة" .هذا التصور الذي كان موجودا عند هيغل فلسفيا و غذاه أنجلز بأبحاث مورغان الاناسية و الذي هو تصنيف تبريري استعماري ظهرت نتائجه مثلا حتى في مواقف ماركس من الأمير عبد القادر الجزائري و مقاومته للراسمالية الاستعمارية الفرنسية مثلا.

-8-
بعد قانون التطورات الكمية و النوعية يمر ستالين الى ما يسمى " المحتوى الداخلي " للتطور و المرتبط بما يسمى "قانون التناقض" و يكتب:


"د‌) على العكس من الميتافيزيقيا تعتبرالطريقة الديالكتيكية ان التناقضات الداخلية ملازمة في جميع الاشياء والظواهر في الطبيعة، لانها جميعا تحتوي على جانبيها السلبي والايجابي، جانبيها الماضي والمستقبل، شيء زائل وشيء متطور، وان الصراع بين هذين النقيضين، الصراع بين القديم والجديد، بين ما هو زائل وما هو مولود، بين ما يجري اختفاؤه وما يجري تطوره، يشكل المحتوى الداخلي لعملية التطور، المحتوى الداخلي لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية.
وعليه فإن الأسلوب الديالكتيكي يعتبر أن عملية التطور من الادنى إلى الاعلى لا يحدث بصورة كشف منسجم للظواهر، بل بصورة كشف عن التناقضات الملازمة في الاشياء والظواهر، بصورة "صراع" الميول المتناقضة التي تعمل على اساس هذه التناقضات.
يقول لينين: "ان الديالكتيك بمعناه الاعتيادي هو دراسة التناقضات في جوهر الاشياء بالذات" (لينين، ملاحظات فلسفية، ص 263 الطبعة الروسية)
واكثر من ذلك:
"ان التطور هو صراع الاضداد" (لينين، مختارات، الطبعة الانجليزية، م 11 ص 81 - 82)
هذه باختصار مبادئ ومعالم الاسلوب الديالكتيكي الماركسي."

ماذا عن قانون التناقض وكيف فهمته الجدلية الماركسية اذن؟

السؤال الأول الواجب طرحه هنا هو التالي: لماذا يعتبر الماركسيون "دراسة التناقضات في جوهر الأشياء بالذات" معنى الديالكتيك الاعتيادي؟
و السؤال الثاني هو لماذا يعتبرون تارة ان "التطور هو صراع الأضداد" و طورا، كما كتب ستالين نفسه يقول، ان التناقض " يشكل المحتوى الداخلي لعملية التطور، المحتوى الداخلي لتحول التغيرات الكمية الى تغيرات كيفية"؟
ان هيغل حسب رأينا هو من ورط ماركس و أنجلز و الماركسيين جميعا في هذا الرأي الذي مفاده ان دراسة قانون التناقض هو معنى و "جوهر الجدل" بينما بقية القوانين تبدو وكأنها " ظاهرية" لاغير وهو ما نتج عنه اعتبار الحركة التطورية –الكمية و النوعية- مرادفة ل "صراع الأضداد".
ان هذه النظرة نفسها غير جدلية اذ بأي منطق تعتبر قوانين الترابط(التأثير و التأثر) و الحركة الدائمة و التحول الكمي و النوعي ثلاثة قوانين ثانوية و ظاهرية لقانون جوهري و أساسي واحد هو قانون " وحدة و صراع الأضداد"؟
ان هيغل هو السبب على ما يبدو و ذلك بسبب ما يلي:
ينطلق هيغل في تحليله من "الفكرة المطلقة" التي هي الموجود الأنطولوجي الأول الذي سيتحقق في الطبيعة و التاريخ و الفكر لاحقا . و بما ان الفكرة المطلقة وجدت لوحدها –مثل الله- فلا بد من البحث الفلسفي عن عامل ذاتي يجعلها تتخارج و تتحقق في غيرها من الموجودات حتى لا تبدو الفلسفة الهيغلية مجرد تكرار تأملي "لا لفكر الخالق اليهودية –المسيحية- الاسلامية و لا لفكرة "الدافع الأول" الخارجي الميكانيكية كما هو الحال عند فلاسفة آخرين. و هذا ما يجعله يعتبر ان التناقضات الداخلية هي "جوهر الجدل " و معناه الحقيقي و كل ماعدا ذلك ظواهر.
بقلب الجدل "على قدميه" يجد ماركس نفسه امام نفس المشكل فيحله بنفس الطريقة ناسيا ان الطبيعة متنوعة و متعددة و متداخلة المستويات و الظواهر و هي ليست "الفكرة المطلقة" الهيغلية المجردة، اللاواقعية و ناسيا ان المجتمع هو كذلك بل وأكثر تعقيدا ربما.
انه من غير الجدلي تماما ان تعتبر قوانين الترابط و الحركة و التراكمات الكمية المؤدية الى القفزة النوعية مجرد قوانين ثانوية لا تفسر سوى المظهر الخارجي للحركة الطبيعية أو الاجتماعية.
يورد ستالين أعلاه مقتطفا من أنجلز في "ضد دوهرينغ" حول نقاط غليان الماء و تبخره أو برودته و تجمده و لا ندري كيف سيفسر ذلك جدليا دون الحرارة أو البرودة و ما الذي يجعله يعتبر العلاقات بين ذرات هباءة الماء "جوهر الحركة الداخلي " بينما تـاثير الحرارة و البرودة مجرد "مظهر خارجي" مع العلم انه يفسر في الأساس تغيرا مظهريا خارجيا بين حالات التجمد و السيولة و التبخر الغازي للماء الذي يحافظ في كل حالاته الجليدية و السائلة و الغازية على نفس التركيبة الكيميائية الداخلية مكتفيا بتغييرالمواقع و المسافات بين الهباءات لا غير عند الانتقال من حالة الى اخرى؟
من ناحية ثانية لا بد من التذكير ان هذا المثال الذي يذكره الماركسيون دائما انما يتعلق بالسائل الوحيد الذي يعرف الحالات الثلاث للمادة تلقائيا داخل الطبيعة بتغير درجات الحرارة و ظروف الضغط الجوي و لسنا نعرف لماذا يعتمد مثال هذه المادة الاستثنائية للتدليل على قانون عام؟

من ناحية ثالثة ، يمكن أن نسأل كيف يفسر لنا الماركسيون تطور المجتمع الشيوعي الخالي من التناقضات الداخلية باعتبار ان التصور الماركسي عنه يقول انه لن يبقى سوى "التناقض مع الطبيعة" ؟
فهل يبطل مفعول الجدل وقتها بتحققه النهائي و لن يبقى سوى ما ذكره ستالين أعلاه موردا عبارة سلبية و انتقدها بوصفها معادية للجدل و مفادها ان " الأسلوب الديالكتيكي يعتبر أن عملية التطور من الادنى إلى الاعلى لا يحدث بصورة كشف منسجم للظواهر" ؟
هل تصبح التناقضات الخارجية هي جوهر الجدل الذي يصبح "كشفا منسجما" عن الداخل الاجتماعي الفردوسي؟
و حتى قبل المجتمع الشيوعي ، لماذا يرفض الماركسيون – والستالينيون تحديدا- القبول بالتناقضات داخل الحزب مثلا و هم الذين يكررون ان الجدل هو "التناقض في ذات جوهر الأشياء"؟
أليس يدل هذا على ان الماركسية "تخون" الجدل -الذي تقدمه على انه "علم اعم ظواهر الطبيعة و المجتمع و الفكر" - و"في معبده" أو "بيته" الحزبي بالذات ؟


-9-

كيف يطبق ستالين مبادئ الجدل على الحياة الاجتماعية و هل ستظهر الاخلالات التي ذكرناها قبل قليل؟
لنقرا الفقرة الطويلة التالية:
" من السهل ان نفهم عظم اهمية امتداد مبادئ الاسلوب الديالكتيكي على دراسة الحياة الاجتماعية وتاريخ المجتمع، وعظم اهمية تطبيق هذه المبادئ على تاريخ المجتمع وعلى الانشطة العملية لحزب البروليتاريا.
اذا لم تكن ثمة ظواهر منعزلة في العالم، اذا كانت جميع الظواهر متبادلة الاتصال ومتبادلة الاعتماد، فمن الواضح ان كل نظام اجتماعي وكل حركة اجتماعية في التاريخ لا يجب تثمينها من وجهة نظر "العدل الازلي" أو اية فكرة اخرى مسبقة، كما يفعل المؤرخون في احيان كثيرة، بل من وجهة نظر الظروف التي انشأت ذلك النظام أو تلك الحركة الاجتماعية والتي ترتبط بها.
يكون نظام العبودية عديم المعنى، أحمقا وغير طبيعي في الظروف الحديثة. الا انه في ظروف تحلل النظام المشاعي البدائي، يكون نظام العبودية ظاهرة مفهومة تماما وطبيعية نظرا إلى انه يمثل تقدما بالنسبة لنظام المشاعية البدائية.
ان المطالبة بجمهورية برجوازية ديمقراطية حين كانت توجد القيصرية والمجتمع البرجوازي، كما، يمكننا القول، في روسيا سنة 1905، كانت مطالبة مفهومة وصحيحة وثورية، اذ ان الجمهورية البرجوازية في ذلك العهد كانت تعني خطوة إلى امام. اما الان، في ظروف الاتحاد السوفييتي، تكون المطالبة بجمهورية ديمقراطية برجوازية عديمة المعنى ومضادة للثورة لان الجمهورية البرجوازية تكون خطوة تراجعية بالقياس إلى الجمهورية السوفييتية.
كل شيء يعتمد على الظروف والزمان والمكان.
واضح انه بدون النهج التاريخي تجاه الظواهر الاجتماعية يصبح وجود وتطور علم الاجتماع مستحيلا، اذ ان نهجا كهذا فقط يقي علم الاجتماع من ان يصبح غابة من الاحداث الطارئة وجمعا من اكثر الاخطاء حماقة.
واكثر من ذلك، اذا كان العالم في حالة حركة دائمة وتطور مستمر، اذا كان زوال القديم ونشوء الجديد قانونا للتطور، فمن الجلي الواضح انه لا يمكن ان يوجد نظام اجتماعي "لا يتغير" أو تكون ثمة "مبادئ ازلية" للملكية الخاصة والاستغلال وتكون "افكار ازلية" لخضوع الفلاح للملاك، أو العامل للراسمالي.
وعليه يمكن احلال المجتمع الاشتراكي محل المجتمع الراسمالي، بالضبط كما كان بالامكان في عهد النظام الاقطاعي احلال النظام الراسمالي محل النظام الاقطاعي.
وعليه يجب الا نوجه اتجاهاتنا على طبقات المجتمع التي لم تعد تتطور، رغم انها تشكل في الحال الحاضر القوة السائدة، بل إلى الطبقات التي تتطور ولها المستقبل امامها، حتى لو لم تكن في الحال الحاضر تشكل القوة السائدة.
في ثمانينات القرن المنصرم، في فترة الصراع بين الماركسيين والناروديين (الشعبيين)، كانت البروليتاريا الروسية تؤلف اقلية ضئيلة من السكان، بينما كان الفلاحون يشكلون الاغلبية الساحقة من السكان. الا ان البروليتاريا كانت تتطور كطبقة، بينما كان الفلاحون كطبقة في حالة تفكك. ولان البروليتاريا فقط كانت متطورة كطبقة وجه الماركسيون اتجاهاتهم إلى البروليتاريا. ولم يكن الماركسيون على خطأ لان البروليتاريا كما نعلم نمت بالتالي من قوة ضئيلة إلى قوة تأريخية وسياسية من الدرجة الاولى.
وعليه، لكي لا يخطئ المرء في السياسة، عليه ان ينظر إلى الامام لا إلى الوراء.
واكثر من ذلك، اذا كان الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية سريعة مباشرة قانونا للتطور، فان من الواضح الجلي ان الثورات التي تعلنها الطبقات الخاضعة للاستغلال هي ظاهرة طبيعية وحتمية.
وعليه فان الانتقال من الراسمالية إلى الاشتراكية، وتحرير الطبقة العاملة من نير الراسمالية لا يمكن تحقيقه بتغيرات بطيئة، بالاصلاحات، بل بتغيير كيفي للنظام الراسمالي، بالثورة.
وعليه لكي لا يخطئ المرء في السياسة، عليه ان يكون ثوريا لا اصلاحيا.
واكثر، اذا كان التطور يجري عن طريق كشف التناقضات الداخلية، عن طريق التصادم بين القوى المضادة على اساس هذه التناقضات ومن اجل التغلب على هذه التناقضات، فان من الجلي الواضح ان الصراع الطبقي للبروليتاريا ظاهرة طبيعية جدا وحتمية.
وعليه يجب الا نستر تناقضات النظام الراسمالي بل ان نكشفها ونزيل القناع عنها. علينا الا نحاول وقف الصراع الطبقي بل ان نواصله حتى نهايته.
وعليه، لكي لا يخطئ المرء في السياسة، عليه ان يتبع سياسة طبقية بروليتارية لا تساومية، لا سياسة اصلاحية للانسجام بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية، لا سياسة الاصلاحيين في "نمو الراسمالية إلى الاشتراكية".
هذا هو الاسلوب الديالكتيكي الماركسي لدى تطبيقه على الحياة الاجتماعية، على تاريخ المجتمع."

بعد كل التحليل و الاشارات الى قوانين الجدل الأربعة وربطها بالتجربة الاجتماعية و بروسيا مثلا يصل ستالين الى عبارة " وعليه" يمكن "احلال الاشتراكية محل الراسمالية" و لابد من التعويل على الطبقات التي" لها المستقبل" ليصل الى عبارة " علينا الا نحاول وقف الصراع الطبقي بل ان نواصله حتى نهايته" و السؤال الديالكتيكي هو : وماذا بعد "نهايته"؟
يقف ستالين عند الاشتراكية و يبدو انه في الشيوعية سوف لن نحتاج الى الديالكتيك الداخلي الحالي بل الى "ديالكتيك الظواهر المنسجمة" داخليا وغير المتناقضة سوى مع الخارج الطبيعي.
الديالكتيك وقتها سيصبح "دراسة الانسجام- وليس التناقض- في ذات جوهر الأشياء" و المحتوى الداخلي للحركة سيصبح الانسجام و ليس صراع الأضداد .اما الصراع فسيكون "خارجيا" فقط و مع الطبيعة. و لا نفهم حتى لم هذا الصراع الخارجي مع الطبيعة طالما ان الماركسية تعدنا بأننا سنعرف قوانينها و لن نأخذ منها سوى ما نحتاجه ولن نستنزفها مثلما تفعل البورجوازية؟
قال ستالين أعلاه:"... لا يمكن ان يوجد نظام اجتماعي "لا يتغير" أو تكون ثمة "مبادئ ازلية" للملكية الخاصة والاستغلال وتكون "افكار ازلية" لخضوع الفلاح للملاك، أو العامل للراسمالي."
و يبدو انه مع الشيوعية فقط سنعرف النظام الاجتماعي الذي لا يتغير نوعيا و سنعرف "مبادئ ازلية" ولكن "للملكية الجماعية" و "افكارا أزلية" مادية جدلية و مادية تاريخية .
أليست هذه مفارقة جدلية و تاريخية؟

***

هذا بخصوص قوانين الجدل الأربعة و كان بالامكان التعرض الى "مقولات الجدل" مثل الجوهر و الظاهر ، المضمون و الشكل ، السبب و النتيجة ، الضرورة و الصدفة ، العام و الخاص ، المجرد و المحسوس، و غيرها. و بما ان ستالين أهملها فسنتبعه حفاظا على نيتنا في تتبع هذا الكراس لا غير مع اننا سنشير احيانا – وقد فعلنا ذلك سابقا- الى مثل هذه المقولات.

وقبل المرور الى المادية لا بد لنا من العودة لتقديم مايجب من استنتاجات اساسية يستحسن الخروج بها من هذا الجزء الأول.

أولا : الديالكتيك ليس علما و لا يجب ان يطمح لذلك. انه "قواعد منهج" –حسب تعبير دوركهايم" او مبادئ واعية في" باراديغم" حسب تعبير طوماس كوهن . انه مجموعة قواعد يفضل ان يتسلح بها الانسان وهو يمارس - يفكر و يفعل – حتى لا تكون ممارسته عمياء أو حسية صرفة أو تجريبية صرفة .و لكنه ليس علما أيضا حتى لا تتحول ممارساته العلمية التجريبية و الحسية أو العقلية أو الاجتماعية الخصوصية الى مجرد وسائل لتأكيد صحة المنهج أيضا مما ينجر عنه حماقات كتلك التي ارتكبها أنجلز في الرياضيات عندما أقحم عنوة سالب الجذر التربيعي كنقيض لموجبه مما جعل علماء الرياضيات يحتجون عند ماركس و يجبرون انجلز على التراجع.
ان الديالكتيك يبقى فلسفيا و يحاول الاقتراب الدائم من العلمية بالاستفادة المستمرة مما تقدمه العلوم المختلفة و لكنه عبثا يحاول التحول الى "علم العلوم" او "علم فوق العلوم" متوهما اكتشاف "أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر".
ان التعريف الماركسي للجدل يناقض الجدل نفسه في مسألة علاقة الخاص بالعام و هو تعريف غير جدلي للجدل. فاذا كانت العلوم المتخصصة نفسها لا تدعي الاكتشاف النهائي لقوانين ميدانها الخاص نفسه فكيف بالجدل يدعي اكتشاف أعم القوانين في" الطبيعة و المجتمع و الفكر".
الديالكتيك يبقى فلسفيا و تبقى الفلسفة ضرورية للفكر البشري اذن. عبثا يحاول الديالكتيك الماركسي سجن العلم و التاريخ البشريين في قفصه النسقي "العلومي" لأن "الحقيقة وحدها ثورية" كما يكررذلك الماركسيون أنفسهم، و لعل مصير ديالكتيك هيغل خير دليل.

ثانيا: قلب الجدل و "ايقافه على قدميه بعد ان كان واقفا على راسه" عند هيغل لا يحل المشكلة بل – في نهاية التحليل - يقلبها لاغير.
ان الجدل ليس كائنا بشريا حتى نطبق عليه مجازا مثل هذا في نزعة تجسيدية –انتربومورفية- كتلك التشبيهات الحرية بالتفكير الديني. ان المهم هو نزع النسقية الفلسفية المنغلقة و المتعصبة عنه و تحويله الى نسق فلسفي يحاول الاقتراب من التفكير العلمي و من "روح التفكير العلمي الجديد" و المعاصر حسب عبارة غاستون باشلارالشهيرة.
ان الديالكتيك لا بد ان يسلك سلوك العلم في طرح المسائل الأساسية و ذلك بتجنب اعتماد مسلمات فلسفية اولية ، موروثة عن الميتافيزيقا القديمة و عن الدين، ينطلق منها ما امكن. عليه معالجة مسائل الأنطولوجيا من خلال علوم تاريخ الطبيعة و المجتمع و معالجة مسائل الابستيمولوجيا من خلال العلوم المساعدة على ذلك مثل الفيزيولوجيا و النورولوجيا و مختلف العلوم الانسانية و الاجتماعية المهتمة بالمعرفة مثل الانتروبولوجيا و علم الاجتماع و علم النفس ،الخ ، و التي تؤكد جميعها الطابع الايكو-الفيزيو- اجتماعي – التاريخي العام للمعرفة البشرية.
ان المعرفة نتاج تفاعل الانسان مع الطبيعة و المجتمع و هي خلاصة تفاعل الجسد (بدماغه و جهازه العصبي و غيرهما) مع المحيط الطبيعي من ناحية و الاجتماعي ( بمعناه العام النفسي و الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الثقافي) من ناحية ثانية و ذلك في التاريخ. وان عملية التفاعل هذه معقدة بحيث يفترض في الجدل ان يكتسب الصفات الجديدة التالية الآن.

ان الديالكتيك العلمي المعاصر لا بد ان يكون متواضعا لا يدعي امتلاك الحقيقة لوحده –بوصفه منهج المناهج- بل ان يتفاعل بتواضع علمي و يستفيد من كل المنهاهج الأخرى مهما كانت مختلفة عنه و يتجنب الواقف المتعصبة من تلك المناهج كما كان يفعل المنهج المادي الجدلي.
كما ان الديالكتيك لا بد ان يكون منفتحا – حسب عبارة كارل بوبر- على العلوم مهما دحضت من بديهيات و نسبيا – كما يوحي بذلك كل ما استنتج في فلسفة العلوم بعد اكتشاف نظرية النسبية من قبل انشتاين – فلا يدعي الآطلاقية . كما يجب أن يكون حواريا تواصليا – اذا أردنا الاستفادة من مصطلحات مدرسة فرانكفورت و الديالوجيسم الحدييث و المعاصر - وليس سجاليا يهدف الى الانتصار في الحوار بكل الطرق. كما يجب أن يكون وتاريخيا و مؤقتا لا يدعى الكمال و لا الأزلية . و اذا لم يكن كذلك لن يصبح ديالكتيكا مناسبا للمرحلة المعاصرة في تقدم العلم و التاريخ البشريين بل سيبقى نقيضا نسقيا للجدل العلمي موروثا عن الحقل الابستيمولوجي لعصور علمية و فلسفية سابقة.

ثالثا: قوانين الجدل - و مقولاته - ليست قوانينا الا بصورة فلسفية عامة و تختلف عن القوانين العلمية الخاصة. انها أقرب الى القواعد و المبادئ المنهجية الذاتية الساعية الى التنسيق المنطقي بين القوانين العلمية المكتشفة باستمرار و التطابق مع قوانين العلم تلك الساعية هي نفسها الى الموضوعية العلمية .
ليست قوانين الديالكتيك قوانينا بالمعنى العلمي المخصوص للكلمة و لكن عليها ألا تناقض تلك القوانين العلمية . ان الديالكتيك الذي يتوهم انه علم اكتشف أعم القوانين يسهل تحوله الى سجن للعلوم المتخصصة و للتفكير الفلسفي و التفكير عموما لأنه يصبح نسقا منغلقا منتهي التكوين يناقض "لبه الجدلي " نفسه فيصبح مهددا بالانفجار في اية لحظة نتيجة تقدم العلوم و التاريخ .
ان عودة سريعة لقوانين الديالكتيك الأربعة التي ذكرها ستالين قد تكفي لبدء انارة المسألة .
- قانون التأثير و التأثر أو الترابط الشامل لا بد من تنسيبه جدليا عبر دراسة الجدل بين الانفصال و الترابط ، بين الانعزال و التأثير و التأثر. ان الاكتفاء بالتركيز على الترابط قد يسيء الى البحث العلمي نفسه ، هذا البحث الذي يحتاج احيانا كثيرة الى تعمد عزل الظاهرة عن غيرها من الظواهر – ولو منهجيا أو مخبريا- للتمكن من دراستها المخصوصة و هي دراسة تعطي نتائج مهمة جدا ، ولكنها تبقى محدودة، تؤخذ بعد ذلك بعين الاعتبار في دراسة الظاهرة في ترابطها الواقعي العادي مع الظواهر الأخرى .

- قانون الحركة يحتاج الى تنسيب جدلي هو الآخر، ليس في علاقة الحركة بالسكون و بأشكال الحركة المختلفة حيث ابدع الهيغليون والماركسيون على السواء ولكن، في مسألة أخرى. الحركة في الجدل الماركسي ترتبط قبل كل شيء بالتناقض الداخلي وهذا يجعل دراسة الحركة المرتبطة بالتفاعل و الترابط بين الظواهر و كأنها دائما ثانوية. ان هذا التعميم خطير جدا على الفكر العلمي و على الديالكتيك عند دراسة اشكال محددة من الحركة في مستويات محددة من الواقع او في مراحل معينة من التاريخ .فمن غير الجدلي تماما أن توصف الحركة الميكانيكية في المكان في النظام الشمسي بنفس منطق توصيف حركة التاريخ الاجتماعي و كأن التناقض في كليهما يلعب نفس الدور باعتباره "جوهر الحركة الداخلي" .ان التعميمات مهمة جدا في العلم و الفلسفة و لكن التعميم الجدلي يجب ان يكون جدليا بحيث يراوح بين العام و الخاص و بين الجزئي و الكلي و يدرس تفاعلهما دون السقوط في تعميم قوانين جزء من الواقع الخاص على عموم الواقع الذي هو "وقائع" متعددة و متنوعة تتطلب جدليات أو جدلا متنوعا قدر الامكان .

- التطور الكمي و القفزة النوعية هو القانون الثالث للجدل الماركسي و تكفي الملاحظة التالية للدعوة الى تنسيب هذا القانون أيضا. ان التصور الماركسي يفهم التطور من البسيط الى المركب و من الأسفل الى الأعلى و من "الوراء" الى الأمام في "خط لولبي" ولكنه متقدم دائما و تقدمي- تطوري بالنسبة للتاريخ البشري مثلا. ان نظريتي الانفجار الكبير و الانسحاق الكبيرفي الفيزياء الفلكية مثلا تبينان تصورا آخر للحركة و التطور و التراكمات الكمية و النوعية اذ هنالك جدلية بين التراكم و التراجع و بين الانفجار المولد للطفرة النوعية و الانسحاق المولد للموت و يمكن الاستفادة من هذا في نقد التصور التطوري و "التقدمي" للتراكمات و القفزات. كما ان البيولوجيا الحديثة بدأت تتساءل منذ مدة عن مدى صحة القول بأفضلية الكائنات المركبة –المعقدة و تطورها مقارنة بالكائنات بسيطة التكوين. اما في الميدان الانساني فان العلوم و منذ عقود ( وفي ألمانيا نفسها مع المدرسة التاريخية الألمانية ريكرت، زيمل، فيبر في البداية ثم مدرسة فرانكفورت و غيرها ) قد وضعت موضع تساؤل التصورالوضعي و الحتمي و التطوري الاستعماري عند المقارنة بين الشعوب و حضاراتها و قد أدى ذلك الى تصورات جديدة يعود الفضل فيها في فرنسا مثلا الى أمثال ليفي شتراوس و جورج غورفيتش و جورج بالندييه و الان توران و بيار بوردو و في ايطاليا يرجع الى غرامشي تم تلامذته النقديون و صولا الى انطونيو نيغري و في بريطانيا و أمريكا حيث تطورت أعمال اليسار الجديد و أوصلت الى اكتشافات مهمة بل وفي الاتحاد السوفياتي السابق الذي وأدت فيه الماركسية اللينينية الأصولية محاولة نيكولاي بوخارين في الربط التجديدي بين الماركسية وعلم الاجتماع بأن أجبرته على تقديم نقده الذاتي عن الكتاب و وصل الأمر لاحقا الى اعدامه من قبل الحكم الستاليني.

- القانون الرابع هو قانون التناقض ، والتناقض داخل جوهر الشيء هو ف الماركسية –الهيغلية جوهر الجدل كما ذكرنا سابقا، و يمكن تنسيبه جدليا ليس في علاقة بالوحدة اذ ان الماركسيين يتحدثون عن وحدة و صراع الأضداد بل في علاقة بالانسجام نفسه الذي ذكره ستالين أعلاه. ان مفهوم وحدة الأضداد الماركسي يقتصر على الاشارة الى تواجد النقيضين داخل الشيء نفسه و من ثم يركز على صراعهما اما مفهوم الانسجام فيشير الى ان عناصر الشيء الواحد ليست بالضرورة متناقضات متصارعة فقط ، نصنف تناقضاتها الى تناقضات اساسية و ثانوية ،تناحرية و غير تناحرية.ان عناصر الشيء قد تكون منسجمة أيضا تتبادل التأثير دون تناقض وصراع و تحدث حركتها –على الأقل جزئيا- بسبب التفاعل الايجابي المتبادل و ليس التناقض و الصراع.ان عدم الانتباه لمسألة الانسجام يفرغ قانون الترابط من جزء من محتواه لأن التفاعلات كلها تصبح قائمة على مبدأ التناقض.ان الانسجام لا يلغي التناقض و لكن قد يوجد الى جانبه داخل نفس الشيء و من المهم الانتباه الى هذه الجدلية التي تساعد على فهم مظهر من مظاهر الوجود الطبيعي و الاجتماعي يلحظه الجميع دون عناء و يتجاهله نسق الديالكتيك الماركسي خوفا على العقيدة ولا يصرالماركسيون المتشددون عليه الا في أحزابهم و سلطهم التي يحرصون ان تكون وحدة منسجمة لا تشوبها التناقضات الداخلية الا استثنائيا وسرعان ما يحلونها بالعنف الرمزي أو المادي.

-10-

من الجدلية نمر مع ستالين الآن الى المادية . يكتب:

" اما المادية الفلسفية الماركسية، فهي في الاساس الضد المباشر للمثالية الفلسفية.
2) ان المعالم الاساسية للمادية الفلسفية الماركسية هي كالاتي:

أ‌) على العكس من المثالية التي تعتبر العالم تجسيدا "لفكرة مطلقة"، "لروح كونية" "للوعي" تعتبر مادية ماركس الفلسفية ان العالم بذات طبيعته، مادة.وان الظواهر المتعددة الاوجه للعالم تؤلف اشكالا مختلفة لمادة في حركة. وان الترابط المتبادل والاعتماد المتبادل للظواهر الذي يحققه الاسلوب الديالكتيكي، هو قانون تطور المادة المتحركة. وان العالم يتطور وفقا لقوانين حركة المادة بلا حاجة إلى "روح كونية".
يقول انجلز:
" ان النظرية المادية العالمية هي ببساطة ادراك الطبيعة كما هي، بدون اي تحفظ" (لودفيغ فورباخ)
لدى التحدث عن وجهات النظر المادية للفيلسوف القديم هرقليستس الذي اعتبر ان "العالم، الكل في واحد، لم يخلقه اي اله أو اي انسان، بل انه كائن وسيبقى كائنا إلى الابد، يندلع اندلاعا منتظما ويخبو بانتظام" علق لينين قائلا "عرض جيد جدا لبدايات المادية الديالكتيكية". (ملاحظات فلسفية، طبعة روسية، ص 318) "

يعرف ستالين المادية الفلسفية الماركسية هنا بأنها تلك النظرة التي تعتبر العالم كله و بطبيعته مادة و بأن كل مظاهره هي مظاهر مختلفة للمادة في أشكالها المختلفة دون حاجة الى "الفكرة المطلقة" او الله او أية "محرك اول" او اضافة اخرى. ان وحدة العالم تكمن في ماديته و ما تنوعه سوى تنوع في اشكال المادة المختلفة.
ان هذا التعريف يحتمل الملاحظات النقدية التالية:
-أولا:هو تعريف فلسفي كلاسيكي لا يزال سجين الفلسفة الكلاسيكية و طابعها الميتافيزيقي التأملي الذي ورثته عن الفلسفات الدينية و لكن "بالمقلوب" مما حوله الى تعريف مادي متشدد يشترط الالحاد كمسلمة .
ان الموقف من وجود او عدم وجود الله هو موقف فلسفي تقليدي يقحم الايمان أو عدم الايمان بالله داخل الفكر العلمي نفسه في حين ان التفكير العلمي ،و الفلسفي العلمي، يفترض الا يبحث أصلا في المسألة لأن وجود الله أو عدم وجوده مسألة ميتافيزيقية لا يمكن للعلم لا اثباتها و لا دحضها.
كل ما يستطيع العلم فعله هنا هو تفسير و تفهم التصورات المختلفة التاريخية عن الله أو الآلهة كما يقدمها البشر أما ان تقدم النظريات العلمية او الفلسفية العلمية نفسها على أساس انها مؤمنة أو ملحدة فهذا تعد على الفكر العلمي نفسه باعتباره لا يبحث في ما وراء الطبيعة بل في تصورات الناس عن هذا الماوراء- طبيعي لا غير.
بعبارة أخرى ، ان العلم و الفلسفة العلمية هما ملحدان نظريا ومنهجيا فعلا طالما تركز البحث حول الطبيعة وحول دراسة الأشكال التاريخية للتدين البشري نفسها و لكنهما لاأدريان نظريا وان شئنا علمانيان منهجيا اذا انتقل التفكير الى ماوراء الطبيعة.
ان العلماء ملحدون و لاأدريون و مؤمنون عقيديا و نظريا ولكنهم لا يمارسون العلم أو التفلسف العلمي الا اذا كانوا علمانيين و ملحدين نظريا و منهجيا لأن البحث العلمي و الفلسفي العلمي يحلل الظواهر الطبيعية و الاجتماعية بالعوامل الطبيعية و الاجتماعية و تفاعلهما دون ادخال اية قوة ميتافيزيقية في حسابهما الا بالتعرض لخطر مخالفة ابسط قواعد العلم.
أما خارج ميدان العلم و التفلسف العلمي فان العالم أو الفيلسوف هو انسان مثل غيره و قد يكون مؤمنا أو لاأدريا أو ملحدا وذلك لأسباب مختلفة و عديدة بقدر اختلاف و تعدد الأمزجة الفردية للعلماء و الفلاسفة حسب حالاتهم النفسية والثقافية و الاجتماعية و غيرها .
ان الممارسة العلمية و الفلسفية العلمية ملحدة نظريا ومنهجيا طالما تعلق الأمر بتفسير الطبيعة و المجتمع و لكنها اقرب الى اللاأدرية نظريا منها الى كل من الايمان و الالحاد على السواء و الى العلمانية تطبيقيا اذا تعلق الأمر بالخوض في الميتافيزيقيات ، وهذا اقرب حسب رأينا الى التصور الجديد المتواضع و المنفتح و النسبي عن العلم وعن التفلسف العلمي على حد السواء.

ثانيا : يحول هذا التعريف المادي الماركسي المجتمع و الفكر الى شكلين للمادة لا غير فيؤدي الى شكلين خاصين من "الفيزياء الاجتماعية" سوسيولوجيا و " المادية العضوية" معرفيا فيناقض نفسه بنفسه في خصوص "المسألة الأساسية في الفلسفة".
اذا كان العالم كله مادة تتنوع الى اشكال مادية مختلفة لاغير فان المجتمع نفسه و في كل مظاهره مادة اجتماعية و الفكر نفسه شكل من أشكال المادة – او حركة من حركاتها- وذلك لأن" الظواهر المتعددة الاوجه للعالم تؤلف اشكالا مختلفة لمادة في حركة."
و اذا كان الأمر هكذا فما قيمة طرح العلاقة بين المادة و الفكرأصلا و ما قيمة طرح مسألة العلاقة بين الوجود الاجتماعي و الوعي الاجتماعي في اطار ما يسمى "المسألة الأساسية في الفلسفة" و في" نظرية المعرفة الماركسية" ؟
ينتبه لينين الى هذه المسألة في "المادية و المذهب النقدي التجريبي" بالقول ان التناقض بين المادة و الوعي محصور فقط "في حدود المسألة الأساسية في الفلسفة" و هو غير موجود خارجها و لكن هذا الاكتشاف لا ينقذ النسق الفلسفي العام كما رسمه ماركس و انجلز ولينين نفسه و ستالين و غيرهم كما نود أن نبين في هذا البحث.

ثالثا: يحتوي هذا التعريف على فكرة أزلية المادة و الحركة في الزمان مقابل فكرة "أزلية الله" الدينية . و ترتبط هذه الفكرة في الفلسفة المادية الماركسية عادة بلانهائية المادة في المكان أيضا.
من الناحية النظرية العامة تبدو فكرة لانهائية المادة و الحركة في المكان و الزمان متناسقة مع النزعة المادية منذ هيرقليطس الى اليوم. ولكن المشكل ان المادية السابقة كانت نسقية مغلقة دائما (في رد فعل على انغلاق الأنساق الدينية و الفلسفية غير المادية ) بينما نحن نقول انه من الضروري انفتاح النسق الفلسفي و العلمي الآن.
هل يمكن نقاش هذا المبدأ دون خطر مغادرة المادية العلمية و الفلسفية؟
نحن نقول نعم و بالتأكيد ولكن بشروط و في مستويات محددة لاغير. ان العلم الحديث ينطلق من مبدأ لافوازييه القائل انه " لاشيء يخلق و لا شيء يعدم و كل شيء يتحول" و قد اكدت نظريات تحول المادة و الطاقة على ذلك . هنا في هذا المستوى لا خلاف تقريبا بين العلماء بوصفهم علماء و بقدر ماظلوا كذلك و لايفترض ان يوجد بين الفلاسفة العلميين بقر ما ظلوا كذلك أيضا . لكن هنالك مسائل مازالت قابلة للنقاش ( و أخرى قد تظهر لاحقا ) نذكر منها اثنتين :
الأولى هي مسألة لانهائية المادة في المكان. هذه المسألة قابلة للنقاش للسبب التالي . تقول احدث النظريات العلمية ان الكون منذ الانفجار الكبير هو في حالة اتساع مستمرة و هذا يعني ان المادة تتمدد و تحتل حيزا مكانيا جديدا مما يعني ان مفهوم المكان نفسه غير ثابت أي ان المكان يتمدد و يتسع .ان هذا يفرض التساؤل التالى: هل ان المادة – الكون لها وجود محدود في المكان حاليا؟ و مالذي يوجد خارج هذه الحدود وعلى مشارف الكون والذي يسمح للمادة الكونية بالاتساع و التمدد في حيزه؟ هل هو "العدم" الديني أم "الفراغ المادي" الذي لاتغيب المادة عنه تماما ؟
الجواب العلمي النظري يقول "الطبيعة لا تعرف الفراغ" و لا "العدم المطلق" و لكن الاجابة النظرية لا يجب ان تلجم الفرضيات و النظريات العلمية المختلفة بخنقها داخل نسق فلسفي جاهزاذا أردنا الدفاع عن الجدل الفلسفي و عن "الروح العلمي الجديد".
المسألة الثانية هي مسألة جزئية ولكنها هامة باعتقادنا : ان العلم الحديث لم يصل في دراساته المدعومة بأساليب القيس الفيزيائية الى العودة بتاريخ الكون الا لما يقارب الخمسة عشر مليارا من السنوات وصولا الى لحظة "الانفجار الكبير" و هو لا يعرف ما كان قبل ذلك. ان بعض النظريات العلمية الحديثة تقول ان تاريخ الكون هو تاريخ متتاليات لا متناهية من الانفجارات و الانسحاقات و بالتالي فان "الانفجار الكبير" ما هو الا الحلقة السابقة و سبقتها حلقات من ذلك المسلسل الانفجاري/ الانسحاقي .و لكن اصحاب هذه النظريات لا يزعمون انها الاجابة النهائية و لا الاجابة الصحيحة الوحيدة و يسمح الحقل العلمي بتقديم نظريات أخرى منافسة.
في ظل هذا الوضع هل يصبح من حق فلسفة علمية ما، في لحظة تاريخية ما، ان ترجح كفة نظرية علمية على حساب اخرى خلاف العلم الذي يسمح بتواجد نظريات مختلفة داخله؟
نحن نعتقد انه ليس من حقها اذا ارادت ان تبقى علمية متواضعة منفتحة و نسبية و لا تتحول الى فلسفة نسقية عقائدية .
لو فعلت ذلك لاستسلمت الى مسلمات اولية تعتبرها بديهيات منطقية لا بد من الانطلاق منها و الايمان بها حفاظا على النسق و ليس بحثا عن الحقيقة و هذا ما يجب على الفلسفة الجدلية ان تتجنبه بالذات.
اذن حتى لو كان الايمان النظري بلانهائية المادة في الزمان و في المكان اقرب منطقيا الى النسق المادي فانه من الناحية العملية قد يؤدي الى العقائدية النسقية المغلقة المختلفة عن "الروح العلمي الحديث" الذي يسمح باختلاف النظريات داخله في هذه المسألة المعقدة بالذات و التي لا يمكن الحسم فيها اختباريا و تجريبيا في القريب على ما يبدو فلا يبقى امام الفلاسفة سوى الاختيار بين التسرع الذي يقتضيه النسق الفلسفي و الانتظار القاتل الذي يفرضه التواضع و النزاهة العلميين.
بالنسبة الينا نحن نختار الحل الثاني و لا نأبه بالنقص و المحدودية فتلك هي الروح العلمية المخالفة للنزعات العلموية الرسولية الوضعية الجديدة . اما بالنسبة لستالين و الماركسية التقليدية عموما فالحل الأول مع الأسف هو الذي كان خيارهم.

-11-

بعد هذا التعريف يمر ستالين الى خصائص التفكير المادي الماركسي مثلما فعل مع خصائص الفكر الديالكتيكي سابقا:

" ب‌) على العكس من المثالية التي تؤكد على ان عقلنا وحده موجود حقا، وان العالم المادي، الوجود، الطبيعة، لا توجد الا في عقلنا، في احساساتنا وافكارنا وادراكنا، تغتبر المادية الفلسفية الماركسية ان المادة، الطبيعة، الوجود، هي حقائق موضوعية قائمة خارج عقلنا ومستقلة عنه، ان المادة هي الاساس نظرا لانها مصدر احساساتنا وافكارنا وادراكنا، وان العقل ثانوي واشتقاقي نظرا إلى انه انعكاس للمادة، انعكاس للوجود، وان الفكر هو نتاج للمادة التي بلغت في تطورها درجة عالية من الاكتمال، هي المخ، وان المخ هو عضو التفكير، وانه بناء على ذلك لا يستطيع المرء ان يفصل الفكر عن المادة بدون ان يرتكب خطأ فاحشا.
يقول أنجلز:
"ان مسألة العلاقة بين التفكير والوجود، العلاقة بين الروح والطبيعة، هي المسألة الكبرى للفلسفة بكاملها ... ان الاجوبة التي اعطاها الفلاسفة لهذه المسألة تفصلهم إلى معسكرين عظيمين، اولئك الذين أكدوا على اولوية الروح على الطبيعة ... معسكر المثالية. والاخرون الذين اعتبروا الطبيعة اولية يعودون إلى شتى مدارس المادية". (ماركس انجلز، مختارات، الطبقعة الانجليزية، م 1 ص 430 - 431)

وأكثر:
"ان العالم المادي الملموس حسيا الذي ننتمي نحن اليه، هو الحقيقة الوحيدة ... ان وعينا وتفكيرنا، مهما قد يبدو من الحساسية القصوى، هو نتاج للمادة، العضو الجسدي، الدماغ. ان المادة ليست نتاجا للفكر بل ان الفكرة ذاتها ليست سوى اعلى نتاج للمادة". (نفس المصدر ص 435)
وفيما يتعلق بفصل الفكر عن المادة المفكرة يقول ماركس:
"من المستحيل فصل الفكر عن المادة المفكرة. ان المادة هي الذات لجميع التغيرات". (نفس المصدر ص 397)
يقول لينين في وصفه الفلسفة المادية الماركسية:
"ان المادية عموما تميز الوجود الحقيقي الموضوعي (المادة) باعتباره مستقلا عن الوعي، والاحساس والتجربة .. ليس الوعي سوى انعكاس الوجود، في احسن الاحوال، بما يقرب من الانعكاس الصحيح (المناسب، الدقيق، بصورة مثلى) للوجود". (لينين، المختارات، الطبعة الانجليزية، م 11 ص 377)
وأكثر:
"ان المادة هي تلك التي بعملها على اعضائنا الحسية تنتج الاحساس؛ المادة هي الحقيقة الموضوعية المعطاة لنا بالاحساس ... ان المادة، الطبيعة، الوجود, الجسم الطبيعي – هي الاساس، والروح، الوعي، الاحساس، الكيان النفسي – هي الثانوية". (نفس المصدر ص 27 - 28)
"ان صورة العالم هي الصورة التي تبين كيف تتحرك المادة، وكيف ُتفكر المادةُ ". (نفس المصدر ص402)
"ان الدماغ هو عضو التفكير" (نفس المصدر ص 214) "


هنا نصل الى ما سماه أنجلز "المسألة الأساسية في الفلسفة" في بحثه "فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" و يمكن تلخيص المسألة في الفلسفة المادية الماركسية كما يلي:
الطبيعة أولية انطولوجيا و زمنيا وسببيا – حسب عبارة صادق جلال العظم في كتابه "دفاعا عن المادية و التاريخ" – وهي "الوجود الحقيقي الموضوعي" و الفكر ثانوي و لاحق و تابع و هو نفسه من نتاج عضو مادي هو الدماغ عبر وساطة الحواس التي تمكن من انعكاس المادة في الدماغ فينشأ الفكر ،الذي ليس له وجود ذاتي، ولكن الذي يعود بدوره ليؤثر في المادة.
لا شك انه من وجهة نظر التاريخ فان الانسان كائن متأخر في الزمن في تاريخ الطبيعة و بالتالي فان التفكير ظاهرة تاريخية لاحقة في الطبيعة.
لا شك ايضا في ان الانسان يفكر بدماغه بمساعدة الحواس و ليس بقلبه أو نفسه أو روحه كما كان يعتقد القدامى قبل تطور الفيزيولوجيا الحديثة.
و لكن مع هذا تطرح هذه النظرة المادية في صيغتها الماركسية المشاكل التالية في "المادية الجدلية":
أولا: مشكلة النزعة الفيزيولوجية : بمعنى ان الماركسية وهي تناقض الهيغلية من ناحية و النزعات الحسية و الأرواحية و غيرها سقطت في الفخ المعاكس تقريبا و ذلك باقتراف صياغة مخبرية فيزيولوجية لعملية المعرفة تركز على الدماغ بوصفه عضوا ماديا ينفعل بواسطة الحواس بالطبيعة المادية الموضوعية و الخارجية و تتناسى ان الدماغ لا يقوم بذلك فقط كعضو فيزيولوجي بل كعضو لكائن بشري اجتماعي تاريخي يعيش ضمن الطبيعة و المجتمع في نفس الوقت.
ان الدماغ لا يقوم بوظيفته المعرفية الا ضمن عملية الجتمعة و ان "الأطفال المتوحشين" – لوسيان مالسون- الذين لهم دماغ سليم فيزيولوجيا، و لكنهم عزلوا عن المجتمع ، فقدوا قدرتهم على التفكير البشري و انحدروا الى مرتبة حيوانية.
ان التركيز على الطابع العضوي للدماغ و تناسي كونه عضو التفكير عند كائن اجتماعي تاريخي هو الذي حول نظرية المعرفة الماركسية في "المادية الجدلية" الى نظرية عضوية من أجل خدمة النسق الفلسفي المادي و كأنه لا بد من انتظار نظرية المعرفة في" المادية التاريخية" للوعي –الضيق أيضا- بذلك كما سنرى لاحقا .

ثانيا: النزعة الانعكاسية و هي ناتجة عن تصور غير جدلى للعلاقة بين الموضوعي و الذاتي من ناحية و بين أشكال المادة و تفاعلها من ناحية ثانية.
يركز الماركسيون على اعتبار المادة موضوعية و الفكر ذاتي و يعتبرون ان الفكر ناتج عن انعكاس المادة الموضوعية في الدماغ عبر الحواس.و لكنهم يتناسون بسبب النسق انهم يعالجون ( في المادية الجدلية) مسألة تفاعل بين شكل من المادة هو الدماغ البشري و بقية اصناف و اشكال المادة الطبيعية ا.
ان النسق الماركسي يناقض نفسه هنا. من ناحية هو يعترف ان الدماغ هو مادة مثل غيره بل هو ارقى أشكال المادة و لكن من ناحية ثانية يقول انه عندما تتفاعل ارقى مادة مع أشكال أقل رقيا منها فما يحدث هو "الآنعكاس" – الانفعال- السلبي للموضوع في أدمغتنا و ليس تفكير – فعل- المادة الأرقى في غيرها داخل عملية التأثير و التأثر المتبادل بين شكلين مختلفين ،و لكن احدهما أرقى من الآخر، من المادة.
بعبارة أخرى مادام الدماغ هو ارقى أشكال المادة فان ما يحصل من تفاعل بينه و بين أشكال المادة الأخرى يتجاوز الانعكاس – الذي يبقى جزءا من التفاعل- الى التفكير بمعنى ان "سهم المعرفة الانسانية الأساسي" يتجه من الذات صاحبة الدماغ الراقي الى الموضوع المادي (غير العضوي او العضوي الأقل تطورا من الدماغ البشري ) و ليس العكس. ان "المسألة الأساسية في الفلسفة" تحل في المادية الماركسية بمناقضة ابسط مبادئ الماركسية نفسها.
ثالثا: النزعة شبه التأملية و هنا نواصل ما سبق و نذكر بأطروحة ماركس الأولى حول فيورباخ.
ان الماركسية النسقية تتنكر لتلك الأطروحة لأنها واصلت المقابلة بين "الموضوع" و "الشيء" من ناحية و " الفكر" و "الاحساس" من ناحية ثانية و نسيت ان المسألة هي مسألة "براكسيس" مسألة ممارسة. نسي ماركس و الماركسيون أطروحته القائلة " إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها – بما فيها مادية فورباخ – هي أن الشيء ، الواقع ، الحساسية ، لم تُعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل ، لا بشكل نشاط إنساني حسيّ ، لا بشكل تجربة ، لا من وجهة النظر الذاتية . ونجم عن ذلك أن الجانب العملي ، بخلاف المادية ، إنما طورته المثالية ، ولكن فقط بشكل تجريدي ، لأن المثالية لا تعرف ، بطبيعة الحال ، النشاط الواقعي الحسي كما هو في الأصل ..." .
نسي الماركسيون ان المعرفة هي الأخرى "نشاط انساني حسي و تجربة ذاتية" و عادوا الى مقابلة المقولات ببعضها البعض: المادة مقابل الفكر و الموضوع مقابل الذات و الخارجي مقابل الداخلي و غابت عنهم الممارسة المعرفية العلائقية بين كائن انساني اجتماعي تاريخي متطور يملك أكثر أشكال المادة تطورا (الدماغ) و بين موضوع معرفته الطبيعي. أجل الماركسيون الحديث عن المجتمع عندما أرادوا حل "المسألة الأساسية "في المعرفة في "المادية الجدلية" و كأن تدخل المجتمع في المعرفة لا يتم في اطار العلاقة بالطبيعة أيضا و يجب انتظار "المادية التاريخية" لذكر ذلك.
ان المسألة الأساسية في الفلسفة ماكان يجب ان تطرح كما طرحها ماركس و خاصة أنجلز من الأساس. انها ليست ماهو السابق والأولي و ماهو اللاحق والثانوي الأنطولوجية – رغم اهمية هذا- بل هي أساسا مسألة ابيستيمولوجيا تحديدا أي تفاعل الذات الاجتماعية التاريخية العارفة مع موضوع معرفتها الطبيعي و الاجتماعي.

يمكن توضيح المسألة بتقديم مثال بسيط جدا نرجو ان يساعد على تقريب الفكرة على الأقل. علماء الانسان والاجتماع في كل لحظة تاريخية هم من الكهول غالبا و بالتاي من الجيل القديم من البشرية السابق عن الجيل الجديد أنطولوجيا وزمنيا لكنهم عندما يدرسون سلوك الأجيال اللاحقة عنهم لا يهمهم الا محاولة دراستها علميا للوصول الى ما يمكن من أقصى درجات الموضوعية. انهم يعاملون من هو لاحق انطولوجيا و زمنيا معاملة الموضوع بقطع النظر عمن سبق و كان الأولي و الا عجزوا عن انتاج المعرفة و تصرفوا مثل الآباء و الأمهات العاديين و طغى عليهم الحس العام الموجه لوعي العلاقات بين الأجيال .
ان الانسان متأخر في الطبيعة لكنه عندما يدرسها يحيد و يعزل منهجيا مسألة كونها سابقة عنه انطولوجيا و زمنيا و يتعامل معها كموضوع علمي لا أكثر و لا أقل . فقط عندما يريد دراسة تاريخه الخاص داخلها للتثبت هل هي امه العذراء التي أنجبته عند درجة ما من تطورها أم انها لم تفعل ذلك الا بتدخل الله ،أب الآباء يتذكرر انه لاحق و متأخر زمنيا و يتساءل عن أصله الأنطولوجي.
بذلك تصبح مسألة المعرفة مسألة ممارسة معرفية ، فعل معرفي، براكسيس حي يرتبط ليس بالعلاقة بين المادة و الفكر بواسطة الدماغ/الحواس بل بين الانسان الاجتماعي التاريخي العارف و بين الطبيعة و المجتمع.و في هذه العلاقة يبدو جليا ان الانسان هو منتج المعرفة في اطار تفاعله مع موضوع معرفته و حياته و هو ليس مرآة تعكس ماحولها بل مصباحا ينير ماحوله – اذا كان لابد من مجاز- فيتأثر به باستقبال الضوء الخارجي عبر زجاجته الشفافة و يؤثر فيه عبر ناره المتهجة الى الخارج من خلالتلك الزجاجة الشفافة في علاقة مع الفتيل ومع الطاقة الموجودة في الخزان أي ان الانسان يتفاعل مع الواقع فيتمثله و يعرفه ليعيد تشكيله انتاجيا و فكريا و فنيا،الخ.


-12-

أخيرا ، قبل الانتقال الى "المادية التاريخية ، يصل ستالين الى التصور الماركسي حول الحقيقة و يكتب في هذا الصدد:

"ج‌) على العكس من المثالية التي تنكر امكانية معرفة العالم وقوانينه، والتي لا تعتقد بموثوقية معرفتنا، ولا تميز الحقيقة الموضوعية وتعتبر ان العالم سر مليء "باشياء بذاتها" لن يستطيع العلم معرفتها، تعتبر المادية الفلسفية الماركسية ان العالم وقوانينه قابلة للعلم كليا وان علمنا لقوانين الطبيعة، بعد اختباره بالتجربة والتطبيق، هو علم موثوق له صحة الحقيقة الموضوعية، وانه لا يوجد اي شيء في العالم لا يمكن معرفته، بل توجد فقط اشياء ما زالت غير معروفة، ولكنها سوف يكشف عنها وتجري معرفتها بمجهود العلم والتطبيق.
في معرض نقد مقولة كانط ومثاليين اخرين بان العالم لا يمكن معرفته وانه توجد "اشياء بذاتها" لا يمكن معرفتها، ودفاعه عن المقولة المادية الشائعة بان علمنا هو علم موثوق يقول انجلز:
"ان افضل دحض لهذا ولكافة الفلسفات المتعصبة الاخرى هو التطبيق، اي التجربة والصناعة. اذا استطعنا اثبات صحة فكرتنا عن عملية طبيعية بان نصنعها بانفسنا، ان نخرجها إلى الوجود خارج ظروفها واستعمالها لاغراضنا ضمن هذه العملية، فهذا يعني نهاية ُ الشيء بذاته ُ الكانتي. ان المواد الكيمياوية المنتجة في اجسام النباتات والحيوانات بقيت مثل هذه "الاشياء بذاتها" إلى ان بدأت الكيمياء العضوية بانتاجها الواحدة بعد الاخرى حيث اصبح"الشيء بذاته" شيئا لنا. كما على سبيل المثال ، الزارين، المادة الملونة في جذور الفوة الذي لم نعد نكلف انفسنا عناء زراعة جذور الفوة في الحقول بل ننتجه ارخص وابسط من قطران الفحم. بقي نظام كوبرنيك الشمسي مجرد نظرية لمدة ثلاثمائة سنة مع مائة أو الف أو عشرة الاف فرصة إلى واحد لصالحه، ولكنه مع ذلك بقي دائما كنظرية الا انه حين قام ليفريير، بواسطة المعلومات المتوفرة من هذا النظام، ليس بالتوصل إلى ضرورة وجود كوكب غير معروف بل كذلك تمكن من حساب الموقع في السماء الذي يجب بالضرورة ان يحتله هذا الكوكب، وحين وجد غال هذا الكوكب فعلا كان ذلك برهانا على نظام كوبرنيك." (كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية م 1 ص 432 - 433)

قال لينين في سياق اتهام بوغدانوف وبازاروف ويوسكفيتش واخرين من اتباع ايمانية باخ، وفي الدفاع عن المقولة المادية المعروفة بان معرفتنا العلمية لقوانين الطبيعة هي معرفة موثوقة، وان قوانين العلم تمثل حقيقة موضوعية:
"ان الايمانية المعاصرة لا تنبذ العلم بتاتا، فكل ما ترفضه هو "الادعاءات المبالغ فيها" للعلم، اي الادعاء بالحقيقة الموضوعية. اذا كانت الحقيقة الموضوعية موجودة (كما يتصور الماديون)، اذا كان العلم الطبيعي الذي يعكس العالم الخارجي في "التجربة الانسانية هو وحده القادر على اعطائنا الحقيقة الموضوعية، فان ذلك يدحض الايمانية كلها دحضا مطلقا". (لينين، مختارات، الطبعة الانجليزية، م 11 ص 188)
هذه باختصار المعالم المميزة للمادية الفلسفية الماركسية."


ان الفكرة الأساسية هنا هي ان العلم يمكنه ان يكشف الحقائق الموضوعية الموثوق بها والمطلقة و ان التجربة و الاختبار و التصنيع يدلان على ذلك و ان ما لم نعرفه الآن يمكن معرفته لاحقا مع تطور المجتمع و علومه وتقنياته.
لكن الخطر هو في الانتقال من الثقة في الوصول الى حقائق علمية جزئية و لكنها مطلقة الى توهم القدرة على الوصول الى الحقيقة المطلقة و العلم المطلق الكليين.
ان التصور الماركسي عن الحقيقة مهم جدا ضد أعداء العلم و أعداء الفلسفة العلمية الذين يشككون في القدرة على المعرفة أوعلى قدرة الانسان على الوصول الى الحقائق أصلا . لكن التركيز على مناقضة أعداء العلم الدينيين و الريبيين و الذاتيين ،الخ لا يجب ان ينسينا الأمور التالية التي تناقض الفكر الجدلي نفسه.
كتب ستالين أعلاه ان "... العالم وقوانينه قابلة للعلم كليا وان علمنا لقوانين الطبيعة، بعد اختباره بالتجربة والتطبيق، هو علم موثوق له صحة الحقيقة الموضوعية، وانه لا يوجد اي شيء في العالم لا يمكن معرفته، بل توجد فقط اشياء ما زالت غير معروفة، ولكنها سوف يكشف عنها وتجري معرفتها بمجهود العلم والتطبيق."

هنا يكمن كل الخطرفي التصور الماركسي عن الحقيقة.
من ناحية أولى تتجاهل الماركسية جدلية الذاتي و الموضوعي في المعرفة بأن تعمم نظريتها عن الحقيقة في "المادية الجدلية" على العلوم الطبيعية و تطبقها على المعرفة الاجتماعية و العلوم الاجتماعية في "المادية التاريخية" وهذا يفتح الباب على مصراعيه و بشكل خطيرللتنكر لأبجديات الديالكتيك كما سنوضح ذلك لاحقا.

من ناحية ثانية - وهذا مفهوم تاريخيا- لا يبدو ان الماركسية التقليدية كانت واعية بأية درجة بتدخل الذات العارفة و أجهزتها في مجرى اشتغال المادة الكوانطية مثلا مما يجعل ما يكتشف من قوانين حولها حاملا لدرجة ما من الذاتية الناتجة عن تدخل الباحث و أدواته نفسها كما تبين ذلك الابحاث المعاصرة في الفيزياء الكوانطية التي تذكر مثلا ان مجرد تسليط الضوء على المكونات شديدة الأولية للمادة يغير سلوكها و يِؤثر بالتالي على ما نستنتجه من معارف حولها. و اذا كان ذلك مفهوما في القديم فانه غير مقبول أن يتواصل في الديالكتيك الآن .
ان مفهوم الحقيقة الموضوعية يجب تنسيبه جدليا حسب المستوى الذي ندرسه من الواقع المادي نفسه. فاذا كانت الذات و أدواتها لا تأثير لهما كثيرا في الأجرام السماوية ،مما يمكن من موضوعية أكبر ربما، فان تأثيرها في اشتغال مكونات الموضوع المادي شديد الصغر- النانوي- مسلم بها في العلوم المعاصرة مما يجعل الحقيقة الكوانطية ممزوجة بدرجة ما بعناصر ذاتية كما تؤكد ذلك الدراسات العلمية و الفلسفية العلمية منذ الأربعينات من القرن العشرين تقريبا.
ان هذه المسألة تظهر بوضوح أكبر في ميدان العلوم الاجتماعية مما يجعل قدر الذاتية في قوانين العلوم الانسانية و الاجتماعية كبيرا و مما يجعل ادعاء الموضوعية و الاطلاقية فيها كارثة علمية و اجتماعية في نفس الوقت.

من ناحية ثالثة ان الاعتقاد في امكانية الوصول الى الحقيقة العلمية مهم جدا و ايجابي و لكن ان يصل الأمر الى القول ان"العالم و قوانينه قابلة للعلم كليا" فهذا خطر يلغي كل كلام العلم و الفلسفة حول نسبية المعرفة البشرية.
ان العلاقة بين المطلق و النسبي و بين الجزئي و الكلي في المعرفة هنا تفقد صوابها الديالكتيكي لأن الماركسية لا تميز بين الحقائق الجزئية المطلقة و الحقيقة الكلية المطلقة و تعتقد انه "لا يوجد أي شيء في العالم لايمكن معرفته" بل ان "كل الأشياء" سوف يكشف عنها وتجري معرفتها..." معرفة موضوعية علمية في المستقبل.
ان الماركسية تتحول هنا الى فلسفة علومية مطلقة تدعي امتلاك "علم أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر " وتعد أتباعها بمعرفة القوانين المطلقة في "كل الأشياء".
يمكن تفنيد هذه الفكرة جدليا" بالبساطة" التالية و من داخل الجدل الماركسي نفسه: اذا كان العالم لانهائيا في المكان و الزمان بصفة مطلقة فكيف لكائن محدود في المكان و الزمان محدود الطاقات و الأدوات ... –الانسان- أن يصل الى معرفة موضوعية و كلية ومطلقة للعالم اللانهائي هذا؟
وكيف له أن يغتر بنفسه ، و هو المحدود في المكان و الزمان، و يدعي انه سيكتسشف في المستقبل كل القوانين الخاصة بالأشياء غير المعروفة بعد " بمجهود العلم و التطبيق"؟
بل و كيف له أن يدعي وحتى منذ الآن أنه يملك "علم أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر" بعملية يقوم بها مفكر واحد مثل هيغل - و قلب ماركس نتائجها لاغير و كلاهما- يمكن تعريفه كفيلسوف مفرد ببضعف قدرته التنسيقية بين حجم المعارف العلمية المذهلة الأن ؟
أليس هذا منافيا للديالكتيك و روحه و سقوطا في فخ النسق الفلسفي الهيغلي المقلوب حول "نهاية المعرفة" مع تأثير الوضعية الواضح هنا؟


-13-

تصبح المشكلة أكثر خطورة ووضوحا عندما ننتقل الى "المادية التاريخية" طبعا فاذا كان تعميم المعرفة داخل الطبيعة انطلاقا من بعد طبيعى واحد مرفوضا بسبب اختلاف أشكال المادة نفسها فكيف سيكون الحال بتعميم المعرفة الطبيعية "المادية الجدلية" و تطبيقها على المجتمع البشري؟

لكن ستالين يواصل كاتبا مايلي:
"من السهل ان يفهم المرء عظم اهمية توسيع مبادئ المادية الفلسفية إلى دراسة الحياة الاجتماعية، تاريخ المجتمع، وعظم اهمية تطبيق هذه المبادئ على تاريخ المجتمع وعلى النشاطات العملية لحزب البروليتاريا."

انه على العكس بالضبط يعتبر "توسيع مبادئ المادية الفلسفية الى دراسة الحياة الاجتماعية" أمرا عظيم الأهمية. ثم يواصل:
" "اذا كانت الروابط بين الظواهر الطبيعية واعتمادها المتبادل قوانين تطور الطبيعة، فذلك يؤدي ايضا إلى ان الترابط والاعتماد المتبادل لظواهر الحياة الاجتماعية هي قوانين تطور المجتمع وليست اشياء عرضية.
وعليه فان الحياة الاجتماعية، تأريخ المجتمع، لا يبقى مجموعة "احداث طارئة" بل يصبح تأريخ تطور المجتمع وفقا لقوانين عادية، وتصبح دراسة تاريخ المجتمع علما.
ولهذا فان النشاطات العملية لحزب البروليتاريا يجب الا تقوم على اساس الرغبات الطيبة "لأشخاص بارزين"، لا على ما يمليه "العقل" أو "الاخلاق السامية" الخ.. بل على قوانين تطور المجتمع وعلى دراسة هذه القوانين."
لكن ستالين ، وهو يكتفي بتكرار صيغة "اذا كانت... فعليه" لا يقارن بين خصوصية الترابطات الطبيعية و اختلافها الكبير عن الترابطات الاجتماعية. فاذا كان الترابط الكيميائي يختلف عن الترابط الفيزيائي أو العضوي داخل الطبيعة نفسها فكيف يمكن الاكتفاء بتوسيع و تمديد الترابط الطبيعي العام و تطبيقه على علاقات التأثير و التأثر بين الظواهر الاجتماعية؟
بعد ذلك يواصل على نفس المنوال كاتبا:

" ثم، اذا كان العالم قابلا للمعرفة وكانت معرفتنا لقوانين تطور الطبيعة معرفة موثوقة لها صحة الحقيقة الموضوعية، ينجم عن هذا ان الحياة الاجتماعية، تطور المجتمع، هو الاخر قابل للمعرفة وان المعلومات العلمية بخصوص قوانين تطور المجتمع معلومات موثوقة لها صحة الحقائق الموضوعية.
وعليه يمكن ان يصبح علم تاريخ المجتمع، رغم تعقد ظواهر الحياة الاجتماعية، علما دقيقا لنقل مثل علم الاحياء، علما قادرا على الاستفادة من قوانين تطور المجتمع للاغراض العملية.
لذا على حزب البروليتاريا الا يتبع في نشاطاته العملية الحوافز العرضية، بل يتبع قوانين تطور المجتمع وبالاستدلال العملي من هذه القوانين.
وعليه فان الاشتراكية تتحول من حلم بمستقبل افضل للانسانية إلى علم. وهكذا فان الارتباط بين العلم والنشاطات العملية، بين النظرية والتطبيق، ووحدتهما، يجب ان يكون النجم الموجه لحزب البروليتاريا."

مرة أخرى و في وثوقية معرفية خطيرة جدا ودون أية مقارنة بين المعرفة الطبيعية والمعرفة الاجتماعية ورغم الاعتراف الشكلي ب"تعقد ظواهر الحياة الاجتماعية" – وكأن الظواهر الطبيعية غير معقدة هي الأخرى- يسحب ستالين نظرية الحقيقة الطبيعية على المجتمع و يتساهل في المطابقة بين "صحة الحقائق الموضوعية" في الطبيعة و المجتمع الى درجة القول بأن "علم تاريخ المجتمع" يمكن أن يصبح "علما دقيقا لنقل مثل علم الأحياء" ( وهي عبارة لماركس في مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) مما يحول الاشتراكية من "حلم" الى "علم".
ثم ينتقل ستالين الى "المسألة الأساسية في الفلسفة" و يقوم بنفس التعميم أو التمديد كاتبا:

" ثم، اذا كانت الطبيعة، وهي العالم المادي، هي الاساس، وان العقل، الفكر، ثانوي، اشتقاقي، اذا كان العالم المادي يمثل الحقيقة الموضوعية القائمة بالاستقلال عن الفكر الانساني، بينما يكون الفكر انعكاسا للحقيقة الموضوعية، ينجم عن ذلك ان حياة المجتمع المادية، كيانه، هو الاخر اساسي وان الحياة الروحية ثانوية، اشتقاقية، وان حياة المجتمع المادية هي حقيقة موضوعية قائمة بالاستقلال عن ارادة الانسان، وان الحياة الروحية للمجتمع هي انعكاس للحقيقة الموضوعية، انعكاس للوجود.
وعليه، فان مصدر تكوين حياة المجتمع الروحية، اصل الاراء الاجتماعية، النظريات الاجتماعية، الاراء السياسية والمؤسسات السياسية يجب الا نبحث عنها في الاراء أو النظريات أو وجهات نظر المؤسسات السياسية ذاتها، بل في ظروف الحياة المادية للمجتمع، في الوجود الاجتماعي الذي تشكل الاراء والنظريات ووجهات النظر الخ.. انعكاسا لها.
ولذا، اذا لاحظنا في فترات مختلفة من تاريخ المجتمع اراء ونظريات ووجهات نظر ومؤسسات سياسية، اذا واجهنا في ظل النظام العبودي بعض الاراء والنظريات ووجهات النظر والمؤسسات السياسية، وفي ظل الاقطاعية غيرها وفي ظل الراسمالية غيرها ايضا، فيجب الا نفسر ذلك ب"طبيعة" أو"خواص" الاراء والنظريات ووجهات النظر السياسية والمؤسسات السياسية ذاتها، بل بالظروف المختلفة للحياة المادية للمجتمع في الفترات المختلفة من التطور الاجتماعي.
فايا يكون وجود المجتمع، ايا تكون ظروف الحياة المادية للمجتمع، هكذا تكون اراء ونظريات ووجهات النظر السياسية والمؤسسات السياسية لذلك المجتمع.
يقول ماركس بهذا الصدد:
"ليس وعي الانسان ما يقرر وجوده، بل، على العكس، وجوده المادي هو الذي يقرر وعيه". (كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية، م 1 ص356)

وعليه، لكي لا يخطئ حزب البروليتاريا في سياسته، لكي لا يجد حزب البروليتاريا نفسه في وضع الحالم التائه، الا يؤسس نشاطاته على "مبادئ العقل البشري" المجردة، بل على الظروف الحقيقية لحياة المجتمع المادية باعتبارها المقررة الحقيقية لتطور الحياة المادية للمجتمع.
ان سقوط الطوبائيين، بمن فيهم الناروديين (الشعبيين)، الفوضويين والاشتراكيين الثوريين، يرجع، ضمن امور اخرى، إلى واقع انهم لم يميزوا الدور الاساسي الذي تلعبه ظروف الحياة المادية للمجتمع في تطور المجتمع، وانغمارهم في المثالية، إلى انهم لم يؤسسوا نشاطاتهم العملية إلى حاجات تطور الحياة المادية للمجتمع، بل، بالاستقلال عن وبالرغم من هذه الحاجات، على "الخطط المثالية" وعلى "المشاريع الشاملة" بالانفصال عن الحياة الحقيقية للمجتمع."

هنا يقابل ستالين بين ثنائية المادة/الفكر في "المادية الجدلية" بثنائية "الوجود الاجتماعي/الوعي الاجتماعي" في "المادية التاريخية" و يركز على "الوجود المادي- الاقتصادي" ناسيا ما يلي:

أولا :ان المادة الطبيعية موجودة قبل الانسان و يمكن ان تبقى بعد انقراضه و هي مستقلة عنه بهذا المعنى بينما النشاط الاقتصادي نشاط انساني و الوجود الاجتماعي هو وجود البشر الاجتماعي نفسه و ان الوجود الطبيعي بهذه الصفة يختلف جذريا عن الوجود الاجتماعي في ان الأول موضوعي تماما بينما الثاني ذاتي متموضع لاغير.

ثانيا: ان العلاقة بين الذات و الموضوع في الحالتين تصبح مختلفة تماما بما انه في الحالة الثانية يكون الموضوع هو الانسان نفسه بينما في الحالة الأولى فالموضوع هو المادة السابقة عن الانسان و المستقلة عنه فعلا.

ثالثا: ان الوجود الاقتصادي هونفسه نشاط انساني ذاتي يتموضع بينما الوجود الطبيعي هو موضوع مستقل عن النشاط االنشاط الانساني وليس ذاتيا بالنسبة للانسان .

رابعا: انه اذا صح القول ان التفكير لاحق انطولوجيا و زمنيا على المادة الطبيعية بسبب نشوء الانسان المتأخر في تاريخ الطبيعة فانه من الخطل – وليس فقط من الخلط- توسيع نفس الاستنتاج داخل المجتمع و تاريخه لأن الاقتصاد يتزامن مع الفكر ولا يمكن تمييز النشاط الاقتصادي البشري عن السلوك الحيواني الهادف الى تلبية الحاجيات المادية- الغذاء... الا بعنصر التفكير – اضافة الى عناصر أخرى طبعا- فالطبيعة وجدت قبل الانسان المفكر لكن النشاط الاقتصادي هو نشاط الانسان المفكر حصريا و بالتحديد.

خامسا: انه اذا صح ان الطبيعة توجد باستقلال عن ارادة الانسان فان الوجود الاجتماعي يحتوي وجود الارادة البشرية و ان صح ان تطور الطبيعة لا يأبه للارادة البشرية فان التطور الاقتصادي يتطلب ارادة التطور عند البشر و لا يمكن ان يتم دونها اذ لا يمكن ابدا تطوير الاقتصاد البشري عند بشر لا يريدون التطورالا بفرض ارادة بشرية أقوى من ارادتهم لتطويرهم غصبا عنهم و ان التاريخ الصراعي البشري حسب التصور الماركسي هو أيضا "صراع ارادات".

سادسا: ان محدودية نظرية الانعكاس حتى فى العلاقة بالطبيعة تصبح كارثية اذا توسعت الى المجتمع. اذ حتى و ان قبلنا بها جدلا في اطار العلاقة بالطبيعة الموضوعية فيجب رفضها في العلاقة بالاقتصاد لأن النشاط الاقتصادي نفسه يحتوي الفكر و يتطلب بوصفه نشاطا انسانيا ، في علاقة بالطبيعة و المجتمع في نفس الوقت، معارف اقتصادية تقنية و تنظيمية و قانونية -أو على الأقل عرفية- و مؤسسات اقتصادية ،الخ. بهذا فان القول ان الوعي الاجتماعي يعكس الوجود الاجتماعي -الاقتصادي مثلما يعكس الفكر الطبيعة بصفة عامة يصبح لغوا و حماقة تقريبا.

سابعا: يطبق ستالين نفس المنطق ليس فقط على الأفكار بل يذكر أعلاه مرات عديدة عبارة "الأفكار السياسية و المؤسسات السياسية" و هو بذلك يماهي بين "البناء الفوقي السياسي" و "الوعي الاجتماعي" و هذه المماهاة توجد في كتابات ماركس و أنجلز قبله و هي يفترض أن تكون غريبة حتى عن الجدل و المنطق العلميين البدائيين لأن تطبيق نفس التحليل الانعكاسي على الأفكار وعلى المؤسسات يخرج نظرية المعرفة من "العلاقة بين الفكرالاجتماعي و الواقع الاجتماعي" الى العلاقة" بين الوقائع الاجتماعية نفسها فالمؤسسة السياسية واقع اجتماعي ممأسس سياسيا و علاقته بالواقع الاقتصادي لابد ان تختلف عن علاقة الواقع بالفكر.
ان الماركسية بهذا تفعل كمن يريد اعتبار البيولوجيا انعكاسا للكيمياء و الكيمياء انعكاسا للفيزياء.لا يتعلق الأمر هنا بترابط متبادل بين بعدين من الواقع لا أحد يشكك في وجوده. انما بتحول الأمر الى مجرد انعكاس بعد من الأبعاد في الآخر و الفرق بين الانعكاس و الترابط المتبادل يتمثل اما في اعترافنا بوجود حقيقي لكل الأبعاد أم بوجود حقيقي لبعد واحد فقط من هذه الأبعاد فتكون البقية مجرد انعكاسات له لا غير.

نكتفي بهذا و نمر الآن الى تأثير الوعي في التحولات الاجتماعية التاريخية نفسها.
يكتب ستالين:
"ان قوة الماركسية اللينينية وحيويتها تكمن في واقع انها تبني نشاطاتها العملية على اساس حاجات تطور الحياة المادية للمجتمع ولن تعزل نفسها عن الحياة الحقيقية للمجتمع.
الا انه لا ينجم عن كلام ماركس ان الاراء والنظريات الاجتماعية، ووجهات النظر السياسية والمؤسسات السياسية لا اهمية لها في حياة المجتمع ولا تؤثر تاثيرا متبادلا على الوجود الاجتماعي، على تطور الظروف المادية لحياة المجتمع. كنا نتحدث لحد الان عن اصل الاراء والنظريات الاجتماعية ووجهات النظر السياسية والمؤسسات السياسية، عن الظروف التي تنشا منها، عن واقع ان الحياة الروحية للمجتمع هي انعكاس لظروف الحياة المادية. اما بخصوص اهمية الاراء الجتماعية والنظريات ووجهات النظر السياسية والمؤسسات السياسية، بخصوص دورها في التاريخ، فان المادية التاريخية، بعيدا عن انكارها، تؤكد على دور واهمية هذه العوامل في حياة المجتمع، في تا ريخه.
هناك انواع مختلفة من الاراء والنظريات الاجتماعية. ثمة اراء ونظريات قد تجاوزت عهدها وهي تخدم مصالح قوى المجتمع المحتضرة. ان اهميتها تكمن في واقع انها تعيق التطور، تعيق تقدم المجتمع. ثم ثمة اراء ونظريات جديدة متقدمة تخدم مصالح قوى المجتمع المتقدمة. وتكمن اهميتها في واقع انها تسهل التطور، تسهل تقدم المجتمع. وان اهميتها اعظم كلما كان عكسها لحاجات تطور حياة المجتمع المادية اكثر دقة.
ان الاراء والنظريات الجديدة لا تنشأ الا بعد ان يكون تطور حياة المجتمع المادية قد وضع مهام جديدة امام المجتمع. الا انها ما ان تنشأ الا وتصبح اشد القوى التي تسهل تنفيذ المهام الجديدة التي خلقها تطور حياة المجتمع المادية، قوة تسهل تقدم المجتمع. هنا بالضبط تظهر نفسها الاهمية الهائلة لتنظيم وتحريك وتحويل الاراء والنظريات الجديدة ووجهات النظر الجديدة والمؤسسات السياسية الجديدة. ان الاراء والنظريات الجديدة تنشأ بالضبط لانها ضرورية للمجتمع، لان من المستحيل تنفيذ المهام الملحة لتطور حياة المجتمع المادية بدون نشاطها التنظيمي والتحريكي والتحويلي. ولدى نشوء الاراء الاجتماعية الجديدة عن المهام الجديدة التي يتطلبها تطور حياة المجتمع المادية، فانها تشق طريقها وتصبح ملكا للجماهير، تحركهم وتنظمهم ضد قوى المجتمع المحتضرة، وبهذا تسهل اسقاط هذه القوى التي تعيق تطور حياة المجتمع المادية.
وهكذا فان الاراء والنظريات والمؤسسات السياسية، لدى نشوئها على اساس المهام الملحة لتطور حياة المجتمع المادية، على اساس تطور الكيان الاجتماعي، تقوم هي ذاتها برد فعلها على حياة المجتمع المادية وتخلق الظروف الضرورية لتنفيذ المهام الملحة لحياة المجتمع المادية تنفيذا كاملا وتجعل المزيد من تقدمها امرا ممكنا.
يقول ماركس في هذا الصدد:
"تصبح النظرية قوة مادية حالما تستحوذ على الجماهير". (نقد الفلسفة الهيغلية)

وعليه، على حزب البروليتاريا، لكي يستطيع التأثير على ظروف حياة المجتمع المادية وتسريع تطورها وتحسينها، ان يعتمد على النظريات الاجتماعية، على الاراء الاجتماعية التي تعكس حاجات تطور حياة المجتمع المادية، والتي تكون بناء على ذلك قادرة على تحريك الجماهير الواسعة من الشعب ودفعها وتنظيمها في جيش حزب البروليتاريا العظيم، المستعد لتحطيم القوى الرجعية وان يمهد الطريق لقوى المجتمع المتقدمة.
ان سقوط "الاقتصاديين" والمنشفيك كان يرجع ضمن امور اخرى إلى واقع انهم لم يميزوا الدور التحريكي والتنظيمي والتحويلي للنظرية المتقدمة، للاراء المتقدمة، وانهم انغمروا في المادية المبتذلة وهبطوا بدور هذه العوامل إلى الصفر تقريبا، وبذلك حكموا على الحزب بالسلبية واللاحيوية.
ان قوة وصحة الماركسية اللينينية وحيويتها تنشأ عن واقع انها تعتمد على النظرية المتقدمة التي تعكس حاجات تطور حياة المجتمع المادية" بصورة صحيحة. انها ترفع النظرية إلى المستوى اللائق بها، وانها ترى ان من واجبها الاستفادة من كل مثقال من قوى هذه النظرية التحريكية والتنظيمية والتحويلية.
هذا هو الجواب الذي تعطيه المادية التاريخية للسؤال عن العلاقة بين الكيان الاجتماعي والوعي الاجتماعي، بين ظروف تطور حياة المجتمع المادية وتطور حياة المجتمع الروحية."


على عكس بعض الانتقادات السطحية التي تتهم الماركسية بأنها لاتعطي أهمية للفكر يعبر ستالين هنا على ان الأمر في الواقع مختلف عن ذلك فيكتب " ان الاراء والنظريات الجديدة تنشأ بالضبط لانها ضرورية للمجتمع، لان من المستحيل تنفيذ المهام الملحة لتطور حياة المجتمع المادية بدون نشاطها التنظيمي والتحريكي والتحويلي" و ليس هذا ما سنتعرض اليه.
ان المشكل هنا يكمن في أمر ثان . المشكل ان الماركسية تعتبر الوعي البشري "يرد الفعل" على الواقع "لاغير" تقريبا. ورغم ان رد الفعل هذا قد يستقل نسبيا كلما استقلت الأفكارعن الارتباط المباشر بالواقع و يمكن أن يكون قويا الى درجة وصف النظرية بالقوة" التحريكية و التنظيمية و التحويلية" فانه من وجهة النظر المبدئية النظرية يبقى"ردفعل" على الواقع الاجتماعي.
اننا هنا أمام مأزق التمزق بين مقتضيات الوفاء للنسق و مقتضيات الفعل التحريكي و التنظيمي و التحويلي الذي يريد الماركسيون لعبه في التاريخ عبر فلسفتهم.
ان النظريات حسب ستالين تكتسب قدرتها على التأثير حسب صحة ومقدار عكسها للواقع الاجتماعي فتكون "معرقلة" لتطوره أو "مسرعة" لذلك التطورتناسبا مع خاصية الانعكاس تلك . و بما ان الماركسية هي النظرية العلمية الوحيدة الصحيحة تماما فانها الوحيدة القادرة على تثويره اما النظريات الأخرى فهي في أحسن الحالات"تسرع" التطور و في أسوئها "تعرقله" لا غير.
يبدو هنا ان الواقع الاجتماعي –ا لاقتصادي متحرك بطبيعته المادية و لا تقدر النظرية التي هي "انعكاس " سوى على ابطاء /عرقلة او تسريع الحركة. انها عنصر مساعد او معرقل فقط لحركة تخط طريقها بموضوعية و باستقلال عن الارادة و الوعي. و لكن اذا وجدت ، وهي توجد لامحالة، فهي ستساعد و تسرع أو تعرقل و تبطئ الحركة.أما النظرية الماركسية تحديدا فبما انها تقدم معرفة علمية وموضوعية دقيقة فانها تساعد على "تثوير"الواقع جذريا لأنها تعكس جيدا ليس فقط حركة التراكمات الكمية بل و القفزة النوعية الاجتماعية أيضا.
يبدو هذا موقفا عمليا ايجابيا من الوعي لكن الموقف النظري الانعكاسي سرعان ما يعود للظهور فيشترط على النظرية القدرة على التحول الى "قوة مادية" تستحوذ على الجماهير كي تقوم بفعلها "التحريكي و التنظيمي و التحويلي".

ان النظرية لا تؤثر كنظرية بل فقط بشرط التحول الى " قوة مادية" ، اننا نعود الى النقطة الصفر حفاظا على النسق الفلسفي المغلق الذي يقول ان الفكر نفسه ليس سوى "حركة المادة الأكثر تطورا:الدماغ" وان العالم كله "مادة وحركة" و انه لايوجد "سوى اشكال متنوعة من المادة و الحركة" ،الخ.

من ناحية أخرى نلاحظ هنا خلطا رهيبا بين فعالية النظرية الطبيعية و فعالية النظرية الاجتماعية.ان الماركسية تقيم دور النظرية في الطبيعة والمجتمع بنفس المنطق .و لما كانت النظرية الخاطئة غير قادرة على تحويل الواقع الطبيعي لأنها تعاكس قوانينه وقد تؤدي عند اختبارها الى كارثة تامة تنفجر في وجه صاحبها . و لما كانت الماركسية توسع نظرية المعرفة المادية الجدلية و تسحبها على المجتمع في المادية التاريخية .يستنتج ستالين ان النظريات الاجتماعية هي الأخرى تكتسب قدرتها "التحريكية و التنظيمية و التحويلية" بمقدار عكسها الصحيح لقوانين الواقع الاجتماعي.
ان هذا الاستنتاج خاطئ لسببين :نظريا ان المجتمع ليس الطبيعة وان ثنائية الصحيح و الخاطئ العلمية الطبيعية ليست هي الوحيدة العاملة في الميدان الاجتماعي لأن الانسان ليس كائنا عقلانيا صرفا حتى لا يحركه الخطأ أو الوهم أو الاعتقاد أو الرغبة أو الجمال أخ. انه كائن مركب بيو- فيزيولوجي و جنسي و قرابي و اقتصادي و سياسي و ثقافي و قومي ألخ، مما يجعل حركته في التاريخ متأثرة بكل هذه العوامل التي لا يخضع الوعي الاجتماعي فيها دائما لمقياس الصحيح و الخاطئ العلمي الطبيعي. بل يتأثر بعوامل المصلحة و القوة والمشاعر والمعتقداتو الجمال و غيرها مما قد يعطي لنظرية خاطئة علميا قدرة تحريكية و تنظيمية و تحويلية كبيرة في التاريخ.
عمليا يمكن الاكتفاء بالتذكير بالفاشية سابقا و بالحركة الاسلامية الآن لنرى قدرة النظريات الخاطئة علميا على التأثير في حركة المجتمع لأسباب تخرج نسبيا عن دائرة مقياس الصحة/الخطأ العلمي الوضعي التجريبي رغم انها قد تتفاعل معه ، ربما ، عند معاينة فشل هذه الحركات في تحقيق حاجيات شعوبها بطريقة مقبولة و دائمة نسبيا .
ان اختبارصحة و فاعلية النظريات في الطبيعة يختلف كثيرا عن اختبارها في الحياة الاجتماعية التاريخية و وحدها النظريات الفيزيائية الاجتماعية الوضعية مازالت لم تنتبه للأمر و الماركسية هي نسخة معدلة من تلك النظريات مع الأسف .

هكذا يعرقل النسق الفلسفي الديالكتيك و يناقضه و يؤدي ، تحت وطأة الواقع العملي و التقدم المعرفي، الى انفجار النسق نفسه الى ماركسيات منها مثلا من يتبنى" نظرية قوى الانتاج" الانتظارية ( كاوتسكي) و منها من يتبنى نظرية "المبادرة الثورية" في "الحلقة الأضعف من السلسلة الامبريالية" ( لينين ) ومنها من يصل به الأمر الى "المغامرة الثورية" تماما( غيفارا) و غيرهم ممن ينتسبون جميعا الى الماركسية و لكن "كل حسب قراءته".

-14-

نصل الآن الى تحديد الماركسية لما يسمى ظروف المجتمع المادية لتحليل مكوناتها .
يبدأ ستالين بالبيئة الجغرافية قائلا:
"3) والمادية التاريخية:
يبقى الان ان نوضح المسألة التالية: ما الذي نعنيه "بظروف حياة المجتمع المادية" التي بالتحليل الاخير تحدد ملامح المجتمع، آراءه، وجهات نظره، مؤسساته السياسية الخ..؟
فما هي "ظروف حياة المجتمع المادية" وماهي معالمها المميزة؟
لا شك ان مفهوم "ظروف حياة المجتمع المادية" تتضمن قبل كل شيء الطبيعة المحيطة بالمجتمع، البيئة الجغرافية، وهي احدى الظروف اللامفر منها والدائمية في حياة المجتمع المادية، والتي تؤثر طبعا على تطور المجتمع. فما هو الدور الذي تلعبه البيئة الجغرافية في تطور المجتمع؟ هل البيئة الجغرافية هي القوة الرئيسية التي تقرر ملامح المجتمع، طابع النظام الاجتماعي للانسان، والانتقال من نظام إلى آخر؟
ان المادية التاريخية تجيب على هذا السؤال بالسلب.
لاشك ان البيئة الجغرافية هي احد الظروف الدائمة التي لامفر منها في تطور المجتمع، وتؤثر طبعا على تطور المجتمع وتسرع أو تؤخر تطوره. الا ان تأثيرها ليس تأثيرا مقررا طالما ان تغيرات وتطورات المجتمع تجري اسرع بما لا يقاس من تغيرات وتطورات البيئة الجغرافية. ففي خلال ثلاثة الاف سنة حلت ثلاثة انظمة اجتماعية مختلفة محل بعضها بنجاح في اوروبا: نظام المشاعية البدائية، نظام العبودية، ونظام الاقطاع. وفي الجزء الشرقي من اوروبا، في الاتحاد السوفييتي، جرى احلال حتى اربعة انظمة محل بعضها. ومع ذلك فان الظروف الجغرافية في اوروبا اما لم تتغير بتاتا في هذه الفترة، أو انها تغيرت تغيرا طفيفا لا يلاحظه علم الجغرافيا. وهذا امر طبيعي تماما. فالتغيرات ذات الاهمية في الظروف الجغرافية تتطلب ملايين السنين، بينما بضع مئات من السنين، أو الفي سنة يكفي لتغيرات هامة في نظام المجتمع البشري.
ينجم عن هذا ان البيئة الجغرافية لا يمكن ان تكون السبب الرئيس، السبب المقرر، في التطور الاجتماعي، اذ ان ما يبقى غير متغير تقريبا في مضمار عشرات الالوف من السنين لا يمكن ان يكون سبب التطور الرئيس فيما تطرأ عليه تغييرات اساسية خلال بضع مئات من السنين."


ان ما يهمنا في هذا المقطع تحديدا ليس هو الحجة القائلة ان الظروف الطبيعية ليست هي "العامل المقرر" في التطور فهذا "متفق عليه" و ستالين يحارب طواحين الهواء هنا تقريبا.
ما يهمنا هو طريقة تقديم المسألة بعدم التفريق بين صيغتي "البيئة الجغرافية" تارة و " الطبيعة المحيطة بالانسان " طورا.
لماذا حصر ستالين المسألة في طابعها الجغرافي و كأن "الطبيعة المحيطة بالانسان" هي فقط "بيئة جغرافية" تكاد تكون جغرافيا طبيعية سطحية – مناخية تحديدا؟
لماذا تغيب الجيولوجيا؟
ألا تدخل المواد الأولية في "الطبيعة المحيطة بالانسان" في الجغرافيا الاقتصادية؟
أم ان ذلك يتم اغفاله عمدا حتى يعالج لاحقا في الاقتصاد كجزء من وسائل الانتاج المادية ؟
ألا يدل هذا على ان ضرورات الوفاء للنسق الفلسفي تعمي البصيرة هنا الى درجة التعامي عن أبجديات التفكير التي تقول ان البترول مثلا هو من "الطبيعة المحيطة بالانسان" الذي يصبح مادة أولية طاقية عند درجة معينة من التقدم العلمي و التقني بينما لم يكن في القديم يستعمل الا في الانارة في بعض مناطق العالم مثل العراق حيث يخرج من الأرض تلقائيا دون حفريات ؟
اذا نظرنا الى المسألة من هذه الزاوية غير السطحية ألا يصبح من الضروري اعادة التفكير في دور البيئة الجغرافية ولكن دون السقوط في فخ "العامل المقرر" طبعا؟

بعد "البيئة الجغرافية " يمر ستالين الى عنصر السكان و يقترف نفس الخطأ.
يقول:
"ثم انه لاشك ان مفهوم "ظروف حياة المجتمع المادية" يتضمن ايضا نمو السكان، كثافة السكان بهذه الدرحة أو تلك، لان الناس عنصر جوهري في ظروف حياة المجتمع المادية، ومن دون عدد ادنى من الناس لا يمكن ان تكون حياة مجتمع مادية. اليس نمو السكان القوة الرئيسة التي تقرر طابع النظام الاجتماعي الانساني؟
ان المادية التاريخية تجيب على هذا السؤال بالسلب.
بالطبع ان نمو السكان يؤثر في تطور المجتمع، يسهل أو يعيق تطور المجتمع، الا انه لا يمكن ان يكون القوة الرئيسة في تطور المجتمع، وان تأثيره على تطور المجتمع لا يمكن ان يكون تأثيرا مقررا لان نمو السكان بحد ذاته لا يقدم مفتاح مسألة من السبب في ان يحل هذا النظام الاجتماعي الجديد وليس نظام اجتماعي اخر محل النظام الزائل، لماذا يحل النظام العبودي محل نظام المشاعية البدائية، ولماذا يحل النظام الاقطاعي محل النظام العبودي، ولماذا يحل النظام البرجوازي محل النظام الاقطاعي، وليس نظام اخر.
لو كان نمو السكان القوة المقررة لتطور المجتمع، لترتب على ذلك ان ينشأ النوع الاعلى من النظام الاجتماعي بالتناسق مع اعلى كثافة للسكان. لكننا لا نجد ان الحال بهذا الشكل. ان كثافة السكان في الصين تبلغ اربعة اضعاف كثافة السكان في الولايات المتحدة الاميركية، ومع ذلك فان الولايات المتحدة الاميركية اعلى من الصين في مقياس التطور الاجتماعي، اذ ان النظام شبه الاقطاعي مازال سائدا في الصين، بينما بلغت الولايات المتحدة منذ امد بعيد اعلى مرحلة في تطور الراسمالية. وان كثافة السكان في بلجيكا هي تسعة عشر ضعفا من كثافة السكان في الولايات المتحدة الاميركية، وستة وعشرين ضعفا من كثافة السكان في الاتحاد السوفييتي ومع ذلك فان الولايات المتحدة الاميركية اعلى من بلجيكا في مقياس التطور الاجتماعي وبالنسبة للاتحاد السوفييتي تتأخر بلجيكا عصرا تاريخيا كاملا وراء هذا القطر، اذ ان النظام الراسمالي ما زال سائدا في بلجيكا بينما تخلص الاتحاد السوفييتي من الراسمالية واقام النظام الاشتراكي.
ينجم عن هذا ان نمو السكان ليس ولا يمكن ان يكون القوة الرئيسة لتطور المجتمع، القوة التي تقرر طابع النظام الاجتماعي، ملامح المجتمع."

هنا أيضا يحصر ستالين عمدا مسألة السكان في طابعها الديمغرافي الضيق :في الكثافة و النمو السكاني.
و لكن ألا يرتبط عنصر السكان أيضا بالقوى العاملة و المستهلكة داخل السكان مما يؤثر على القدرات الانتاجية و الاستهلاكية و التبادلية و على توزيع المداخيل؟
ألم يعترف ستالين نفسه أعلاه ان" الناس عنصر جوهري في ظروف حياة المجتمع المادية، ومن دون عدد ادنى من الناس لا يمكن ان تكون حياة مجتمع مادية" ؟ فلماذا يترك الناس ولا يهتم الا بعددهم و كثافتهم و نموهم الديمغرافي لاغير؟
أم ان ستالين يترك ذلك عمدا لما هو قادم من تحليل اقتصادي حتى يضخم دوره؟
واذا نظرنا ،مرة أخرى، الى المسألة من هذه الزاوية غير السطحية ألا يصبح من الضروري اعادة التفكير حتى في دور عدد السكان و كثافتهم ولكن دون السقوط في فخ "العامل المقرر" كذلك ؟



-15-
يمر ستالين بعد ذلك مباشرة الى جوهر الموضوع و يتساءل و يجيب كما يلي:

" أ) فما هي القوة الرئيسة في جملة ظروف حياة المجتمع المادية التي تقرر ملامح المجتمع وطابع النظام الاجتماعي، وتطور المجتمع من نظام إلى نظام آخر؟
تعتبر المادية التاريخية ان هذه القوة هي اسلوب الحصول على وسائل الحياة الضرورية للوجود الانساني، طريقة انتاج القيم المادية، الطعام، الكساء ، الحذاء، المأوى، الوقود، ادوات الإنتاج الخ.. – القيم اللامفر منها لحياة وتطور المجتمع.
لكي يعيش الناس عليهم ان يحصلوا على الطعام والكساء والحذاء والماوى والوقود الخ.. ولغرض الحصول على هذه القيم المادية، على الناس ان ينتجوها، ولكي ينتجوها على الناس ان يحوزوا على ادوات الإنتاج التي تنتج الطعام والكساء والحذاء والمأوى والوقود الخ..، يجب ان يكونوا قادرين على انتاج هذه الادوات وعلى استعمالها."

في هذه الفقرة ينطلق ستالين من مسلمة أولوية المادة الاجتماعية ثم يتساءل حتى عن العنصر المقرر داخل الحياة المادية نفسها. انه لايكتفي بالبحث عن أهمية العنصر المادي مقارنة بالعناصر"غير المادية" بل يبحث داخل الوجود المادي نفسه عن عنصر مقرر مقارنة بعناصر مادية أخرى.
وبعد هذا يقدم ستالين فكرة اهمية "أسلوب الحصول على وسائل الحياة المادية" و يساوي بينه و بين عبارة "طريقة الانتاج" تقريبا رغم ان الحصول لا يتم بالضرورة فقط و حصريا بالانتاج بل و بالتوزيع أيضا لمن لا ينتج.ثم يمر الى تأكيد أهمية "الأكل و الشرب و اللباس و السكن ولكن يضيف معها" أدوات الانتاج" التي تسمح بالحصول على تلك الحاجيات و يتناسى عمدا "المواد الأولية الطبيعية" .و في آخر الفقرة يخلص الى انه عليهم ان يكونوا قادرين على "انتاج هذه الأدوات و على استعمالها" حتى يحصلوا على الحاجيات المادية "لكي يعيش الناس".
ان هذه الفقرة مثال معبر عن الطريقة التي تدبج بها النصوص العقائدية النسقية المغلقة في الانطلاق من المسلمات و القيام بالتحايل على العقل من اجل اثبات صحة ما نعتقد في صحته ما قبليا الى درجة تحول عملية البرهنة الى طوطولوجيا " تفسر الماء بالماء" تقريبا.
كي نقف على هذا يمكن أن نطرح الاسئلة التالية:
أولا: يقول ستالين انه كي يعيش الناس لا بد أولا من تلبية حاجيات الغذاء و اللباس و السكن،الخ. و لكنه لم يذكر "الهواء" مثلا رغم انه حاجة مادية تماما فلماذا ياترى؟
هنا نقف على الفرق بين "المادي" و الاقتصادي في الحاجات البشرية و هو ما لا تريد الماركسية الأصولية قبوله.
ان الهواء ضروري للحياة وهو حاجة مادية و أكثر ضرورية حتى من الغذاء الذي نقدر على الحياة دونه لأيام(الشرب) و لشهور(الأكل) بينما نموت بعد دقائق اذا فقدنا القدرة على التنفس. و لكن بما ان الهواء مشاع في الطبيعة لا يملكه أحد ووافر بحيث يتنفس الجميع تلقائيا تقريبا، وان بدرجات مختلفة بسبب المرض أو التلوث مثلا، فانه لا يدخل ضمن النسق الفلسفي الماركسي.
ان الهواء حاجة مادية و لكنه ليس موضوعا اقتصاديا بعد الا بالنسبة للمرضى وحيث التلوث ، و لذلك يتناساه ستالين و تلفظه المنظومة النسقية الماركسية المغلقة الهادفة الى اثبات مسلمتها الاقتصادية.
ان هذا المثال مهم جدا – وبالامكان قول نفس الشيء عن أشعة الشمس مثلا - لأنه يدفعنا الى مراجعة تعريف الماركسية للاقتصاد بوصفها أياه "طريقة تلبية الحاجيات المادية" في صيغة تعميمية ضيقة بل وخاطئة .
انه يساعدنا على ادخال عناصر الوفرة/ الندرة و الاستعمال/الترف في الاقتصاد ، هذه العناصر التي عمل الاقتصاد السياسي الماركسي كل ما في وسعه لوصفها بالبورجوازية مضيقا عل الجدل وحارما اياه من مقولات مهمة و اساسية.
كما انه يساعدنا حتى على العودة اللغوية للمعني الأصلي لفعل اقتصد الذي يرتبط بالتحكم في ماهو غير مشاع للجميع وغيروافرباستمرار في الزمن اما بسبب الندرة الطبيعية أو بسبب نظام الملكية السائد في المجتمع أو كليهما معا بالدرجة التي يحتم فيها على الانسان الاقتصاد في استعماله و/أو استهلاكه.
ان معنى الاقتصاد قد لا يبقى بعد هذا ضيقا كما عرفه ماركس بوصفه طريقة تلبية الحاجيات المادية حصريا بل ينفتح على أبعاد أخرى أكثر ثراءا و جدلية.
من ناحية أخرى ، عندما يقدم ستالين المسألة يقول أعلاه: " لكي يعيش الناس عليهم ان يحصلوا على الطعام والكساء والحذاء والماوى والوقود الخ.." و يمكننا أن نسأل هنا: ألا يوجد في هذه الصيغة تلاعب بالعقول لتوجيهها قصدا الى ما نريد باضفاء صفة حيوية – مسألة حياة أو موت- على حاجيات دون أخرى؟
هل نجانب الصواب يا ترى عندما نقول وراء أبن خلدون مثلا : لكي يعيش الناس يجب عليهم ان يحصلوا على الحاجيات المادية مثلما يجب عليهم أن يمارسوا الجنس (للمحافظة على النوع و حياته) وأن يجتمعوا لأن الفرد المنعزل يموت - أو يتوحش في أحسن الحالات – وأن ينتظموا لأن الاجتماع البشري لا قيمة له دون تنظيم (القيادة و تقسيم المهام و الدفاع و الحماية،الخ) و ذلك يشترط ان يتواصلوا عبر اللغة و التفكير؟
ألا يدل كل هذا ان الصيغة التي قدمها ستالين - و التي هي تكرار لصيغ مشابهة منذ كتابة "الايديولوجيا الألمانية" من قبل ماركس وأنجلز في بداية أربعينات القرن التاسع عشر- أحادية الجانب و موجهة عمدا لخدمة مسلمة فكرية اقتضاها قلب النسق الفلسفي الهيغلي تهدف الى تأكيد أولوية وأهمية الاقتصاد الحيوية مقارنة بالأبعاد الأخرى في الحياة الانسانية؟
لكن، و حتى لا نسقط في التحليل الحيوي المقلوب بدورنا ، أليس للحاجات الاقتصادية فعلا أهمية خاصة في الحياة ، بعيدا عن منطق "العامل المحدد" أو "المقرر"؟
ألا يمكن القول فعلا ان الاقتصاد له وزن خاص نسبيا في اطار العلاقة التبادلية بين مختلف أبعاد الحياة الاجتماعية؟
نحن نعتقد ان ذلك هو الأقرب الى الصحة فعلا و لكن ليس لكونه ماديا على الطريقة الماركسية و لا لكونه سابقا أنطولوجيا وزمنيا على بقية الميادين.
ان الاقتصاد له فعلا أهمية خاصة في الحياة البشرية لأن الانسان كائن طبيعي عضوي حي ولكن من نوع خاص بحيث يلتقي مع الكائنات العضوية في حاجته الحيوية الى الحاجيات الطبيعية و لكنه لا يكتفي بالبحث عنها خاما كما تقدمها الطبيعة بل يلبي حاجته الى الغذاء و اللباس و السكن و غيرها بنشاطه الانساني المتميز نوعيا عن النشاط الحيواني.
انه يدخل في علاقة مع الطبيعة و مع غيره من البشر من خلال ممارسة – براكسيس- جسدية واعية تستعمل الطاقة العضلية و التفكير والأدوات و تتطلب و التنظيم و المأسسة ،الخ.
ان الحاجات الاقتصادية تستمد أهميتها الخاصة من كون الانسان كائنا حيا يحتاج في الحياة الى تلبية حاجيات عضوية و تزداد أهميتها ووزنها بسبب محدودية الموارد الطبيعية بسبب الندرة أو/و الملكية ( حتى في الشيوعية البدائية حيث المجتمع المشاعي هو القبيلة المستقرة أو المرتحلة في المكان / الفضاء الطبيعي).
لهذا فماركس على حق عندما يبرزالأهمية الخاصة للاقتصاد ، التي يشترك فيها مع تصور ابن خلدون عن أهمي "طرق تحصيل العيش" مثلا ، و لكنه يجانب الصواب في الطريقة النظرية التي يفسر بها تلك الأهمية ؛ في "النظرة الواحدية للتاريخ" حسب تعبير بليخانوف الشهير.
***

نعود الى نص ستالين الآن و نرى كيف يعرف "نمط" أو "اسلوب الانتاج " بالعلاقة بين القوى الانتاجية الاجتماعية و علاقات الانتاج الاجتماعية.

"ان ادوات الإنتاج التي يجري بها انتاج القيم المادية والناس الذين يشغلون ادوات الإنتاج وينفذون انتاج القيم المادية بفضل درجة من التجربة الاجتماعية والمهارة العملية، كل هذه العناصر مجتمعة تشكل قوى الإنتاج في المجتمع.
الا ان قوى الإنتاج ليست سوى وجه واحد للانتاج، سوى وجه واحد من اسلوب الإنتاج، وجه يعبر عن الانسان بمواد قوى الطبيعة التي يستفيد منها في انتاج القيم المادية. وجه اخر للانتاج، وجه اخر لاسلوب الإنتاج، هو علاقة الناس ببعضهم البعض في عملية الإنتاج، علاقات الإنتاج بين الناس. فالناس يخوضون نضالا ضد الطبيعة ويستعملون الطبيعة لانتاج القيم المادية ليسوا منعزلين عن بعضهم البعض، ليس بصفتهم اشخاص منفصلين، بل جماعة، في جماعات، بمجتمعات. وعليه فان الإنتاج في جميع الازمان وتحت جميع الظروف هو انتاج اجتماعي. في انتاج القيم المادية يدخل الناس في علاقات متبادلة من نوع أو أخر ضمن عملية الإنتاج، في علاقات انتاج من نوع أو آخر. قد تكون ثمة علاقات تعاون ومساعدة متبادلة بين الناس الاحرار من الاستغلال، وقد تكون علاقات سيادة واخضاع، واخيرا قد تكون علاقات انتقالية من شكل من علاقات الإنتاج إلى شكل آخر. ولكن مهما يكون طابع علاقات الإنتاج، فانها، دائما وفي كل نظام، تشكل عنصرا جوهريا للانتاج شأنها في ذلك شأن قوى الإنتاج الاجتماعي.
يقول ماركس:
"في الإنتاج لا يعمل الناس على الطبيعة فقط بل يعملون على بعضهم البعض وضمن هذه الارتباطات والعلاقات الاجتماعية فقط يحدث عملهم على الطبيعة، انتاجهم." (كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية م 1 ص 364)
نتيجة لذلك فان الإنتاج، اسلوب الإنتاج، يضم قوى الإنتاج الاجتماعية وعلاقات الإنتاج بين الناس كلاهما معا، وهو بذلك تجسيد وحدتهم في عملية انتاج القيم المادية."

نحن هنا أمام التعريف العام لنمط أو أسلوب الانتاج الاقتصادي كما يقدمه الفكر الماركسي باختصار شديد طبعا و يمكن ، استتباعا لما قلناه سابقا، تقديم الانتقادات التالية حول هذه الطريقة في تعريف وتحليل الظاهرة الاقتصادية.
بالطبع ان المسألة ليست مجرد مسألة لغوية و الخلاف حولها ليس خلافا أسميا.ان الخلاف حول المفاهيم و المصطلحات العلمية و الفلسفية هو خلاف معرفي و ليس لغويا.

أولا لماذا يسمى هذا الاسلوب أو النمط أسلوبا "للانتاج" تحديدا و ليس أسلوبا "للحياة الاقتصادية" او " للممارسة الاقتصادية" مثلا؟
و لماذا يقع الحديث عن "أدوات الانتاج" و "وسائل الانتاج" و " التجربة الاجتماعية و المهارة العملية" التي تعتبر" قوة عمل " داخل ما يسمى "القوى الانتاجية" الاجتماعية و ليس "القوى الاقتصادية" عموما ؟
و لماذا نتحدث عن "علاقات الانتاج " وليس "العلاقات الاقتصادية" بصفة عامة؟
و لماذا تغيب " النفسية الاقتصادية" و "الأخلاق الاقتصادية" و "العلوم الاقتصادية" و "التدين الاقتصادي " و " الجمالية الاقتصادية" و "القوانين و الأعراف الاقتصادية" و "الادارات و المؤسسات الاقتصادية" وغيرها عن التعريف والتحليل الاقتصادي نفسه؟

يعود كل هذا الى أن ماركس اختار في تحليل المجتمع تقسيم الأنشطة الاجتماعية الى مادية و غير مادية من ناحية (و بالتالى الانطلاق مما يعتبره سابقا و أوليا الى اللاحق و الثانوي) و الى انتاجية و غير انتاجية من ناحية ثانية و الى تحتية و فوقية من ناحية ثالثة و الى الانطلاق من الخاص الى العام في تحليل المجتمع – رغم التأكيد النظري على الطابع "الاقتصادي السياسي" - من ناحية رابعة ،الخ.
لنعد الى الأسئلة أعلاه و نبدأ الاجابة.

أولا: تساءلنا لماذا يسمى هذا الاسلوب أو النمط أسلوبا "للانتاج" تحديدا و ليس أسلوبا "للحياة الاقتصادية" او " للممارسة الاقتصادية" مثلا و لماذا نتحدث عن "علاقات الانتاج " وليس "العلاقات الاقتصادية" بصفة عامة ويمكن نقد ماركس بماركس نفسه هنا.

عندما يحلل ماركس نفسه الانتاج يقسمه الى قسمين : انتاج و سائل الانتاج و انتاج وسائل الاستهلاك و الاستعمال غير المنتج. و يضيف بعض الماركسيين المحدثين مثل سمير أمين قطاع "انتاج المعرفة" في دليل على الاحساس بقصر التصور الماركسي التقليدي . و عندما يحلل ماركس نفسه الاستهلاك يقسمه الى قسمين "الاستهلاك المنتج" مثل استهلاك الطاقة عند الانتاج و "الاستهلاك النهائي" مثل استهلاك الغذاء – مع ان هذا أيضا منتج للطاقة و الحياة و بالتالي لقوة العمل أيضا. وعندما يحلل العلاقات بين الانتاج و الاستهلاك يمر حتما بنظرية التداول- التبادل و تقسيم – توزيع المداخيل. قام ماركس بهذا عند تحليله لمعنى العلاقات الانتاجية الاجتماعية في كتابيه "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" و " راس المال ".
مع كل هذا يصر ماركس على الحديث عن نمط الانتاج و ليس عن نمط الحياة الاقتصادية بصفة عامة.

ثانيا: تساءلنا : لماذا يقع الحديث عن "أدوات الانتاج" و "وسائل الانتاج" و " التجربة الاجتماعية و المهارة العملية" التي تعتبر" قوة عمل " داخل ما يسمى "القوى الانتاجية" الاجتماعية و ليس "القوى الاقتصادية" عموما ؟ و لماذا تغيب " النفسية الاقتصادية" و "الأخلاق الاقتصادية" و "العلوم الاقتصادية" و "التدين الاقتصادي " و " الجمالية الاقتصادية" و "القوانين و الأعراف الاقتصادية" و "الادارات و المؤسسات الاقتصادية" وغيرها عن التعريف والتحليل الاقتصادي نفسه؟

من ناحية أولى يركز ماركس على مصطلحات الأدوات و الوسائل و القوة "الانتاجية" و ليس على "الممارسة الانتاجية" . انه يفضل مصطلحات الفيزياء من الأداة الى القوة الى الطاقة على مصطلح الفعل و الممارسة و البراكسيس التي انتقد اعتمادا عليه فيورباخ في الأطروحة الأولى التي ذكرناها أعلاه.
من ناحية ثانية يبدو و كأنه ينكرقدرة كل من النفسية الاقتصادية و الفكر الاقتصادي و التنظيم و المؤسسة الاقتصادية على التحول الى "قوة انتاجية مادية" رغم ان الماركسية تقول "ان الأفكار تصبح قوة مادية عندما تستحوذ على الجماهير".
ثالثا: نستنتج من هذا انه من الأسلم علميا الحديث عن اسلوب الحياة الاقتصادية للمجتمع بصفة عامة و تفكيكه ليس الى قوى انتاجية و علاقات انتاج بل ربما الى قوى اقتصادية و علاقات اقتصادية هي في الواقع قوى الممارسة الاقتصادية و علاقات الممارسة الاقتصادية لمجتمع ما في مرحلة تاريخية ما و في علاقة ما بالمجتمعات الأخرى في اطار الاقتصاد العالمي.
ان مصطلح قوى أو طاقات الممارسة الاقتصادية لا يكتفي بالجانب المادي و لا يجب ان يفهم كتصور ثنائي يضيف الفكري الى المادي تجنبا للأحادية.ان المسألة هي مسألة ممارسة اقتصادية و بالتالي ان القوى الاقتصادية هي عبارة عن انصهار مجموعة من العوامل المادية و غير المادية في ممارسة ذات هدف اقتصادي اي يهدف الى تلبية حاجيات اقتصادية للانسان و المجتمع.
كما اننا نفضل مصطلح العلاقات الاقتصادية للمجتمع على مصطلح علاقات الانتاج الاجتماعي و نضيف انها علاقات الممارسة الانتاجية و الاستهلاكية و التبادلية و التوزيعية للمجتع. وان العلاقات هذه هي علاقات بين البشر الممارسين للنشاط الاقتصادي العام و لا يوجد انسان لا ينخرط في هذه الممارسة ابدا ولكن لاأحد ينخرط فيها فقط من زاوية مادية بل زاوية اجتماعية عامة.
اننا نعتقد انه بهذه الطريقة نحقق أهدافا علمية عديدة اهمها:
- فهم الاقتصاد كنشاط انساني اجتماعي خاص و متميز و لكنه اجتماعي كلي في نفس الوقت ،على رأي مارسيل موس، و يندرج ضمن "الكلي العياني " الاجتماعي على رأي هيغل .
- فهم الاقتصاد على انه ممارسة اجتماعية و ليس "مادة" اجتماعية مقابلة للفكر أو للسياسة، انه ممارسة من صنف خاص وليس استعمالها للأدوات والوسائل و القوى و المواد المادية هو الذي يميزها بالمطلق فالنحت بهذه الصفة قد يصبح أكثر مادية من الاقتصاد طالما ان الماركسي التقليدي يعتبر التذون الجمالي نفسه انعكاسا جماليا للمادة الخارجية المنحوته في الدماغ العضوي من خلال الحواس... الخ.
- فهم الاقتصاد على انه متداخل و متزامن مع الأبعاد الاجتماعية الأخرى بما فيها الفكر و ليس له سبق انطولوجي وزمني وسببي-أحادي عليها اذ ان النشاط الاقتصادي الذي محوره العمل يتميز حسب ماركس نفسه عن "عمل أمهر نحلة بان الانسان يبني الشهد في دماغه قبل ان ينفذه".
- فهم الخصوصية الاقتصادية التي تجعل من هذا البعد من أبعاد الوجود الاجتماعي يزن أكثر من غيره في شبكة التفاعلات بين الممارسات الاجتماعية ليس لأنه مادي بل بسبب كونه اقتصادي بالمعنى الذي وضحناه أعلاه في علاقة بالحاجيات الاقتصادية و مدى توفرها او ندرتها حسب القوة الاقتصادية للمجتمع وثراء الطبيعة و نظام الملكية و غيرها.


***


بعد التعريف ينتقل ستالين الى اعطاء لمحة موجزة لكيفية فهم التطور الاجتماعي و مراحله و علاقة التطور الاقتصادي بالتطور في بقية الميادين . يكتب:

"ب) ان احدى خواص الإنتاج هي انها لن تبقى ثابتة على نقطة واحدة لمدة طويلة بل هي دائما في حالة تغير وتطور. اضف إلى ذلك تستدعي التغيرات في اسلوب الإنتاج بالضرورة تغيرات في النظام الاجتماعي، والاراء الاجتماعية، ووجهات النظر السياسية والمؤسسات السياسية – تستدعي اعادة بناء كامل النظام الاجتماعي والسياسي.
في المراحل المختلفة للتطور يستخدم الناس اساليب انتاج مختلفة. ولوضع ذلك بمزيد من البساطة يعيشون اساليب حياة مختلفة. في المشاعية البدائية يوجد اسلوب انتاج واحد، في العبودية يوجد اسلوب انتاج آخر، في الاقطاع يوجد اسلوب انتاج ثالث، وهكذا دواليك. وعلى هذا المنوال يختلف كذلك نظام الناس الاجتماعي، الحياة الروحية للناس، نظرتهم السياسية ومؤسساتهم السياسية.
وكيفما يكون اسلوب انتاج مجتمع ما، هكذا يكون، بصورة اساسية، المجتمع نفسه، آراؤه ونظرياته، وجهات نظره السياسية ومؤسساته السياسية.
أو، لوضع ذلك بمزيد من البساطة، كيفما يكون اسلوب حياة الانسان، هكذا يكون اسلوب تفكيرهم.
هذا يعني ان تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج، تاريخ اساليب الإنتاج التي خلف احدها الاخر في مسرى القرون، تاريخ تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج بين الناس.
وعليه، فان تاريخ التطور الاجتماعي هو في نفس الوقت تاريخ منتجي القيم المادية انفسهم، تاريخ الجماهير الكادحة الذين هم القوة الرئيسة في عملية الإنتاج والذين ينجزون انتاج القيم المادية الضرورية لوجود المجتمع.
ولهذا فاذا اريد ان يكون علم التاريخ علما حقيقيا، فلا يمكن بعد الان اختزال تاريخ التطور الاجتماعي إلى اعمال الملوك والجنرالات، إلى اعمال"الفاتحين" و "مخضعي" الدول، بل يجب فوق كل شيء تكريس نفسه إلى تاريخ منتجي القيم المادية، تاريخ الجماهير الكادحة هذه، تاريخ الشعوب.
ولهذا فان مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع يجب الا نبحث عنه في ادمغة الناس، في نظرات واراء المجتمع، بل في اسلوب الإنتاج الذي مارسه المجتمع في اية فترة تاريخية، علينا ان نبحث عنه في الحياة الاقتصادية للمجتمع.
ولهذا فان المهمة الرئيسة لعلم التاريخ هي دراسة وكشف قوانين الإنتاج، قوانين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، قوانين تطور المجتمع الاقتصادي.
ولهذا اذا اراد حزب البروليتاريا ان يكون حزبا حقيقيا، عليه فوق كل شيء ان يحوز على معرفة قوانين تطور الإنتاج، قوانين تطور المجتمع الاقتصادي.
ولهذا اذا اراد الحزب الا يخطئ في السياسة، عليه سواء في وضع منهاجه أو في نشاطاته العملية ان ينهج بالاساس من قوانين تطور الإنتاج، من قوانين تطور المجتمع الاقتصادي."


ان التاريخ اذا ، كما ذكر ذلك انجلز في احدى مقدمات "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" و منذ" المشاعية البدائية" هو "تاريخ صراع الطبقات". و ان علم التاريخ هو أولا وقبل كل شيء علم التاريخ الاقتصادي للمجتمع، علم الصراع بين قوى الانتاج و علاقات الانتاج و تاريخ انماط الانتاج. وانه يجب البحث عن "مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع" ليس " في ادمغة الناس، في نظرات واراء المجتمع، بل في اسلوب الإنتاج الذي مارسه المجتمع في اية فترة تاريخية، علينا ان نبحث عنه في الحياة الاقتصادية للمجتمع."
كنا قد قدمنا نقدنا الأساسي لمفهوم الاقتصاد قبل قليل و ينطبق ذلك النقد على مفهوم التطور الاقتصادي نفسه. ان الماركسية بهذا لا تصبح فقط فلسفة اقتصادوية مادية بل فلسفة تاريخية اقتصادوية و هي بالتالي ليست علما للتاريخ كما تحاول أن تكون. فاذا كان تصورها عن المجتمع خاطئا فكذلك تصورها عن تاريخه و عن علمه الذي عليه ان يكتشف القوانين في التفاعل بين الآقتصاد والفكر وغيرها من الميادين وليس في ميدان واحد مرجعي وأولي يقع اعتماده لاحقا كمبدأ تفسيري في كل الميادين المتبقية الأخرى.

***
ان ما يؤكد الطابع الفلسفي التطوري التاريخي غير العلمي للماركسية ينكشف أكثر عند التعرض لتاريخ كل من "القوى الانتاجية" و "علاقات الانتاج" الاجتماعية والعلاقة بين هذه القوى وتلك العلاقات الانتاجية.
يكتب ستالين:

" ج) والخاصية الثانية للانتاج هي ان تغيره وتطوره يبدأ دائما بتغيرات وتطور قوى الإنتاج، وبالدرجة الرئيسة، بتغيرات وتطور ادوات الإنتاج. ان قوى الإنتاج بناء على ذلك هي عنصر الإنتاج الاكبر حركة وثورية. فقوى انتاج المجتمع تتغير وتتطور اولا، ثم، استنادا إلى هذه التغيرات، وبالانسجام معها، تتغير علاقات الناس الإنتاجية، علاقاتهم الاقتصادية. وهذا لا يعني طبعا، ان علاقات الإنتاج لا تؤثر في تطور قوى الإنتاج وان الاخيرة لا تعتمد على الاولى. فبينما يعتمد تطور علاقات الإنتاج على تطور قوى الإنتاج فان علاقات الإنتاج بدورها تفعل مفعولها على تطور قوى الإنتاج، بتسريعه أو اعاقته. بهذا الخصوص يجب ملاحظة ان علاقات الإنتاج لا يمكن ان تتاخر لوقت طويل جدا وبحالة تناقض مع نمو قوى الإنتاج بقدر ما لا تستطيع قوى الإنتاج ان تتطور تطورا كاملا الا حين تكون علاقات الإنتاج منسجمة مع طابع قوى الإنتاج، مع حالتها، وتسمح لها باقصى مجالات التطور. لهذا، مهما ازدادت علاقات الإنتاج تأخرا وراء تطور قوى الإنتاج فانها يجب ان تصبح منسجمة مع – وان تصبح فعلا منسجمة مع – مستوى تطور قوى الإنتاج وطابع قوى الإنتاج ان عاجلا أو اجلا. والا فيحصل خرق اساسي لوحدة قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ضمن نظام الإنتاج، وتفكك الإنتاج ككل، ازمة الإنتاج، تفكك قوة الإنتاج.
ان الحالة التي لا تنسجم معها علاقات الإنتاج مع طابع قوى الإنتاج، تتصادم معها، هي حالة الازمة الاقتصادية في البلدان الراسمالية، حيث تكون الملكية الراسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج في حالة عدم انسجام صارخ مع الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج، مع طابع قوى الإنتاج. ينجم هذا عن ازمة اقتصادية تؤدي إلى تدمير قوى الإنتاج. اضف إلى ذلك، يشكل عدم الانسجام هذا الاساس للثورة الاجتماعية التي تهدف إلى تحطيم علاقات الإنتاج القائمة وخلق علاقات انتاج جديدة تنسجم مع طابع قوى الإنتاج.
على العكس من ذلك، ان الحالة التي فيها تكون علاقات الإنتاج منسجمة تماما مع طابع قوى الإنتاج هي حالة الاقتصاد الوطني الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي حيث الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج تنسجم تمام الانسجام مع طابع قوى الإنتاج وحيث لهذا السبب لا وجود للازمات الاقتصادية ولا لتحطيم قوى الإنتاج.
وبناء على ذلك فان قوى الإنتاج ليست فقط العنصر الاكثر حركة وثورية في الإنتاج بل كذلك العنصر المقرر في تطور الإنتاج.
ايا تكون قوى الإنتاج كذلك يجب ان تكون علاقات الإنتاج.
بينما يقدم وضع قوى الإنتاج الجواب على السؤال – باية ادوات انتاج ينتج الناس القيم المادية التي يحتاجونها – فان وضع علاقات الإنتاج يقدم الجواب على سؤال اخر – من يمتلك وسائل الإنتاج (الارض، الغابات، الماء، الثروات المعدنية، المواد الخام، ادوات الإنتاج، الخ..)، من يتحكم بوسائل الإنتاج، أهم المجتمع كله، ام اشخاص افراد، أو جماعات أو طبقات اخرى؟"

أذن ، العامل الاقتصادي هو "المقرر الأول " في المجتمع و بقية العوامل تؤثر عبر رد الفعل فتعيق أو تسرع التطور الاقتصادي.و داخله – الاقتصاد- تعتبر "قوى الانتاج" أكثر تحديدا و تقريرا من "علاقات الانتاج " و هذه العلاقات هي أيضا:" بدورها تفعل مفعولها على تطور قوى الإنتاج، بتسريعه أو اعاقته " .و داخل قوى الانتاج نفسها فان "أدوات الانتاج" هي العنصر "الأكثر حركية و ثورية.
من ناحية ثانية ان العلاقة بين قوى الانتاج و علاقات الانتاج في كل أساليب الانتاج تبدأ منسجمة ثم تتطور نحو التناقض الذي يؤدي الى تعاقب أساليب الانتاج التاريخية خلف بعضها البعض .و لكن عندما نصل الى الاشتراكية تظهر حالة جديدة هي " ...التي فيها تكون علاقات الإنتاج منسجمة تماما مع طابع قوى الإنتاج ،هي حالة الاقتصاد الوطني الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي حيث الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج تنسجم تمام الانسجام مع طابع قوى الإنتاج وحيث لهذا السبب لا وجود للازمات الاقتصادية ولا لتحطيم قوى الإنتاج."
لكن لا يجب التوقف هنا لأن ستالين في الفقرة الموالية و بعد عرض موجر لتاريخ تطور قوى الانتاج يصل الى ذكر دور البشر في هذه العملية.يقول:

" فيما يلي صورة موجزة لتطور قوى الإنتاج منذ العصور الغابرة إلى ايامنا. ان الانتقال من الادوات الحجرية الاولية إلى القوس والنشاب، والانتقال من الادوات الحجرية إلى الادوات المعدنية (الفأس الحديدية، المحراث الخشبي المزود بحديدة قاطعة الخ..)، مع الانتقال المتطابق للحراثة والزراعة، تحسين اخر للادوات المعدنية لتطوير المواد، ادخال منفاخ الحداد، ادخال صناعة الخزف مع تطور الحرف المتطابقة معها، انفصال الحرف عن الزراعة، تطور صناعة حرفية مستقلة ونتيجة لذلك تطور المانيفكتورا، الانتقال من ادوات المانيفكتورا إلى المكائن وتحويل الحرف والمانيفكتورا إلى صناعة المكائن، الانتقال إلى نظام المكائن ونشوء صناعة المكائن الحديثة الواسعة النطاق – هذه صورة عامة بعيدة عن الكمال لتطور قوى الإنتاج في المجتمع خلال تاريخ الانسان. من الواضح الجلي ان تطوير وتحسين ادوات الإنتاج قد اجراه الناس الذين كانوا مرتبطين بالإنتاج، وليس بالاستقلال عن هؤلاء الناس؛ وبناء على ذلك، فان تغيير وتطوير ادوات الإنتاج قد رافقه تغيير وتطور الناس، باعتبارهم اهم عنصري قوى الإنتاج، بتغير وتطور ميزاتهم الإنتاجية، مهاراتهم العملية، قدراتهم على تناول ادوات الإنتاج.
بالانسجام مع تغير وتطور قوى انتاج المجتمع في مسار التاريخ، تغيرت وتطورت ايضا علاقات انتاجهم، علاقاتهم الإنتاجية."
من ناحية ثالثة اذن، فان " من الواضح الجلي ان تطوير وتحسين ادوات الإنتاج قد اجراه الناس الذين كانوا مرتبطين بالإنتاج، وليس بالاستقلال عن هؤلاء الناس؛ وبناء على ذلك، فان تغيير وتطوير ادوات الإنتاج قد رافقه تغيير وتطور الناس، باعتبارهم اهم عنصري قوى الإنتاج، بتغير وتطور ميزاتهم الإنتاجية، مهاراتهم العملية، قدراتهم على تناول ادوات الإنتاج."

هكذا اذن تكتمل لوحة العوامل الاقتصادية و تطوراتها التي تحتوي على مفارقات حقيقية في التحليل.

أولا: كيف نعتبر تارة ان "أدوات الانتاج" هي أكثر عناصر قوى الانتاج "حركية و ثورية" و أنها هي التي تحدد و تقرر" وضع قوى الانتاج" الاجتماعية ثم نذكر لاحقا بعلاقة هذا مع الناس ونقول ان هؤلاء هم" أهم عنصري قوى الانتاج" ؟
هل العنصر الأهم من "عنصري قوى الانتاج" (البشر) ليس هو أكثر العناصر "حركية و ثورية" و ليس هو من يحدد" طابع قوى الانتاج"؟
هنا يقتل النسق الفلسفي المغلق التحليل العلمي مرة جديدة فنحن أمام خلط شبه تام تقريبا يجعل ستالين يقول الشيء و نقيضه لأنه يريد أن يكون ماديا وفيا للنسق دون أن ينسى البشر "الذين كانوا مرتبطين بالانتاج" و الذين يرافق (فقط -هكذا) تغييرهم و تطورهم " تغيير و تطوير ادوات الانتاج" .ان ستالين لا يستطيع حسم أمره فتارة أدوات الانتاج هي الأهم و العنصر المقرر و المحدد و طورا يعتبر البشر" أهم عنصري الانتاج".

ثانيا: بالنسبة لستالين "قوى الانتاج" هي العنصر المقرر و المحدد أما "علاقات الانتاج" – و هنا يعيد ستالين صياغة سابقة كان ذكرها حول العناصر غير الاقتصادية- فهي فقط يمكن "أن تسرع أو تعرقل" تطور "قوى الانتاج" .كأننا بقوى الانتاج لها من الاستقلالية عن "علاقات الانتاج" ما يضاهي استقلال المادة عن الفكر و الوجود الاقتصادي -الاجتماعي عن الوعي الاجتماعي.
هل يعقل أن تكون علاقات الانتاج الاجتماعية مجرد عامل "مساعد أو معرقل" لتطور قوى الانتاج ، هذا التطورالذي يبدو وكأنه مسار مستقل عن علاقاتهم الانتاجية و "يرافقه" تطور البشر أنفسهم "لاغير" تقريبا؟

ثالثا: لماذا يعتبر ستالين أن تطور أساليب الانتاج كلها يحركه تناقض القوى الانتاجية مع علاقات الانتاج الا في " الاقتصاد الوطني الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي" حيث يسود " الانسجام التام" بين قوى الانتاج و علاقاته الاجتماعية؟
ألم تكن قوى الانتاج منسجمة مع علاقات الانتاج في المشاعية البدائية و مع ذلك عقبتها العبودية؟ ألا يمكن أن يحصل مثل ذلك في الشيوعية أيضا؟ ألم يكن يجب تصور احتمال ذلك نظريا على الأقل؟ أم ان ذلك سوف يقوض التصور الهيغلي /الماركسي عن "التأليف" و يفقد الماركسية ثقتها في الجنة الأرضية التي وعدت بها و بالتالي يفقد الناس ثقتهم فيها؟
وهل يوجد في الديالكتيك الماركسي حديث عن "انسجام المتناقضات"؟ أم ان الاشتراكية- و خاصة الشيوعية- تمثل "نهاية التاريخ " الذي تبطل فيه قوانين التناقضات الجدلية لأن الجدل يتحقق بكامله في "التأليف" النهائي للتاريخ؟ أم ان تصور الماركسية عن التناقضات الاجتماعية هو الخاطئ بحيث يجب البحث عن طريقة أخرى في التفسير؟
اننا نعتقد ان المشكل الحقيقي هو في النظرية التي تتردد ولا تعتبرأن البشر و ممارستهم الاقتصادية هم العنصر الأساسي الحقيقي في التطورالاقتصادي بحجة ان "أدوات الانتاج" أكثر العناصر حركة و الحال أن تلك الأدوات نفسها يصنعها البشرأنفسم و يستعملونها وهم بالتالي من يحركونها و يطورونها أصلا .
كما ان المشكل هو في النظرية التي تعتبر العلاقات الانتاجية – وليس حتى الاقتصادية كما قلنا- مجرد عامل يسرع أو يعرقل تطور قوى الانتاج التي يبدو تطورها و كأنه يجري مستقلا. و الحال انه لا يمكن فهم "قوى الانتاج "أصلا الا في اطار "علاقات الانتاج" اذ ان "ادوات الانتاج" العزيزة على الماركسية جدا لا تكون أدوات انتاج أصلا الا ضمن علاقة الانسان الانتاجية الاقتصادية بالطبيعة و بغيره من البشر.
ان ماركس نفسه يقول ذلك في تحليلاته الجزئية لكن الأنساق الفلسفية المغلقة لها ضروراتها التي تجعلها تتنكر لروح الديالكتيك داخلها.
ان أية أداة ، من عصا البدائي الى أرقى أدواتنا العصرية، لا تصبح أداة انتاج تحديدا الا ضمن علاقة انتاجية و الا فقد تبقى اداة بشرية تستعمل في ميدان خارج الانتاج مثلا. و ان لنا في أعضائنا نفسها خير مثال ، فاليد التي ترسم ليست اداة للانتاج – الا اذا رسمت بهدف الانتاج و ليس الفن – و لكنها هي نفسها تصبح اداة انتاج حينما نستعملها في العمل. و ان العصا التي يستعملها الشيخ للاستناد عليها أثناء المشي ليست أداة انتاج لحظتها أما اذا استعملها في التقاط الثمار او زرع البذار او استخراج غلة تلك البذار أو خضرواتها فتصبح أداة انتاج وقتها.
ان نفس الشيء يمكن قوله عن وسائل الانتاج مثل المواد الأولية .فالبترول – كما ذكرنا سابقا- لا يصبح مادة أولية ضمن و سائل الانتاج الا عندما نبدأ في استغلاله اقتصاديا وانه من غير المنطقي تماما الفصل المتعسف هذا بين عنصري أسلوب الانتاج.
ان المشكل في الماركسية هو البحث المفتعل عن العنصر "الأكثر مادية" لتقديمه دائما كعنصر أولي و أساسي و أكثر ثورية خدمة للنسق الفلسفي و ليس للحقيقة الطبيعية أو الاجتماعية التاريخية و سيظهر هذا أيضا عندما نصل الى "تاريخ علاقات الانتاج" نفسها في ما يلي.


-16-
يكتب ستالين:
" عرفت خمسة انواع من علاقات الإنتاج في التاريخ: المشاعية البدائية، العبودية، الاقطاع، الراسمالية والاشتراكية.
ان اساس علاقات الإنتاج في ظل النظام المشاعي البدائي هو ان وسائل الإنتاج مملوكة جماعيا. وهذا ينسجم بصورة رئيسية مع طابع قوى الإنتاج في تلك الفترة. الادوات الحجرية وبعدها القوس والنشاب، أعاق ان يقوم الناس منفردين في مكافحة قوى الطبيعة والحيوانات المفترسة. من اجل جمع فواكه الغابات وصيد السمك، وبناء نوع من المأوى، اضطر الناس إلى العمل مجتمعين اذا لم يريدوا ان يموتوا جوعا، أو ان يقعوا فرائس للحيوانات المفترسة أو ضحايا للمجتمعات المجاورة. ان العمل سوية ادى إلى الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وكذلك لثمار الإنتاج. هنا لم توجد بعد فكرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فيما عدا الملكية الشخصية لبعض ادوات الإنتاج التي كانت في الوقت ذاته وسائل للدفاع ضد الحيوانات المفترسة. هنا لم يكن ثمة استغلال ولا طبقات.
ان اساس علاقات الإنتاج في ظل النظام العبودي هو ان مالك العبيد يملك وسائل الإنتاج؛ هو كذلك يمتلك العامل في الإنتاج – العبد الذي يستطيع بيعه أو شراءه أو قتله كما لو كان حيوانا. ان علاقات الإنتاج هذه تنسجم بصورة رئيسية مع حالة قوى الإنتاج في تلك الفترة. فبدلا من الادوات الحجرية اصبح تحت تصرف الانسان الان ادوات معدنية؛ وبدلا من اقتصاد الصياد، البائس البدائي الذي لم يكن يعرف الرعي ولا الحرث ظهر الان الرعي والحرث والحرف، وتوزيع العمل بين فروع الإنتاج هذه. تظهر هنا امكانية تبادل المتتجات بين الافراد وبين الجماعات، امكانية تراكم الثروة في ايدي القلائل من الناس، التراكم الفعلي لادوات الإنتاج في ايدي الاقلية، وامكانية اخضاع الاقلية للاغلبية وتحويلها إلى عبيد. لم نجد هنا العمل العام الحر لاعضاء المجتمع في عملية الإنتاج – هنا يسود عمل العبيد القسري، لا توجد ملكية عامة لوسائل الإنتاج أو لثمار الإنتاج. لقد حلت محلها الملكية الخاصة. هنا يبدو مالك العبيد مالك الثروة الرئيسي والاساسي بكل ما في العبارة من معنى.
ثمة الغني والفقير، المستغل والمستغل، اناس لهم كامل الحقوق واناس لا حقوق لهم، وصراع طبقي ضار بينهم – هذه هي صورة النظام العبودي.
ان اساس علاقات الإنتاج في ظل نظام الاقطاع هي ان السيد الاقطاعي يمتلك وسائل الإنتاج ولكنه لا يمتلك عامل الإنتاج – القن – امتلاكا تاما، لم يعد السيد الاقطاعي يستطيع قتل القن ولكنه يستطيع شراءه أو بيعه. إلى جانب الملكية الاقطاعية ثمة ملكية فردية يمتلك فيها الفلاح والحرفي ادوات انتاجه ومشروعه الخاص القائم على اساس عمله الشخصي. ان علاقات الإنتاج هذه تنسجم بالدرجة الرئيسية مع حالة قوى الإنتاج في تلك الحقبة. تحسينات اخرى في صهر الحديد والعمل به، انتشار المحراث الحديدي والمغزل، مزيد من التطور في الزراعة والبستنة وزراعة الكروم، وصناعة الالبان، ظهور المانيفاكتورات إلى جانب الورشات الحرفية – هذه هي المعالم المميزة لحالة قوى الإنتاج.
تتطلب قوى الإنتاج الجديدة ان يبدي الكادح شيئا من المبادأة في الإنتاج وميلا للعمل واهتماما بالعمل. لذا فان السد الاقطاعي ينبذ العبد باعتباره عامل لا اهتمام له بالعمل وعديم المبادأة اطلاقا، ويفضل التعامل مع القن الذي يمتلك اقتصاده الخاص وادوات انتاجه وبعض الاهتمام فيي العمل الشيء الجوهري في زراعة الارض ويدفع جزءا من حصاده عينا إلى السيد الاقطاعي.
هنا تطورت الملكية الخاصة تطورا اضافيا والاستغلال ما زال كما كان في ظل العبودية تقريبا – لقد جرى تلطيفه بعض الشيء. ان الصراع الطبقي بين المستغلين والمستغلين هو الصفة الرئيسية للنظام الاقطاعي.
ان المعالم الرئيسية لعلاقات الإنتاج في ظل النظام الراسمالي هي ان الراسمالي يمتلك وسائل الإنتاج، ولا يمتلك العمال في الإنتاج – العمال بأجور الذين لا يستطيع الراسمالي قتلهم ولا بيعهم لانهم احرار شخصيا، ولكنهم محرومون من وسائل الإنتاج ولكي لا يموتون جوعا هم مضطرون إلى بيع قوة عملهم إلى الراسمالي وان يرزحوا تحت نير الاستغلال. إلى جانب الملكية الراسمالية لوسائل الإنتاج نجد اولا نطاقا واسعا من الملكية الخاصة للفلاحين واصحاب الحرف في ملكية وسائل الإنتاج، وهؤلاء الفلاحون واصحاب الحرف لم يعودوا اقنانا، وتقوم ملكيتهم الخاصة على اساس كدحهم الشخصي.وبدلا من الورشات الحرفية والمانيفاكتورات تظهر معامل ومصانع مجهزة بالمكائن. وبدلا من القطع الزراعية للفلاح المزروعة بادوات انتاج بدائية، تظهر الان مزارع راسمالية واسعة تدار بطرق علمية ومزودة بالمكائن الزراعية.
ان قوى الإنتاج الجديدة تتطلب ان يكون العمال في الإنتاج افضل ثقافة واكثر ذكاء من الاقنان المسحوقين الجهلة، ان يكونوا قادرين على فهم المكائن وعلى تشغيلها، وعليه فان الراسمالي يفضل التعامل مع عمال باجور احرار من القيود يحوزون على ما يكفي من الثقافة لكي بستطيعون تشغيل المكائن تشغيلا صحيحا.
ولكن الراسمالية، وقد طورت قوى الإنتاج إلى مدى واسع جدا، وقعت في شرك من التناقضات لا تستطيع التخلص منه. فبانتاج كميات اوسع واوسع من السلع، وتخفيض اسعارها تفاقم الراسمالية المنافسة وتدمر عددا كبيرا من الملاك الخاصين الصغار والمتوسطين وتحولهم إلى بروليتاريين وتخفض من قدراتهم الشرائية، وينجم عن ذلك انها لا تستطيع التخلص من السلع المنتجة. ومن الناحية الثانية، بتوسيع الإنتاج وتركيز ملايين العمال في مصانع ومعامل عملاقة تضفي الراسمالية على عملية الإنتاج طابعا اجتماعيا وبذلك تقوض اساسها الخاص، طالما يتطلب الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج؛ مع ذلك تبقى وسائل الإنتاج ملكية راسمالية خاصة لا تنسجم مع الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج.
هذه التناقضات المتضاربة بين طابع قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تبدو محسوسة في ازمات فيض الإنتاج الدورية حين لا يجد الراسماليون طلبا على بضائعهم نظرا لدمار جمهور السكان الذين خلقوهم هم بانفسهم، يضطرون إلى احراق منتجاتهم، وتدمير البضائع المتتجة وايقاف الإنتاج وتدمير قوى الإنتاج في الوقت الذي يضطر الملايين من الناس ان يصبحوا عاطلين يتضورون جوعا لا لعدم وجود الكميات الكافية من البضائع بل لوجود فيض من انتاج البضائع.
وهذا يعني ان علاقات الإنتاج الراسمالية توقفت عن الانسجام مع حالة قوى انتاج المجتمع واصبحت في تناقض متعارض معها.
وهذا يعني ان الراسمالية تتمخض عن الثورة التي رسالتها هي الاستعاضة عن الملكية الراسمالية القائمة لوسائل الإنتاج بملكية اشتراكية.
وهذا يعني ان الصفة الاساسية للنظام الراسمالي هي اشد اشكال الصراع الطبقي حدة بين المستغلين وموضوع الاستغلال.
ان اساس علاقات الإنتاج في ظل النظام الاشتراكي الذي تأسس لحد الان في الاتحاد السوفييتي فقط، هو الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج. هنا لا يوجد مستغلون ومستغلون بعد الان. توزع البضائع المنتجة وفقا للعمل المنجز وفقا لمبدأ "من لايعمل لا يأكل". هنا تتميز العلاقات المتبادلة بين الناس وعملية الإنتاج بالتعاون الرفاقي والمساعدة الاشتراكية لعمال تحرروا من الاستغلال. هنا تنسجم علاقات الإنتاج انسجاما تاما مع حالة القوى المنتجة لان الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج تتعزز بالملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج.
لهذا السبب لا يعرف الإنتاج الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي ازمات دورية لفيض الإنتاج ولا الحماقات المرافقة لها.
لهذا السبب تتطور قوى الإنتاج هنا بخطوات متسارعة لان علاقات الإنتاج التي تنسجم معها تمنح اوسع المجال لهذا التطور.
هذه هي صورة تقدم علاقات انتاج الناس في مسار التاريخ البشري.
هكذا هو اعتماد تطور علاقات الإنتاج على تطور قوى الإنتاج في المجتمع، وبالدرجة الرئيسية، على تطور ادوات الإنتاج، هذا الاعتماد الذي بفضله تؤدي تغييرات وتطورات قوى الإنتاج، عاجلا أم آجلا، إلى تغييرات وتطورات علاقات الإنتاج.
يقول ماركس:
"ان استخدام وتصنيع ادوات العمل، ولو انها موجودة جنينيا بين بعض فصائل الحيوانات، فهي تميز خصيصا عملية العمل الانساني، ولذلك عرف فرانكلين الانسان كحيوان يصنع الالات. ان اثار ادوات عملية العمل المندثرة لها نفس الاهمية في تحريات الاشكال الاقتصادية المندثرة التي تقدمها العظام المتحجرة لتقرير فصائل الحيوانات المندثرة. ليست الادوات المصنوعة وانما كيف يجري صنعها وباية ادوات، هو الذي يجعل بامكاننا التمييز بين العصور الاقتصادية التي يجري في ظلها ذلك العمل." (كارل ماركس، الراسمال، الجزء الاول، ص 159)

ثم:
"العلاقات الاجتماعية ترتبط ارتباطا وثيقا بقوى الإنتاج. بالحصول على قوى انتاج جديدة يغير الناس اسلوب انتاجهم؛ ويتغير اسلوب انتاجهم، بتغيير طريقة الحصول على رزقهم، يغيرون جميع علاقاتهم الاجتماعية. فالرحى تعطيك مجتمعا مع السيد الاقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك مجتمعا مع الراسمالي الصناعي." (كارل ماركس، فقر الفلسفة، الطبعة الانجليزية ص 92)

ثم:
"ثمة حركة مستمرة في نمو قوى الإنتاج، في تحطيم علاقات الإنتاج، في تكوين الاراء، فالشيء الواحد الثابت لا يتغير هو تجريد الحركة." (نفس المصدر ص 93)

يقول انجلز لدى التحدث عن المادية التاريخية كما صيغت في البيان الشيوعي:
"ان الإنتاج الاقتصادي وتركيب المجتمع في كل عصر تأريخي نشأ عنه بالضرورة يشكلان اساس التاريخ السياسي والفكري لذلك العصر ... وعليه فمنذ انحلال الملكية المشاعية البدائية للارض كان كل التاريخ تاريخ الصراعات الطبقية، صراعات بين المستغلين والمستغلين، بين الطبقات المسودة والطبقات السائدة في مختلف مراحل التطور الاجتماعي ... وقد بلغ هذا الصراع الان مرحلة لم تعد فيها الطبقة المستغلة المضطهدة (البروليتاريا) تستطيع ان تحرر نفسها من الطبقة التي تستغلها وتضطهدها (البرجوازية) بدون ان تحرر في الوقت ذاته للابد المجتمع باسره من الاستغلال والاضطهاد والصراعات الطبقية." (كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية، م 1 ص 192 - 193)"


نقلنا هنا اقتباسا مطولا جدا حول مايسمى "اللوحة الخماسية الماركسية اللينينية" لأساليب الانتاج التاريخية.
اننا لن نهتم هنا بكل التفاصيل بل سنركز على الأهم و هو حسب رأينا:
- تفسير طريقة تعاقب "أساليب الانتاج".
- علاقة ذلك بالصراع الطبقي.
- سبب وجود اللوحة الخماسية و مصداقيته و سبب ايقاف هذا التعاقب.

لكن قبل هذا كله يحتوي الاقتباس المطول هذا على تعريف للانسان يستقيه ماركس من فرانكلن و مفاده " "ان استخدام وتصنيع ادوات العمل، ولو انها موجودة جنينيا بين بعض فصائل الحيوانات، فهي تميز خصيصا عملية العمل الانساني، ولذلك عرف فرانكلين الانسان كحيوان يصنع الالات."(راس المال)

ان هذا التعريف للانسان قد يكون جوهر المصيبة في التحليل الاقتصادي الماركسي بل و في "التحليل الأنتروبولوجي" الماركسي الذي بدأه أنجلز في بحثه الشهير "دور العمل في تحويل القرد الى انسان" .
يظهر هذا التعريف نسبيا منذ كتاب "الايديولوجيا الألمانية" و لكنه ظل عاما وقتها و بدأ يتوضح أكثر مع أواخر الأربعينات من القرن التاسع عشربعد" البيان الشيوعي" و" مبادئ الشيوعية"(أنجلز) و بعد الصراع مع برودون و اكتشاف االاقتصاد السياسي الأنجليزي .
اذا كان الانسان هو "صانع للأدوات" فان "أدوات الانتاج" تصبح العنصر المقرر و المحدد الرئيسي في قوى الانتاج و بالتالي في تحول علاقات الانتاج و أساليبها .
و لكن حتى لو نقبل بهذا التعريف الأحادي أصلا فيفترض انه عندما نقول "الانسان صانع، للأدوات ،على وزن فاعل، لا نعطي بعدها للمغعول به الدور الأكثر ثورية؟ فهل الأدوات أهم و اكثر ثورية من صانعها؟
ولماذا لا نعرف الانسان بكل مايميزه عن الحيوان و ليس بعنصر و احد علما و ان " استخدام وتصنيع ادوات العمل، ... موجودة جنينيا بين بعض فصائل الحيوانات"
لماذا لم نعرف الانسان الاقتصادي نفسه بكل قواه و علاقاته الانتاجية التي تغيب كلها تقريبا عند الحيوان الذي ليس عنده لا أدوات انتاج و لا وسائل انتاج و لا قوة عمل و لا علاقات انتاج طالما ان مصطلح "العمل " نفسه بوصفه مجهودا عضليا و فكريا واعيا و متجددا يمارس على الطبيعة في اطار العلاقة بالمجتمع غائب عند الحيوان. اان الحيوان يبذل مجهودا جسديا متكررا في الغالب لتلبية حاجيات في مجموعات حيوانية أو فرديا دون استعمال حقيقي للأدوات التي تكمل جسده ( وان استعمل مايشبهها فلا يطورها) و لا للفكر(وان اقترب من ذلك نسبيا عند أرقى الحيوانات) الذي يجعل الانسان متميزا فعلا بوصفه كائنا اجتماعيا عاملا و عاقلا فريدا، الخ.
لماذا يعرف الانسان الاقتصادي الماركسي بما يصنعه من أدوات و ليس بكامل ما يميز نشاطه الاقتصادي من مادي و فكري في نفس الوقت؟ و لماذا يقع التركيز على أدوات الانتاج تحديدا؟ ألا يدل ذلك على ضيق صدر بالوقائع يعود الى المنحى النسقي الفلسفي ؟

لقد وصل الأمر بأنجلز في "دور العمل في تحويل القرد الى انسان " الى مايشبه المديح الملحمي لليد البشرية على حساب الدماغ ، المادة الأكثر تطورا في نظرية المعرفة، لتبرير فكرة ان العمل "خلق الانسان" و ان العمل هو بالأساس "استعمال لأدوات" من قبل "اليد البشرية".
نكتفي بهذا الآن و نعود الى النقاط الثلاثة التي ذكرناها.

أولا: بالنسبة للماركسية، وكما رأينا ذلك سابقا ، تتطور قوى الانتاج ، و خاصة أدوات الانتاج ، بسرعة تصبح فيها علاقات الانتاج غير قادرة على استيعاب التراكمات الكمية هذة فيِؤدي الأمر الى قفزة نوعية تتمثل في تغيير علاقات الانتاج و بالتالي أسلوب الانتاج برمته. يذكر ستالين جملة ماركس الشهيرة في "بؤس الفلسفة" : "... فالرحى تعطيك مجتمعا مع السيد الاقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك مجتمعا مع الراسمالي الصناعي".
ان المشكلة هنا هي التالية: هل تطور أدوات الانتاج هو الذي يغير "العلاقات الانتاجية " في نهاية التحليل"ام ان الأمر مختلف؟
اننا نعتقد ان تطور ادوات الانتاج يكون له تأثير مباشر على التقسيم التقني للعمل داخل العلاقات الموجودة و قد يساهم في التأثير على التقسيم الاجتماعي للعمل داخل تلك العلاقات نفسها أما أن ان نعطيه الدور المقرر في تغيير علاقات الانتاج برمتها فهذا غير مقبول لأن البشر هم من يغيرون ادواتهم و علاقاتهم الاقتصادية بممارساتهم الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية بكاملها.
ان تغيير العلاقات الاقتصادية يؤثر في كل شيء اذا فهمناه على انه تغيير اسلوب الانتاج أو نمط الحياة الاقتصادية بصفة عامة. ذلك يتطلب تغييرا في الاقتصاد والاجتماع و السياسة و الثقافة في نفس الوقت و هو بالتأكيد لا يمكن ان نعزيه لتطور "أدوات الانتاج" و لا حتى "قوى الانتاج" المادية بالأساس.

ثانيا: في الفقرات الطويلة أعلاه يقع ذكر الطبقات الاجتماعية منذ العهد العبودي الى الرأسمالي و يذكر ستالين بجملة أنجلز الشهيرة في "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة " و القائلة " ... وعليه فمنذ انحلال الملكية المشاعية البدائية للارض كان كل التاريخ تاريخ الصراعات الطبقية" .
ان التاريخ – حسب ستالين مثلا - علمنا ان روسيا السوفياتية مرت الى الاشتراكية و قوى الانتاج المادية فيها متخلفة تماما مما جعل لينين يتحدث عن "الحلقة الأضعف في السلسلة الامبريالة" وجعل ستالين نفسه في كتابيه "أسس اللينينية" و "مسائل اللينينية" ينقد ما سماه "نظرية قوى الانتاج" الرجعية و غير الثورية.
كما ان الماركسيين يذكرون لينين مرات عديدة عندما يعرفون "الوضع الثوري" فيرجعون الى كراسه "موضوعات ابريل/نيسان" للقول ان الوضع الثوري يبدأ عندما تعجز الطبقات الحاكمة عن مواصلة الحكم كما كانت تفعل و تعجز الطبقات المحكومة عن مواصلة تحمل الوضع. فلماذا يقول الماركسيون اللينينيون شيئا و يمارسون نقيضه؟
لماذا يتم التحليل النظري بقوى الانتاج عموما و بأدوات الانتاج تحديدا بينما في الممارسة يصبح النضال البشري هو المحرك الأساسي و تصبح "نظرية قوى الانتاج" رجعية و انتهازية و تحريفية،الخ.
بل لماذا يقول ماركس " ان المسألة الأساسية في كل ثورة هي مسألة السلطة السياسية" بينما هو نفسه يعرف الوضع الثوري بالتناقض بين القوى و العلاقات الانتاجية؟ أليس بالضبط لأن الدولة تركز و تكثف ، بوصفها الجهاز المركزي في المجتمع، كل الطاقات الواجب توجيهها لتغيير "أسلوب الانتاج" و هي طاقات ليست اقتصادية حصريا باتأكيد؟
أليست نظرية "الحلقة الأضعف" و "الوضع الثوري" اللينينية و نظرية الثورة السياسية الماركسية نفسها دليلا على التعارض بين النسق الفلسفي المادي- الاقتصادي- الانتاجي بل و التقني- الأداتي من ناحية و بين مقتضيات الفعل في التاريخ التي هي وحدها تعكس فعليا الاستجابة للقوانين العلمية التي تقول الماركسية انها تبحث عنها في نظرية المعرفة ؟

ثالثا : لماذا اللوحة الخماسية لأساليب الانتاج و لماذا يتوقف تعاقب أساليب الانتاج بالشيوعية ؟
المعروف ان ماركس في "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي " ، التي سيوردها ستالين في آخر هذا الكراس، يذكر مثلا "أسلوب الانتاج القديم " و "أسلوب الانتاج الآسيوي" و يبدأ هو نفسه بتركهما في السبعينات من القرن التاسع عشر ثم ينهي السوفيات ،في عهد ستالين بالذات، المسألة في الثلاثينات باقرار اللوحة الخماسية لأنماط الانتاج دون سواها و يطبقها في ما ذكرناه أعلاه من تعاقب تاريخي.
ان السؤال المهم هنا هو التالي: على أية قاعدة رفض أسلوب الانتاج القديم و الآسيوي؟ الاجابة كانت :لأنه ليس هنالك درجة خاصة بتطور القوى الانتاجية ولا طابع خاص للعلاقات الانتاجية في هذين النمطين و بالتالي يجب التخلي عنهما في عمليتي التصنيف و التحقيب الاجتماعيتين التاريخيتين.
ولكن ماذا لواكتشفنا أن الطريقة النظرية المعتمدة في الماركسية هي نفسها الخاطئة بسبب أحادية العوامل "المقررة" و "المحددة" و انه من المهم عند التصنيف و التحقيب الانطلاق من الأهمية الخاصة لأسلوب الحياة الاقتصادية فعلا( أهمية الملكية الجماعية الأسيوية و حتى تأثير الجغرافيا الصحراوية أو السباسبية و الدول النهرية) و لكن ربطه بأساليب الحياة السياسية (مركزية الدولة الآسيوية مثلا) و الاجتماعية( أهمية القبيلة) و الثقافية (دورالديانات الكبرى ...)؟
و لماذا لا يسمح و قتها بالاستفادة من أشكال أخرى من التصنيف و التحقيب لعل أهمها محاولة الروسي -الفرنسي جورج غورفيتش الذي حاول الاستفادة من الماركسية و الفوضوية في تصنيفه؟
و لماذا يعدنا ستالين بتوقف التاريخ و تعاقب أساليب الانتاج وهو القائل :" تؤدي تغييرات وتطورات قوى الإنتاج، عاجلا أم آجلا، إلى تغييرات وتطورات علاقات الإنتاج." و المستشهد بماركس القائل : " "ثمة حركة مستمرة في نمو قوى الإنتاج، في تحطيم علاقات الإنتاج، في تكوين الاراء، فالشيء الواحد الثابت الذي لا يتغير هو تجريد الحركة." و هو المكرر مثل كل الماركسيين " ان الحركة مطلقة و السكون نسبي" و الخ؟
لقد وصل الأمر بستالين في الفقرة أعلاه انه كرر عبارة " ان علاقات الإنتاج هذه تنسجم بالدرجة الرئيسية مع حالة قوى الإنتاج في تلك الحقبة "ثلاثة مرات اثناء وصفه لأساليب الانتاج اللمشاعية و العبودية و الاقطاعية ثم تناساها في الرأسمالية و عوضها بسرعة بفكرة التناقض و الأزمات و عاد مع الاشتراكية ليكتب:" هنا تنسجم علاقات الإنتاج انسجاما تاما مع حالة القوى المنتجة لان الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج تتعزز بالملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج." فهل هكذا هي الجدلية العلمية و التاريخية؟
ألم تكن حالة القوى المنتجة في المشاعية البدائية أيضا "منسجمة انسجاما تاما مع علاقات الانتاج بسبب الملكية الجماعية" و مع ذلك تركت مكانها للعبودية؟ أم ان عامل الوعي – بفضل الوعي الماركسي اللينيني- سيصبح له دور هام جدا بحيث ينتهي التاريخ؟


-17-

في الفقرة ما قبل الأخيرة هنا نعود مع ستالين الى أمرين أساسيين هما كيفية الانتقال من اسلوب انتاج الى آخر ومسألة الثورة العنيفة و دور الوعي مرة أخرى .

"د) صفة ثالثة للانتاج هي ان نشوء قوى انتاج جديدة وعلاقات الإنتاج المطابقة لها لا يحدثان منفصلين عن النظام القديم، بعد اختفاء النظام القديم، بل ضمن النظام القديم؛ انهما يحدثان ليس نتيجة لنشاط الناس المقصود والواعي، بل تلقائيا بصورة غير واعية، بالاستقلال عن ارادة الناس. انهما يحدثان تلقائيا بالاستقلال عن وعي الناس لسببين.
اولا، لان الناس ليسوا احرارا في اختيار اسلوب الإنتاج هذا أو ذاك، لانه حين يدخل كل جيل جديد الحياة يجد قوى انتاج وعلاقات انتاج قائمة فعلا كنتيجة لعمل الجيل السابق. وبسبب ذلك يجب عليه في البداية ان يقبل ويكيف نفسه لكل ما يجده جاهزا في مجال الإنتاج لكي يستطيع ان ينتج القيم المادية.
ثانيا، بما ان الناس، حين يحسنون اداة انتاج واحدة أو اخرى، أو عنصرا من عناصر قوى الإنتاج أو اخر، لا يدركون ولا يفهمون ولا يفكرون اية نتائج اجتماعية تؤدي اليها هذه التحسينات بل يفكرون فقط بمصالحهم اليومية، بتسهيل كدحهم، وضمان نوع من التقدم المباشر أو غير المباشر لانفسهم.
حين تحول بعض اعضاء المجتمع المشاعي البدائي تدريجيا وبطريق التجربة من استخدام الادوات الحجرية إلى استخدام الادوات الحديدية فانهم لم يعلموا طبعا ولم يتوقفوا للتفكير بالنتائج الاجتماعية التي سيؤدي اليها هذا التجديد؛ انهم لم يفهموا أو يدركوا ان التحول إلى الادوات الحديدية كان يعني ثورة في الإنتاج وانه بالمدى البعيد سيؤدي إلى نظام العبيد. انهم ارادوا ببساطة ان يسهلوا من كدحهم وان يضمنوا فائدة فورية محسوسة؛ ان نشاطهم الواعي كان محصورا ضمن حدود مصالحهم.
وحين بدأت البرجوازية الفتية في اوروبا، في فترة النظام الاقطاعي، في اقامة المانيفاكتورا الكبيرة، إلى جانب ورشات الصناعات الحرفية الصغيرة وبذلك طورت قوى انتاج المجتمع، فهي لم تعرف طبعا ولم تتوقف للتفكير بالنتائج الاجتماعية التي يؤدي اليها هذا التجديد. انها لم تدرك أو تفهم بان هذا التجديد "الصغير" سيؤدي إلى اعادة تجميع القوى الاجتماعية، مما كان سينتهي بالثورة على سلطة الملوك الذين قدروا افضالهم ايما تقدير وضد طبقة النبلاء الذين كان اكبر ممثلي البرجوازية يطمحون إلى الارتفاع إلى صفوفها. انها ارادت فقط خفض تكاليف انتاج البضائع، وانزال كميات كبيرة من البضائع إلى اسواق اسيا وافريقيا واميركا الحديثة الاكتشاف، وان تحصل على المزيد من الارباح. ان نشاطها الواعي كان محصورا ضمن الحدود الضيقة لهذا الهدف العملي المألوف.
حين ادخل الراسماليون الروس بالارتباط مع الراسماليين الاجانب، صناعة المكائن الواسعة النطاق الحديثة في روسيا، في الوقت الذي كانت القيصرية سليمة تضع الفلاحين تحت رحمة الملاكين، فانهم لم يعرفوا طبعا، ولم يتوقفوا للتفكير بالنتائج الاجتماعية التي سيؤدي اليها هذا النمو الهائل في قوى الإنتاج، انهم لم يدركوا أو يفهموا ان هذه الطفرة الواسعة في نطاق قوى انتاج المجتمع ستؤدي إلى اعادة تجميع قوى الإنتاج التي ستجعل بامكان البروليتاريا، بتحقيق اتحادها مع الفلاحين، ان تنجز ثورة اشتراكية ظافرة. انهم ارادوا ببساطة توسيع الإنتاج الصناعي إلى اقصى حد، وان يسيطروا على السوق المحلية الضخمة وان يصبحوا احتكاريين وان يعتصروا اقصى ما يمكن من الارباح من الاقتصاد الوطني. ان نشاطهم الواعي لم يمتد ابعد من مصالحهم العامة العملية جدا.
وعليه يقول ماركس:
"في الإنتاج الاجتماعي الذي ينجزه الناس (اي في انتاج القيم المادية الضرورية لحياة الناس – ستالين) يدخلون في علاقات محددة لا مفر منه اومستقلة عن اراداتهم، علاقات انتاج تنسجم مع مرحلة محددة من تطور قوى انتاجهم المادية". (كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية م 1 ص356)

الا ان هذا لا يعني ان التغيرات في علاقات الإنتاج، والانتقال من علاقات انتاج قديمة إلى علاقات انتاج جديدة يجري بصورة سلسة، بدون اصطدامات، بدون انتفاضات، بل بالعكس، يحدث هذا الانتقال عادة بواسطة اطاحة ثورية لعلاقات الإنتاج القديمة واقامة علاقات انتاج جديدة. ضمن فترة معينة من تطور قوى الإنتاج والتغيرات في مجال علاقات الإنتاج تجري تلقائيا، بالاستقلال عن ارادة الانسان ولكن هذا يحدث إلى لحظة معينة فقط، إلى ان تكون قوى الإنتاج الجديدة المتطورة قد بلغت درجة معينة من النضوج. وبعد نضوج قوى الإنتاج الجديدة تصبح علاقات الإنتاج القائمة والمتمسكين بها – الطبقات الحاكمة – ذلك العائق الذي "لا يحتمل" والذي لا يمكن ازاحته الا بعمل الطبقات الجديدة الواعي، بالعمل القسري لهذه الطبقات، بالثورة. هنا يبرز الدور العظيم للاراء الاجتماعية، للمؤسسات السياسية الجديدة، للسلطة السياسية الجديدة التي تكون مهمتها ازالة علاقات الإنتاج القديمة بالقوة نتيجة للتصادم بين قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة.
نتيجة لمتطلبات المجتمع الاقتصادية، تنشأ اراء اجتماعية جديدة؛ والاراء الجديدة تنظم وتحرك الجماهير؛ تدفع الجماهير لتكون جيشا سياسيا جديدا وتخلق سلطة ثورية جديدة وتستفيد منها لكي تزيل النظام القديم لعلاقات الإنتاج بالقوة ولكي تقيم نظاما جديدا. ان عملية التطور التلقائي تخلي مكانها لعمل الناس الواعي، والتطور السلمي يخلي مكانه للانتفاض، والتطور التدريجي إلى الثورة.
يقول ماركس:
"ان البروليتاريا خلال صراعها مع البرجوازية تضطر، بقوة الاحداث، ان تنظم نفسها كطبقة ... وبواسطة الثورة تجعل نفسها الطبقة الحاكمة، وهكذا تزيح بالقوة ظروف الإنتاج القديمة". (البيان الشيوعي، كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية م1 ص 228)

واكثر:
"ان البروليتاريا ستستخدم تفوقها السياسي لكي تنتزع تدريجيا كامل الراسمال من البرجوازية وتركز جميع ادوات الإنتاج في ايدي الدولة اي في ايدي البروليتاريا المنظمة كطبقة حاكمة، ولتزيد مجموع قوى الإنتاج باسرع ما يمكن". (نفس المصدر ص 227)

"ان القوة هي مولدة كل مجتمع قديم يتمخض عن مجتمع جديد". (كارل ماركس، الراسمال، م 1 ص 776)"


ان أهم الأفكار الأساسية التي تستحق النقد هي التالية::
- الجديد يولد من رحم القديم نفسه و بالتالي داخله.والتطور يقع باستقلال عن الارادة و الوعي في البداية فقط ثم تتدخل هذه العناصر في مجرى التاريخ.
- التطور النوعي يتطلب العنف الثوري.

كيف يفسر مبدأ التطور داخل القديم ومن رحمه وفي علاقته بالوعي والارادة ؟

يقول ستالين " ان نشوء قوى انتاج جديدة وعلاقات الإنتاج المطابقة لها لا يحدثان منفصلين عن النظام القديم، بعد اختفاء النظام القديم، بل ضمن النظام القديم" ثم يواصل فكرة ظهرت منذ كتاب" الايديولوجيا الألمانية" خاصة و هي: " انهما يحدثان ليس نتيجة لنشاط الناس المقصود والواعي، بل تلقائيا بصورة غير واعية، بالاستقلال عن ارادة الناس. انهما يحدثان تلقائيا بالاستقلال عن وعي الناس لسببين.
اولا، لان الناس ليسوا احرارا في اختيار اسلوب الإنتاج هذا أو ذاك، لانه حين يدخل كل جيل جديد الحياة يجد قوى انتاج وعلاقات انتاج قائمة فعلا كنتيجة لعمل الجيل السابق. وبسبب ذلك يجب عليه في البداية ان يقبل ويكيف نفسه لكل ما يجده جاهزا في مجال الإنتاج لكي يستطيع ان ينتج القيم المادية.
ثانيا، بما ان الناس، حين يحسنون اداة انتاج واحدة أو اخرى، أو عنصرا من عناصر قوى الإنتاج أو اخر، لا يدركون ولا يفهمون ولا يفكرون اية نتائج اجتماعية تؤدي اليها هذه التحسينات بل يفكرون فقط بمصالحهم اليومية، بتسهيل كدحهم، وضمان نوع من التقدم المباشر أو غير المباشر لانفسهم."
يقوم ستالين هنا بالتلاعب بالعقول تقريبا. فهو من ناحية يتحدث عن" قوى انتاج جديدة و علاقات الانتاج المطابقة لها" ، والتي هي جديدة اذن، و لكنه بعد ذلك يقدم المسألة على انها تحدث باستقلال عن و عي و ارادة الناس بحجة "ان كل جيل جديد "يجد قوى انتاج و علاقات انتاج قائمة فعلا كنتيجة لعمل الجيل السابق".
ان ستالين يوجه القارئ عمدا الى ما يناسب النسق الفلسفي بالخلط بين أمرين : وراثة مستوى من القوى و العلاقات الانتاجية عن الأجيال السابقة ، وهو غير ارادي فعلا لأنه نتيجة للجيل السابق، و تطور قوى الانتاج الجديدة و العلاقات المطابقة لها و التي هي من صنع الجيل الجديد منطقيا و تاريخيا ويفترض ان للوعي و الارادة تأثير فيه.
ان ستالين هنا يلوي عنق المنطق البسيط ليبرر مسلمة فلسفية تتمثل في أولوية العامل المادي و الصفة المقررة و المحددة للاقتصاد.
يتأكد هذا عندما ننظر الى الأمر التالي.ان الجيل الجديد لا يرث فقط مستوى من القوى الانتاجية والعلاقات الانتاجية المطابقة لها عن الجيل السابق.انه يرث عنه التنظيم الاجتماعي واللغة و الأفكار و المؤسسات أيضا و بهذا فليس للقوى الانتاجية و علاقات الانتاج اية خصوصية موضوعية في الواقع من هذه الناحية .كل جيل جديد من المجتمع يرث كامل مظاهر الحياة الاجتماعية عن الجيل السابق –دون وعي و ارادة- ثم يبدأ في تطويرها مستعملا و عيه و ارادته و غيرهما من امكانيات مادية و فكرية في نفس الوقت.فلماذا تركز الماركسية عمدا على هذه الظاهرة فقط و حصريا عند ذكرها لقوى الانتاج و علاقاته ؟
في الواقع يمكن حتى تنسيب هذا .ان الجيل القديم يواصل العيش لفترة مع الجيل الجديد ، فتعاقب الأجيال لا يتم بالصورة التي تحاول الماركسية الدفع اليها لاستثمارها، و هذا العيش المشترك يجعل من قسم من المجتمع قد شارك في مايملكه بينما القسم الآخر يبدأ بالاستهلاك ثم ينطلق الى الانتاج و التطوير.لا يوجد جيل واحد فعليا يخلف الآخر بل في كل مرحلة من تاريخ المجتمع تجد على الأقل ثلاثة أجيال بعضها قد ساهم في انتاج ما هو موجود و تقاعد و بعضها بدأ لتوه في العملية و الجيل الثالث لا يزال يكتفي بالاستهلاك في كل الميادين .
ان هذا يلطف من فكرة ان الجيل الجديد يجد كل شىئ موضوعي أمامه الخ .

من ناحية أخرى يعارض ستالين – على خطى ماركس و أنجلز- بين الموضوعي و الذاتي بصياغته غير الجدلية القائلة ان الناس عندما يجددون قوى انتاجهم "لا يدركون ولا يفكرون ولا يفهمون "الا في مصالحهم الشخصية و ليس انعكاساتها الاجتماعية الموضوعية.ان هذه الصيغة مبالغ فيها بصفة متعمدة لتـأكيد أولوية الموضوعي – المادي على الذاتي – الفردي و الفكري.ان الناس الذين يجددون الاقتصاد يفكرون في الواقع في الجانبين و لكنهم بالتأكيد لا يستطيعون الاحاطة بنتائج ذلك وخاصة الاجتماعية.ان الجيل الجديد – وكل فرد داخله- يرث الوعي و يواصل تطويره و يرث الاقتصاد و يواصل تطويره و يحاول الاحاطة بالتفاعل بين الفردي و الجماعي، بين الذاتي و الموضوعي الذي سيظهر في النتائج دون القدرة المطلقة على الاحاطة بها بالتأكيد، لكن بين هذا و بين ما يصرح به الماركسيون بون شاسع.
بالنسبة الى ستالين يبدأ عنصر الوعي و الارادة في التدخل ""في الأخير" و لاحقا فقط و يقول "انقاذا" للنسق " ضمن فترة معينة من تطور قوى الإنتاج والتغيرات في مجال علاقات الإنتاج تجري تلقائيا، بالاستقلال عن ارادة الانسان ولكن هذا يحدث" إلى لحظة معينة فقط" .
ثم يواصل الخلط بأن ينتقل بسرعة من الوعي و الارادة" الى " القوة" و "الثورة" قائلا: وبعد نضوج قوى الإنتاج الجديدة تصبح علاقات الإنتاج القائمة والمتمسكين بها – الطبقات الحاكمة – ذلك العائق الذي "لا يحتمل" والذي لا يمكن ازاحته الا بعمل الطبقات الجديدة الواعي، بالعمل القسري لهذه الطبقات، بالثورة.
هنا يبرز الدور العظيم للاراء الاجتماعية، للمؤسسات السياسية الجديدة، للسلطة السياسية الجديدة التي تكون مهمتها ازالة علاقات الإنتاج القديمة بالقوة نتيجة للتصادم بين قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة."
تبدو الصيغة هنا واضحة في تخبطها الفلسفي اذ بعد "نضوج قوى الانتاج الجديدة" دون وعي وارادة البشر ،فقط، و عندما تدخل علاقات الانتاج القديمة أخيرا في تصادم مع قوى الانتاج الناضجة تـأتي "لحظة" تدخل الوعي و الارادة –اخيرا – لحسم الصراع بالعنف و هنا فقط" يبرز الدور العظيم للاراء الاجتماعية، للمؤسسات السياسية الجديدة، للسلطة السياسية الجديدة التي تكون مهمتها ازالة علاقات الإنتاج القديمة بالقوة نتيجة للتصادم بين قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة."
ان الصيغة تؤكد هنا ان اللحظة التي تبدأ فيها الأفكار و الارادة و المؤسسات في "رد الفعل" هي لحظة تغيير "علاقات الانتاج القديمة" بعد ان تنضج قوى الانتاج دون وعي وارادة . الوعي و الارادة لا يساهمان في انضاج قوى الانتاج الجديدة الذي يتم دونهما. انهما يتدخلان فقط عند اكتمال نضج تلك القوى لتخليصها من "العلاقات القديمة" و بالعنف الثوري بالضرورة.
هكذا يكتمل المشهد المعادي لعلم التاريخ و للتاريخ الواقعي في نفس الوقت. القوى المنتجة تتطور حتى النضج دون تدخل الوعي و الارادة تماما ووحده قلب علاقات الانتاج يتطلب التدخل الانساني و المؤسساتي الواعي و العنيف ضرورة ، في لحظة ما ختامية.
ألا يتراكم الوعي و تأثيره على كل من القوى و العلاقات الانتاجية أيضا؟ ألا يتدخل الوعي و الارادة الا لحظة احتياج العنف و القسر و الثورة؟
لا.التاريخ أعقد من هذا و أرحم في نفس الوقت. ان تدخل الوعي و الارادة (غير المطلقين طبعا لأنه لا توجد ارادة حرة مطلقة أبدا كما بين ذلك كاوتسكي نفسه في كتابه "طريق السلطة" ) دائم الوجود و ان ذلك التدخل يتم في السلم و الحرب ، في زمن التراكمات كما في زمن الطفرة وفي مستوى قوى الانتاج كما على العلاقات الانتاجية.
لو ان الماركسية لم تسجن نفسها في مصطلح "القوة" و فضلت مصطلح الممارسة و لو انها لم تختر البعد "الانتاجي" و درست الممارسة الاقتصادية في تكاملها لوصلت الى دراسة العلاقات الاقتصادية العامة وليس الانتاجية فقط ولانتبهت وقتها ان العناصر المادية و الفكرية متفاعلة و متزامنة و متشابكة تماما رغم اختلاف صفة و سرعة تراكمها الكمي و تطورها النوعي.
نصل هنا الى ملاحظة أخيرة. تبدو التراكمات الكمية وكأنها محصورة في قوى الانتاج – التي تنضج فقط- بينما تبدو القفزة النوعية مرتبطة بالعلاقات الانتاجية فقط و التي لا يبدو انها "تنضج" تدريجيا. و لكن في الواقع التاريخي يوجد العكس أيضا: تتراكم القوى الانتاجية –و أدوات الانتاج العزيزة على الماركسية تحديدا- بل و تعرف هي الأخرى قفزات نوعية تسمى "الثورات التقنية" و تتراكم العلاقات الانتاجية نفسها و تختمر و تنضج بتطور تناقضاتها و تفاعلاتها الداخلية والخارجية مع كل ميادين الحياة غير الاقتصادية الى أن تأتي لحظة التغيرات النوعية أيضا. ويحدث ذلك بالعنف و سلميا حسب الظروف الخاصة بكل مجتمع و حسب المرحلة التاريخية و حسب العلاقة بالمجتمعات الأخرى.
لقد وصلت فرنسا الى سيادة البورجوازية بالثورة الفرنسية و لكن انتقلت بلدان أخرى الى الرأسمالية تدريجيا ، دون ثورة عنيفة ، بل و تحت تأثير التدخل الأجنبي السلمي أو العنيف. او حتى ذاتيا عندما تلاحظ الطبقات القديمة و تدرك "الوعي " ثم تقبل "الارادة" بالتحول الذي تفرضه التراكمات دون اراقة دماء بالضرورة.
ان الماركسية نفسها تعرف هذا و لكنها تدرك "خصوصية الانتقال الى الاشتراكية" الذي مفاده ان علاقات الانتاج الجديدة لا تنمو في رحم المجتمع الرأسمالي كما نمت العلاقات الراسمالية في رحم الاقطاعية مثلا. و لذلك تميل الماركسية العقائدية الى تعميم "النموذج اليعقوبي" على كل مراحل التاريخ في تأليفاتها النظرية خدمة للنسق الفلسفي. لكن التاريخ الذي تعرفه الدراسات الماركسية الجزئية نفسها يسحب لسانه استهزاءا بالنسق لأن" النظرية رمادية اللون بينما شجرة الحياة خضراء دائما " كما يحلو لماركس أن يستشهد بغوته.





***
وأخيرا نصل الى النهاية في كراس ستالين حيث يختم ب"مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" الشهيرة قائلا:
"وفيما يلي الصياغة الرائعة لجوهر المادية التاريخية التي قدمها ماركس سنة 1859 في مقدمته التاريخية لكتابه الشهير نقد الاقتصاد السياسي:
"في الإنتاج الاجتماعي الذي ينجزه الناس يدخلون في علاقات محددة لا مفر منها ومستقلة عن ارادتهم؛ ان علاقات الإنتاج هذه تنسجم مع مرحلة محددة لتطور قوى انتاجهم المادية. ان مجموع علاقات الإنتاج هذه تشكل تركيب المجتمع الاقتصادي – الاساس الحقيقي الذي ينشأ عليه بناء فوقي قانوني وسياسي تنسجم معه اشكال محددة من الوعي الاجتماعي. وعملية حياتهم السياسية والفكرية عموما. فليس وعي الناس هو الذي يقرر وجودهم بل بالعكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم. في مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج المادية في المجتمع تدخل في صدام مع علاقات الإنتاج القائمة أو – ما هو مجرد تعبير قانوني لنفس الشيء – مع علاقات الملكية التي كانوا يعملون فيها سابقا. ان هذه العلاقات تتحول من اشكال لتطور قوى الإنتاج إلى قيود تكبلها. عندئذ يبدأ عصر الثورة الاجتماعية. ومع تغير الاساس الاقتصادي يتحول البناء الفوقي الهائل كله بسرعة نوعا ما.
لدى تناول مثل هذه التحولات يجب التمييز دائما بين التحولات المادية لظروف الإنتاج الاقتصادية، التي يمكن تحديدها بدقة العلوم الطبيعية، وبين الاشكال القانونية أو السياسية أو الدينية أو الفنية أو الفلسفية – وباختصار الاشكال الايديولوجية التي يعي الناس فيها هذا التصادم ويناضلون ضده. فكما ان رأينا عن الفرد لا يقوم على اساس ما يفكره هو عن نفسه، كذلك لا نستطيع ان نحكم عن حقبة من التحولات بوعيها هي، بل على العكس يجب تفسير هذا الوعي بالاحرى بتناقضات الحياة المادية، بالتصادم القائم بين قوى الإنتاج الاجتماعي وعلاقات الإنتاج. لا يختفي اي نظام اجتماعي ابدا قبل ان تتطور جميع قوى الإنتاج التي لها مجال للتطور فيه؛ ولن تظهر علاقات انتاج جديدة قبل ان تكون شروط وجودها المادية قد نضجت في رحم المجتمع القديم ذاته. لذا فان الجنس البشري لا يضع لنفسه سوى المهام التي يستطيع انجازها؛ وبما اننا نجد دائما لدى تفحصنا الامر عن كثب، ان المهمة ذاتها لا تنشأ الا اذا سبق ان وجدت الظروف المادية الضرورية لحلها أو على الاقل في سياق تكوينها". (كارل ماركس، مختارات، الطبعة الانجليزية، م1 ،ص356 - 357)

هذه هي المادية الماركسية لدى تطبيقها على الحياة الاجتماعية، المادية التاريخية.
نرى من هذا اي كنز نظري خلفه لينين للحزب وصانه من هجمات الانتهازيين والمرتدين، وعظم اهمية ظهور كتاب لينين "المادية والنقد التجريبي" لتطور حزبنا."

***
و قبل أن نختم بدورنا مع تحليل بعض أجزاء هذه الوثيقة و استغلالها سندا لذكر وتحليل نقاط أخرى لم يتعرض اليها ستالين في كراسه رغم أهميتها، نضيف نحن جزءا مما أهمله ستالين من هذه المقدمة .
يضيف ماركس على ما سبق وذكره ستالين مايلي:
" في خطوط عريضة، ان أنماط الانتاج الآسيوي، القديم،الاقطاعي و البورجوازي الحديث يمكن اعتبارها مراحل تقدمية للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية.ان علاقات الانتاج البورجوازية هي آخر شكل تناقضي لمسار الانتاج الاجتماعي،تناقضي ليس بالمعنى الذاتي، بل بمعنى التناقض الناتج عن شروط الحياة الاجتماعية للأفراد.في هذه الأثناء، يخلق تطور القوى الانتاجية، الذي يتم داخل المجتمع البورجوازي، الشروط المادية لحل هذا التناقض.مع هذه التشكيلة الاجتماعية ينتهي ماقبل التاريخ الانساني."

لقد اتى ستالين في كراسه" المادية الجدلية و المادية التاريخية" على تحليل أهم ما احتوته "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" وقد كان وفيا بدرجة كبيرة لروح هذه الوثيقة ولا داعي لتهرب غير الستالينيين من نتائج نقدها و نقده معا .و لكن ستالين أهمل بعض ما ورد في الوثيقة مثلما أهمل بعض النقاط التي لم يذكرها ماركس في مقدمته هذه مع أنها أصبحت أساسية في التصور الماركسي اللينيني عن المجتمع ؛ في "المادية التاريخية".
لن ناتي على كل شيء بل سنذكر النقاط الأساسية و بعض الأمثلة الدقيقة في المستويين و لنبدأ بما أهمله ستالين في "مقدمة ..." ماركس ثم نقدم أمثلة على بعض المسائل الهامة الأخرى مثل تحليل اللغة و الأمة و غيرهما.
***

يبدو لنا ان مصطلح "التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية" لم ينل حظه في كراس ستالين ولم يشر اليه بوضوح رغم ان المحتوى العام موجود.ان نظرية التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في الماركسية تلعب دورين أساسيين : من ناحية تربط بين المستويين الاقتصادي و الاجتماعي و من ناحية ثانية تسمح بتناول جملة الشروط الاقتصادية و الاجتماعية المتشابكة في مرحلة محددة من تاريخ المجتمع. بهذا المصطلح نربط مثلا بين الاقتصاد و الطبقات الاجتماعية و نربط بين أساليب الانتاج المتعددة التي تتواجد مجتمعة- مع سيطرة أحدها- في لحظة تاريخية ما للمجتمع.

في البداية ، وتحديدا في الفصل الأول من "الايديولوجيا الألمانية"، كان ماركس و انجلز عندما يتناولان "الوجود الاجتماعي" يذكران الوجود الاقتصادي المادي و الوجود الجنسي القرابي فيذكران كيف ينتج البشر وجودهم بتلبية الحاجيات المادية و بالزواج و يتعرضون للعائلة و القبيلة. لكن فيما بعد ومند نهاية الخمسينات خاصة تضخم التحليل الاقتصادي عند ماركس و أنجلز على حساب البقية و كانت ذروته في "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" حيث استثمرت اعمال مورغان بطريق موجهة و حنط أنجلز نهائيا المسألة بتحليل اقتصادي يعتبر الملكية الخاصة-الاقتصاد- محددا في ظهور الطبقات الاجتماعية والعائلة- الاجتماع الجنسي القرابي- و أصبحت العائلة – القبيلة و كأنها انعكاس لاحق للاقتصاد تظهر نتيجة له و بعده.

منذ ما قبل " مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" أصبح "البناء التحتي" او "الأساس" الاقتصادي بناءا أوليا حتى بالمقارنة مع المستوى الاجتماعي أو كأن "التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية" هي نفسها متكونة من مستويين – طابقين هما المستوى الاقتصادي و المستوي الاجتماعي. انهما طابقان يشابهان "البناء التحتي" و "البناء الفوقي" السياسي و القانوني الذي يأتي بعده وفوقه مستوى الوعي الاجتماعي.
بهذا المنطق يصبح الوجود القرابي وكأنه لحظة لاحقة أنطولوجيا و زمنيا وسببيا للوجود الاقتصادي وكأن الانسان يمكن أن يدخل في علاقات انتاج اقتصادية قبل دخوله في علاقات جنسية- قرابية.ان هذا مناقض لأبسط منطق تاريخي و كله بسبب النسق الفلسفي المادي-الاقتصادي.
لكن مصطلح التشكيلة الاجتماعية له دور هام في جانب آخر : انه يساعد على دراسة المجتمع في عمومية وجوده، و ان كان ذلك من زاوية أحادية، كما يساعد على دراسة الاقتصاد في واقعه العيني التاريخي ليس فقط من زاوية تعاقب اساليب الانتاج –التي يؤكد عليها التحليل الذي يعتمد مصطلح نمط الانتاج- بل من زاوية امكان تعايش انماط انتاج مختلفة في نفس التشكيلة و خاصة في ما يسمى المراحل الانتقالية ،قبل السيطرة شبه المطلقة لنمط انتاجي ما، و هي في الواقع التاريخي فرضية نظرية أكثر منها واقعية لأن الانتاج الصغيرمثلا يصاحب كل الأنماط تقريبا.
***
في المستوى التالي من التحليل تبرز ثنائية البنائين التحتي و الفوقي.
ان مصطلح "التحتي" و"الفوقي" هو نفسه يجب تجاوزه.ان ماركس ينظر الى المجتمع انطلاقا من منظور هندسي عمودي وكأن المجتمع بناية أو هرم له قاعدة وقمة، تحت و فوق. و حتى ان كانت هذه النماذج مهمة أحيانا في استعمال الاستعارات و التشبيهات لتبسيط التحليل،الا انها تصبح خطيرة على التفكير العلمي اذا تجاوزت الاستعمال الاستعاري الى تشكيل ذهنية الدارس و الفاعل المعرفية و العملية.عندها تصبح قاتلة للعلم و للفعل لأنها تصبح عامل اعماء و توجيه احادي.
ان النموذج الهندسي في التحليل الماركسي للأبنية التحتية و الفوقية يكمله النموذج العضوي عند تحليل التحول التاريخي .عندما يقول ماركس انه " لا يختفي اي نظام اجتماعي ابدا قبل ان تتطور جميع قوى الإنتاج التي لها مجال للتطور فيه" نشعر و كأننا بصدد حديث حصري عن الولادة الطبيعية السليمة قبل تطور الطب الحديث.اذ حتى من وجهة النظر العضوية لا يجهل الطبيب المعاصر الولادة غير الناضجة و الولادة المفتعلة و الولادة القيصرية و الولادة المتأخرة نسبيا وهي كلها أشكال من ولادة الجديد الحي و لا تعني لا موت الجنين ولا ولادته المشوهة بالضرورة.
بعبارة أخرى قد تحدث الطفرة النوعية قبل"تطور جميع قوى الانتاج" المادية الضرورية وذلك بتدخل هام لعناصر الوعي و التنظيم أو التدخل الأجنبي ،الخ. اي بمساعدة "القابلة" غير الاقتصادية.و ان الثورة الروسية دليل على ذلك و اللينينية هي بصورة ما "ماركسية عملية" لم تسجن نفسها في القالب المتحجر النظري الا عندما خاضت الصراع النظري ضد المخالفين و لكنها التقطت فن ادارة التاريخ بقوة كلما كانت المهام العملية هي المطروحة للانجاز.
ان لينين يقدم احيانا حججا نظرية ضعيفة تماما لتبرير التكتيك السياسي المناسب للعمل الثوري. انه يركزمثلا على "التطور اللامتكافئ" في العصر الامبريالي لتبرير نظرية" الحلقة الأضعف" و كأن قانون التطور اللامتكافئ جديد و ليس قانونا تاريخيا يفعل فعله منذ المجتمعات البدائية الى اليوم.ان لينين يخاتل الماركسية لتحقيق الثورة باسمها عندما يشعر ان العقائدية النظرية قد تخسر الشعوب فرصتها الثورية.
يظهر هذا عندما نقارن بين الفكرتين التاليتين. يقول ماركس أعلاه: " . في مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج المادية في المجتمع تدخل في صدام مع علاقات الإنتاج القائمة أو – ما هو مجرد تعبير قانوني لنفس الشيء – مع علاقات الملكية التي كانوا يعملون فيها سابقا. ان هذه العلاقات تتحول من اشكال لتطور قوى الإنتاج إلى قيود تكبلها. عندئذ يبدأ عصر الثورة الاجتماعية. ومع تغير الاساس الاقتصادي يتحول البناء الفوقي الهائل كله بسرعة نوعا ما."
أما لينين فعندما بدأت الأمور تتخمر في روسيا كتب "موضوعات ابريل" ليقول ان الأزمة الثورية تبدأ عندما تعجز الطبقات الحاكمة السابقة عن مواصلة حكمها كما كانت تفعل و عندما تعجز الطبقات المحكومة عن تحمل وضعها تحت سيطرة الأولى.
ماركس المنظر ينظر الى تناقض قوى الانتاج و علاقات الانتاج ووصوله درجة التصادم كمقمة لبداية عصر الثورة الاجتماعية. و لينين المناضل يوجه بصره نحو الطبقات أساسا.الأول يركز على المستوى الاقتصادي في "التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية" و الثاني يركز على المستوى الاجتماعي – السياسي بالربط بين مفهومي الطبقة و الحكم و" الدولة و الثورة". ولا نستنتجن من ذلك خاصة ان لينين ينسى ماركس الاقتصادي أوان ماركس ينسى الجانب السياسي و لكنها مشكلة العلاقة بين النسق النظري الفلسفي و مقتضيات العمل الثوري على ما يبدو.
كأننا بماركس ، الفيلسوف و المنظر الاقتصادي، يركز على ما يمكنه من الاستنتاج ان " التحولات المادية لظروف الإنتاج الاقتصادية... يمكن تحديدها بدقة العلوم الطبيعية " لتأسيس علمه بينما يركز لينين المناضل الماركسي على المسألة الأساسية في كل ثورة " مسألة السلطة السياسية" و ذلك لتحقيق حلمه . ليس غريبا بعد هذا ان نفهم لماذا اعتبر ستالين نفسه ان اللينينية هي "ماركسية عصر الاستعمار و الثورة البروليتارية "
و لكن الماركسية - اللينينية بهذا بقيت تراوح مكانها بين النسق و التاريخ و أكبر دليل على ذلك هو العجز عن الاستفدة النظرية من التجربة العملية لتجاز النسق النظري المغلق.

***
وبما اننا في مجال التعرض للعلاقة بين مستويات الواقع و محركاته، بين قوى الانتاج و علاقاته ثم البناء التحتي و المستوى الاجتماعي في "التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية" ثم في علاقة بالبناء الفوقي السياسي ثم الوعي الاجتماعي نريد اضافة مايلي حول "الصراع الطبقي" بالتحديد.
اننا نعتبر ان الاعتراف بالأهمية الخاصة للاقتصاد لا يعني قبول التصور الطبقي الماركسي رغم أهميته . اننا يمكن ان ننطلق من الماركسية نفسها لتعديل و تنسيب فكرة الصراع الطبقي.

أولا : اذا كان التاريخ البشري منذ العبودية حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات فماذا كان التاريخ قبل العبودية؟ هل كان تاريخ "الانسجام القبلي" أم "الصراع القبلي" أم ماذا؟

ثانيا : يفرق ماركس و أنجلز في البيان الشيوعي مثلا بين "الطبقة في ذاتها" ( الوجود الموضوعي للعمال في المجتمع) و "الطبقة لذاتها" ( وعي الطبقة بذاتها و تنظمها و دفاعها عن مصالحها) و "الطبقة الحاكمة" (وصول الطبقة الواعية المنظمة الى الثورة وافتكاك السلطة السياسية – جهز الدولة- لاعادة تنظيم المجتمع من جديد).

ثالثا :من ناحية أخرى نعرف تحاليل لينين في كتابه "ما العمل ؟" لدور المثقفين الثوريين في جلب الوعي الى العمال من الخارج و اقراره ان الطبقة العاملة "الموضوعية" اذا تركت لوحدها لن تصل الا الى النضال الاقتصادي النقابي ،الخ و هو ما أعاد صياغته غرامشي عبر فكرة "المثقف العضوي " أساسا و "الكتلة التاريخية" نسبيا وهو الأقرب الى روح الماركسية المحقة هنا بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل بين العمل اليدوي و الذهني الذي يجعل مثقفي البورجوازية الصغرى يلعبون هذا الدور فعليا في علاقة بالعمال.
اننا نعتقد أنه بالامكان تقديم تصور آخر للتاريخ يستفيد من هذه الأفكار الماركسية و لكن نقديا.
ان التاريخ هو أولا ليس فقط جانب الصراع في الحياة الاجتماعية بل كذلك تاريخ الانسجام و التعاون مثلا بين مكونات "الكتل التاريخية" بين "التحالفت الطبقية" ناهيك لو خرجنا من المستوى الصراعي الطبقي الى مستويات أخرى للوجود الاجتماعي.
كما ان التاريخ الصراعي نفسه ليس تاريخ صراع الطبقات بقدر ما هو صراع الحركات الاجتماعية التاريخية الكبرى التي هي عبارة عن تحالف بين قسم من المثقفين و طبقة أو طبقات اجتماعية من خلال "مشروع" (حسب سارتر و الان توران) اجتماعي تاريخي عام.
ان الطبقات الفقيرة – حسب الماركسية نفسها- لا تمارس الصراع الطبقي المؤدي الى السلطة الا بتأثير المثقفين و بالتحالفات الطبقية الواسعة المعادية للتحالف الطبقي الحاكم.ان الحركات الاجتماعية الكبرى هي تحالفات طبقية واعية و منظمة على قاعدة التقارب الموضوعي في الظروف الاجتماعية العامة و الأهداف ،الخ.
ان صراع البروليتاريين مع البورجوازيين مثلا لا يرتقي من مجرد نضال مهني نقابي ليصبح نضالا عماليا طبقيا الا بتدخل المثقفين " النظري و السياسي و التنظيمي" فعليا لتحويل الطبقة العاملة من "طبقة في ذاتها" الى "طبقة لذاتها" تعمل عل افتكاك السلطة. هذا يعني ان الصراع الطبقي مشروط بتحالف أولي بين قسم من البورجوازية الصغرى و العمال و هو قد يتطلب أيضا التحالف الواسع ما أمكن مع الفلاحين مثلا. هذا يعني ان الصراع الطبقي التاريخي الواقعي والفعلي في المجتمعات المنقسمة الى طبقات هو صراع التحالفات الاجتماعية و الكتل الاجتماعية التاريخية بين شرائح و فئات و طبقات ا جتماعية تعبر عنها الحركات الاجتماعية التاريخية الكلية (الهادفة الى الحكم) كالحركة العمالية أو الوطنية و ليست الجزئية (العاملة في اطار النظام الاجتماعي التاريخي القائم( كالحركات البيئية او الطلابية أو غيرها) رغم امكانية التحول التاريخي المتبادل لأجزاء من هذه الحركات الى نقيضها في مجرى التاريخ.

ان الماركسية تقدم بنفسها ، في أعمالها الجزئية ، كل المعطيات الجزئية التي تسمح بتجاوزها كنسق فلسفي مكتمل و مغلق. و ان بحث الماركسيين العملي التاريخي منذ القديم يدل على ذلك: من العمل على تأسيس الأممية العمالية الأولى مع الفوضويين و الشارتيين و الاشتراكيين الديمقراطيين غير الماركسيين الى البحث الحالي عن "المنتديات الاجتماعية" منذ اجتماع بورتو أليغري.
ان الواقع يفرض نفسه لكن الأصولي الماركسي المتطرف ، ككل أصولي ،لا يعترف بأخطائه النظرية بل يتهم الواقع أو الحلفاء وحدهم بالخطأ. و لقد دمر الماركسيون تحالفات عديدة كانوا عقدوها باسم الصراع الطبقى الصافي –نظريا- و على حساب الواقع العملي و حاجاته الفعلية .


***
بما اننا ذكرنا الدولة و الثورة و الوعي يمكن استغلال استشهاد ستالين بمحتوى "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" للتعرض للنقاط التالية باختصار شديد حتى نبقى في علاقة لصيقة بالعرض النقدي المقتضب و المكثف للمادية الجدلية والمادية التاريخية.
ناخذ الدولة كبناء فوقي و نرى الدين كوعي اجتماعي و نصل الى اشكالية اللغة و الأمة في الختام.
نبدأ بالدولة.
الدولة بناء فوقي سياسي يجب فهمها وتحليل نشأتها و بنيتها ووظيفتها و تطورها في علاقة بالبناء التحتي عموما و بالعلاقات الانتاجية تحديدا و بصورة مباشرة حتى لو تراءت مستقلة نسبيا عن قاعدتها الاقتصادية.هذا باختصار شديد التصور الماركسي للدولة والذي نجد تحليله الأوفى عند أنجلز في "أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" و عند لينين في "الدولة و الثورة". ان هذا التصور اقتصادي أحادي و قد شعر بذلك بعض الماركسيين بمن فيهم ماركس نفسه. ان الأبحاث العلمية الحديثة تِؤكد مايلي:
- توجد الدولة حتى في بعض المجتمعات البدائية و من الخطأ ربط ظهورها بالطبقات الاجتماعية حصريا رغم ان هذه الطبقات لها مصلحة في وجودها و السيطرة عليها بالتأكيد. ان أعمال بيار كلاستر و جورج بالندييه و غيرهما يؤكد و جود الدولة في بعض المجتمعات البدائية لغاية التنظيم الداخلي و الحماية من اعتداءات القبائل المجاورة.
- ان بنية الدولة ليست "شرطة و جيش و موظفين " مهمتهم قمع الطبقات الفقيرة فقط و حصريا. ان الدولة مؤسسة اجتماعية مركزية مهمتها تنظيم المجتمع داخليا و حمايته خارجيا و ان تم استغلالها من قبل الطبقات المالكة و الغنية لتوجيه التنظيم الاجتماعي الداخلي برمته – ما يسمى السياسة الداخلية-والسياسة الخارجية الى مايخدم مصالحها. ان الاجتماع السياسي ضروري و"لا بد من وازع يزع الناس " سياسيا حسب التعبير الخلدوني حتى وان بدا بسيطا ثم تطور و تمأسس ألخ.
- ان وظيفة الدولة ليست خدمة الطبقات الحاكمة رغم ان تلك الطبقات تحاول فعلا ان يكون الأمر كذلك. و لكن المجتمع أقوى و أعقد من طبقاته الاجتماعية الأكثر قوة و ان الفئات الاجتماعية و المجموعات القرابية و مجموعات المصالح و الضغط وغيرها تسعى كلها للسيطرة على جهاز الدولة و توجيهه فلا يبقى محصورا في خدمة الطبقة الحاكمة واقعيا الا في حالات قصوى و نموذجية في التمايز الطبقي الاجتماعي ربما.
- ان مصطلحات "الدولة البونابارتية" عند ماركس و "الدولة القيصرية" – من قيصر روما- عند غرامشي و "دولة العمال و الفلاحين" الينينية و "الديمقراطيات الشعبية" وغيرها تدل على تنسيب تاريخي للتصور النسقي التقليدي الماركسي و كذلك تحاليل معنى "الدولة القومية" و نظرية نيكوس بولنتزاس حول علاقة "السلطة السياسية و الطبقت الاجتماعية" ،الخ.
- ان تاريخ و مصير الدولة لا و لن يرتبط بالصراع الطبقي فقط بل بكل مظاهر الصراع و الانسجام الاجتماعيين القبلي و العرقي و القومي في نفس الوقت.ان الدولة مؤسسة تشتغل وتتطور في علاقة بكل مظاهر الحياة الاجتماعية بل وحتى الجغرافية.لا ننسى ان ماركس و أنجلزنفسهما قد ذكرا حتى بالصفات الجغرافية الصحراوية و النهرية للدولة الآسيوية اضافة الى الطابع القبلي و دور الديانات الكبرى. كما ان مصير الدولة بالتالي ليس الاضحلال بالضرورة بسبب اضمحلال الطبقات المنتظر.انه من السذاجة بمكان تصور عشرة مليارات انسان يعيشون على الأرض دون دولة بل و دول حتى لو تبنوا التنظيم الشيوعي. يبدو ان "اسطورة العود الأبدي" و تأثير "الطيبة البدائية" للمجتمع البدائي قد وجدا مكانهما في التأليف الماركسي ،الهيغلي المقلوب الذي يبشر بنهاية الدولة أيضا.

في عرض ستالين للمادية الجدلية و المادية التاريخية لم يقع ذكر اللغة و الأمة مثلا رغم ان ستالين نفسه مختص في المسألة و نال بسبب ذلك منصب مفوض القوميات بعد ثورة أكتوبر.
ان كراس ستالين "الماركسية و المسألة القومية" و كراسه اللاحق "الماركسية و مسائل علم اللغة" أشهر من نار على علم عند الماركسين اللينينيين خاصة.
ان ماركس وأنجلز لم يعالجا مسألة اللغة الا في فقرات و جمل متناثرة اهمها كان في "الآيديولوجييا الألمانية" كما انهما لم يعالجا مسألة الأمة الا سلبيا كما يظهر ذلك في "البيان الشيوعي" (ماركس و أنجلز) و في "مبادئ الشيوعية" (أنجلز) .
انه من المعقول نظريا و المفهوم – ولكن غير المقبول- تاريخيا ان يكون الأمر كذلك .ان ماركس و أنجلز ركزا على ما يخدم النسق الفلسفي و على ما يخدم المصالح الطبقية و لذلك أهملا اللغة لأنها "ليست لا بناءا تحتيا و لا فوقيا" كما استنتج ستالين في كتابه حول علم اللغة (1950) و أهملا الأمة لأن النزعة القومية بورجوازية و ضد الأممية البروليتارية التي أسسا من أجلها الأممية الأولى رغم كل ما يعرفانه عن الوحدة القومية الألمانية و الايطالية و نضال الايرلندينن و نضال الهنود ضد الأنقليز و الجزائريين ضد فرنسا ،الخ.
لقد لفظ جسم النسق الماركسي التقليدي و رفض ما يزعجه في عملية دفاع ذاتي ايديولوجي و لم ينتبه الماركسيون الى ذلك الا تحت سياط نقد الاشتراكية الديمقراطية و تحت الحاحية المسائل و أهميتها العملية السياسية منذ الحرب العالمية الأولى خاصة. و ليس غريبا ان يكون لينين و ستالين من بين من ساهم كثيرا في معالجة هذا في روسيا متعددة القوميات بالذات و لا أن تعتبر اللينينية مجددة في موضوع "المسألة القومية" داخل الماركسية على عكس تيارات ماركسية أخرى.
عندما يعترف ستالين ان اللغة ليست بناءا تحتيا ولا فوقيا و انها مكون مشترك بين كل طبقات الأمة ،التي يعرفها بدورها بأنها - فيما معناه - جماعة بشرية مستقرة و موحدة تاريخيا لها خصائص مشتركة هي الارض و اللغة و الحياة النفسية –الثقافية و الوحدة الاقتصادية، فهذ كله يدل ان الجهاز النظري الماركسي عاجز عن احتواء مختلف ظواهر الحياة و رافض لها في البداية بسبب النسق الفلسفي ثم مدمج لها فيما بعد تحت ضغط الواقع و الخصوم النظريين الاشتراكيين الديمقراطيين خاصة مثلما حصل تماما مع نظرية الامبريالية أيضا.

طالما اننا ذكرنا الأمة و الوحدة النفسية –الثقافية فكيف تعامل النسق الفلسفي الماركسي مع البعد النفسي للانسان؟

يمكن تفهم ماركس و أنجلز جزئيا بسبب عصرهما الذي لم يعرف تطور علم النفس و لكن كيف نقيم موقف لينين السلبي تماما مع علم النفس التحلييلي عند فرويد و اعتباره اياه علما بورجوازيا؟
وكيف يقبل ستالين بوحدة نفسية – ثقافية ( بناء فوقي) لأمة "برجوازية" لها " أصبح يعترف ان بين أفرادها و طبقاته" وحدة اقتصادية " رغم كونها متناقضة العلاقات و المصالح و الأهداف؟
ألا يدل هذا أن ديالكتيك الانسجام و التناقض الفعلي يختلف عن " و حدة وصراع المتناقضات" الماركسي التقليدي؟


لقد عرضنا مسألة الوعي الاجتماعي في ملامحها العامة سابقا و نستغل فقرة ماركس أعلاه لذكر مثال مختصرلا غير. ان ما يسميه ماركس "الأشكال الايديولوجية" ينظر اليها على انها لاحقة و تابعة و ثانوية مقارنة بالآقتصادي و لا تفسر الا به لأنها انعكاس له و تاريخها في "نهاية التحليل" انعكاس للتاريخ الاقتصادي نفسه مهما انفصلت الايديولوجا بهذه الدرجة أو تلك عن "القاعدة الاقتصادية".

لو اننا عدنا الى الدين أو الفن لأمكننا التساؤل مثلا:
كيف يعتبر الدين وعيا زائفا و قد ظهر قبل انقسام المجتمع الى طبقات وعندما كانت العلاقات الانتاجية جماعية و مشاعية؟
لماذا لم يعكس الدماغ البشري الطبيعة بصدق و بموضوعية في الايديولوجيا الدينية البدائية طالما انه لم تكن تكبله التناقضات الطبقية ؟ أم ان عملية التمثل الايديولوجي للعالم لا تحددها العوامل الاقتصادية و لا تقررها "القاعدة" و "الأساس" الذي تمثله "علاقات الانتاج" تحديدا و ليست انعكاسا بالأصل ومن الأساس؟
لماذا لا تعي الماركسية العقائدية ان أي عنصر من عناصر الوعي الاجتماعي هو في تفاعل مع كل أبعاد الوجود البشري مع الطبيعة و بين البشر و انه بالتالي يرتبط بالموت و الحياة العضوية و بالنفسية الانسانية و بالجوانب السياسية و الثقافية المختلفة الأخرى و ان تأثر بالمعطى الاقتصادي بصورة خاصة نسبيا؟


و لماذا يبدو الفن فالتا من التأثيرات الاقتصادية المباشرة و شديد الذاتية رغم كونه ممارسة اجتماعية بامتياز؟ أليس لكونه نشاطا جماليا بالدرجة الأولى و هو ،وان تأثر بالقوى الانتاجية و العلاقات الانتاجية، له خصوصية فريدة في كونه يجسد التمثل الجمالي للطبيعة و المجتمع فيقوم كما قال الرسام بول كلي " ليس بعكس المرئي بل بجعل اللامرئي مرئيا"؟
ألا يمكن تعميم ذلك على الوعي كاملا بحيث يمكن القول ان " الوعي الاجتماعي لا يعكس الواقع بل يجعل الواقع مرئيا" بمعنى ان "سهم المعرفة ينتقل من الذات الى الموضوع" و ليس العكس و بمعنى ان الانسان في تفاعله مع مواضيع المعرفة يفعل و يمارس الفعل المعرفي أكثر مما ينفعل و يعكس؟
ألا يمككنا هذا القول وحده من فهم سبب ارتكاب أشخاص لأخطاء معرفية مقارنة بغيرهم أو سبب اكتشافهم لحقائق علمية دون غيرهم رغم كونهم جميعا لهم أدمغة سليمة وعاشوا نفس الفترة و عاينوا نفس الظاهرة،الخ ؟
لقد كان الناس جميعا يرون التفاح يسقط امامهم و لكن نيوتن وحده اكتشف الجاذبية مع انه لم يكن الوحيد الذي يملك دماغا و حواسا سليمة.ألا يدل هذا ان المسألة الأساسية ليست في الانعكاس؟
ولو ان علاقة الناس بالواقع علاقة انعكاس فقط أو أساسا بين الدماغ و الواقع الموضوعي المادي لكنا و جدنا ، ربما، ان كل الوعي الاجتماعي ينقسم فقط الى قسمين: العلم الذي يعكس بصورة صحيحة الواقع و الآيديولوجيا التي تعكسه خطأ و تصبح "وعيا مزيفا" و لفشلنا في معرفة سبب وجود دين و فن و فلسفة و أخلاق و قوانين الخ.
ما الذي يجعل الواقع "ينعكس" مرة في شكل علم و مرة في شكل فن و مرة في شكل دين ،الخ؟ أليس لأن الانسان هو الذي يتملكه الخوف و التقديس تارة و بنبهراعجابا امام جمال الطبيعة طورا و يتحكم في مشاعره و يحاول الفهم العلمي –الفلسفي تارة أخرى ، كل مرة حسب زاوية النظر التي "يختارها" كي يفهم الواقع مرة و يتذوقه مرة ثانية ويتقي شر غير المعروف منه ثالثة وينظمه و يتحكم فيه في المرة الرابعة ،الخ.
ان فهم الماركسية للانسان و للمعرفة، و بالتالي للطبيعة و للمجتمع ، ضيق جدا و محصور في زاوية المادة-الاقتصاد- ولا يرى " ماوراء الاقتصاد" و "ما تحته" و" ما فوقه" و "ما حوله" من كل الجهات: لا يرى" المجتمع الكلي" او "الكلي العياني " الاجتماعي اذا أردنا استعمال عبارات هيغل.

***

في آخر المقطع الذي لم يذكره ستالين من "مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" تعرض ماركس لفكرة نهاية" ماقبل التاريخ الانساني" التي عالجناها سابقا من زاوية ما و نريد أن نختم من زاوية أخرى و مع أدغار موران هذه المرة.
اذا كان تاريخ الناس هو تاريخ ممارساتهم من اجل الحياة و تحقيق الحاجات المتجددة دوما و باساليب متجددة هي الأخرى من الاجتماع فهل من الممكن الحديث عن "نهاية" له؟
انه من الممكن نظريا و لكن بطريقة جديدة احتمالية تقطع مع فلسفة التاريخ الحتمية و الغائية كما عبر عن ذلك ادغار موران متصورا احتمالات مختلفة للتاريخ المستقبلي لخصها كما يلي:
- احتمال النهاية الكارثية الطبيعية أو الحربية مثلا.
- احتمال ما سماه "العصور الوسطى الجديدة" و "الانحطاط البربري" الذي يتم فيه التراجع عن المكتسبات التاريخية العظمى للانساني.
- احتمال"النهضة الجديدة" للانسانية التي تسعى لتحقيق نظام انساني يجدد العلاقات الانسانية و العلاقة بالطبيعة و يحقق أكثر ما يمكن من انسانية الانسان.
ان "نهاية التاريخ" الهيغلية- الفوكويامية التي تعتبر الرأسمالية خاتمة المطاف البشري و نقيضتها "نهاية ماقبل التاريخ "الماركسية التي تعتبر الشيوعية فردوس المستقبل الدي سيعتمد مبدأ " من كل حسب عمله و لكل حسب حاجته" كلاهما نهايتان لاتاريخيتان .
الأولى لأنها تريد ايهام الناس ان الرأسمالية هي الأفضل لأنها تحقق "احسن حل" لتنظيم العلاقة بين الانسان و الطبيعة ،عبر العلم و التقنية، و بين الانسان و الانسان عبر الاعتراف المتبادل و نهاية منطق العبد و السيد.أما النهاية الثانية فهي تعد بالجنة الأرضية (كما عبر عن ذلك لينين في 1905 عند تقديمه موقف حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي من الدين) حيث تتوحد البشرية وتتحقق كل الحاجيات و تنحل كل التناقضات .
ان الرأسمالية لن تكون نهاية التاريخ الا اذا انجزت "النهاية الكارثية" الحربية على ما يبدو. كما ان الشيوعية لن تكون نهايته لأن الحاجات الانسانية المتجددة انهت المرحلة الأولى من الشيوعية - أي المرحلة الاشتراكية على الطريقة الماركسية – بالتراجع عنها كتجربة انتهت مريرة .وعلى العكس منها فان مشروع المستقبل الانساني لابد ان يتجدد و لكن دون حتمية رسولية خلاصية و فردوسية كما قدمته الشيوعية. اما احتمال الانحطاط البربري فوارد جدا ، ولن تنفع معه النزعة التطورية، نظريا على الأقل ، و هو نفسه قد يختم بالنهاية الحربية ان حصل.
يمكننا أن نضيف احتمالا رابعا الى ما فكر فيه ادغار موران: تتطور الرأسمالية و تترك الساحة التاريخية لأسلوب حياة اجتماعي تاريخي طبقي جديد تماما لاهو" بربري و لا اشتركي" يعتمد مثلا الأتمتة التامة لأجزاء أساسية من الحياة و يسيطر فيه العمل الذهني مع تطور الشركات المساهمة و "الادخار الاجتماعي" دون تحقيق العلاقات الاشتراكية أو التعاونية،الخ ،مما سيفتح المجال لمرحلة جديدة تماما من التاريخ لا أحد قادر على التنبئ بما سيميزها.
المهم في كل هذا هو ان التاريخ البشري لم ينته و ان مستقبل التاريخ البشري لن يستجيب لفلسفة تاريخ مدبجة سلفا ليحققها بدعوى انها وحدها فهمت الضرورة و ستصنع الحرية الأزلية .ان احتمالات الكارثة و النهضة الانسانية او الانحطاط أو غيرها تبقى واردة و ان ماسيحدد هذا المستقبل ليس سوى البشر و ممارستهم الاجتماعية التاريخية التي قد تعيد انتاج الحياة مثلما قد تنتج الفناء العسكري أو البيئي ، هذا ان لم تقم الطبيعة نفسها بالمهمة بصورة عادية طبيعيا وكارثية على البشر.

-18-

عوضا عن الخاتمة



لو ان ادغار موران لم يعلن ذات كتاب من كتبه (من أجل الدخول في القرن الواحد و العشرين حسب ما نتذكر) أن منهجه التعقيدي – الديالوجي ينطلق – في ما معناه- من كون ان الواقع الاجتماعي متعدد الأبعاد و الظواهر وان الجدلية التعقيدية الجديدة التي تربط بين مختلف عوامله تشكل حلقة ( دائرة) تبادلات بينية التأثير دون ان يعني ذلك ان عاملا منها يمكنه تحديد العوامل الأخرى أو التحكم فيها . و لو ان موران ذكر مع رفضه فكرة العامل المحدد و المقرر هذا بخصوصية العامل الاقتصادي لاكتفينا باعلان مناصرته و سيكون ذلك شرفا لنا لأنه واحد من أعظم مفكري البشرية الموسوعيين المعاصرين و هو ثاني أكبر من أثر فينا بعد ماركس.

ان اعتماد التحليل المعقد الديالوجي حيوي اليوم و لا تقدم دونه بالنسبة لمن يريد المعرفة و الخير للبشر في نفس الوقت. و لكن التحليل الدائري الذي يهرب من العامل المحدد و الحاسم ليرفض باسم حلقة/دائرة التفاعلات الاقرار بالأهمية الخاصة للاقتصاد لا يستهوينا. هنا نحن أنصاف خلدونيين- ماركسيين و فيبريين و ماسلويين ان شئنا.

ان التجديد العلمي الجدلي لن يتم في المستقبل دون ادغار موران الذي ندعو كل ماركسي عربي و كل باحث عربي عن الحقيقة و العدالة الى قراءته و الاستفادة منه. لكن التجديد العلمي الجدلي التعقيدي لا يجب ان يتحول الى مايشبه البحث الأنتروبولوجي الرامي الى اظهار "وحدة الانسان" و "تعدد أبعاده" دون الخوض في بحث الأهمية الخاصة للاقتصاد و تأثيرها التفاعلي – وليس الأنطولوجي الأحادي-الخاص على بقية "الحقول الاجتماعية" و بالتالي على المجتمع و التاريخ.
اننا لا ندعي تأسيس الجديد و لا ندعو الى اعتبار هذا العمل كذلك و نتشرف أن يقال فقط اننا طرحنا كثيرا من الأسئلة المهمة وحاولنا انارة الطريق لمن يبحث عن الاجابات.
ان الواقع العربي المعرفي و الاجتماعي ،على السواء، كارثي بأتم معنى الكلمة. في المستوى الاجتماعي العام يمكن القول ان الوطن العربي قد يعرف قريبا" عصوره الوسطى الجديدة" الخاصة و "بربريته" الخاصة .

و بما اننا ذكرنا ادغار موران منذ قليل يمكن القول ان ما كتبه هذا الرجل لوحده منذ خمسينات القرن الماضي أفضل من كل ما تم تأليفه في الوطن العربي من قبل كل أقسام الفلسفة و الاجتماعيات تقريبا.
و أمام وضع مثل هذا لا يسعنا الا ان ننقد الأصولية الحمراء بنفس حرصنا على نقد الأصولية الدينية السوداء و لكن، و أخيرا ، لا يسعنا الا ان نذكر أنفسنا و الآخرين من العرب تحديدا بقول الشاعر:

قل لمن يدعي في العلم فلسفة................حفظت شيئا و غابت عنك أشياء.



لم ينته هذا البحث ولن ينتهي قريبا على ما يبدو، بالعكس ، يمكن القول انه ، من ناحية ، لم يبدأ بعد بالعلمية و الصرامة المطلوبتين في المحتوى و في الشكل، فنرجو اعتباره مثل الرسالة الشخصية و نطلب المعذرة ، و من ناحية ثانية يتطلب أعمالا لاحقا تتناول الاقتصاد الساسي و "الاشتراكية العلمية" الماركسيين.
"انه زمن اعادة النظر في كل شيء"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأعمال الفكرية للمفكر المصرى أسماعيل المهدوى
khaled almasry ( 2012 / 9 / 27 - 18:02 )
رجـــاء العودة الى أبداعات المفكر المصرى الراحل أسماعيل المهدوى فى نقده الشامل العقلانى للماركسية فى الفلسفة و السياسة و الاقتصاد,,,,, الكتابات صادرة فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى : وهى تعد دراسات وأبحاث عقلانية راديكالية للتحرر و التخلص من الكابوس الماركسى ( نظرية الثورات الفاشلة )
خالد المصـــــــــــرى


2 - شكرا
بيرم ناجي ( 2012 / 10 / 1 - 14:45 )
شكرا لك يا خالد على النصيحة التي سأعمل بها قدر استطاعتي.

اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش