الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السوبر حداثة : فلسفة المنهج العلمي

حسن عجمي

2012 / 9 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يختلف الفلاسفة حول ماهية المنهج العلمي تماما ً كما يختلفون حول أية مسألة فلسفية أخرى . فمنهم من يعتقد بوجود منهج علمي ، و منهم من يعتقد بعدم وجود منهج علمي . و منهم من يؤمن بأن المنهج العلمي يستدعي الاختبار ، و منهم من يؤمن بأن المنهج العلمي لا يستلزم اختبار النظريات . نرتحل في هذه المقالة إلى عوالم فلسفة المنهج العلمي كي نشهد صراع المذاهب الفلسفية و إمكانية طرح فلسفة جديدة ألا و هي السوبر حداثة التي تقول إن من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي.

سيطرت الوضعية المنطقية على فلسفة العلوم خلال النصف الأول من القرن العشرين ، و شارك في بنائها العديد من الفلاسفة منهم كارناب و شليك . بالنسبة إلى الوضعية المنطقية ، لا بد من صياغة كل المعارف بلغة العلم لأن العلوم وحدها تتشكل من عبارات ذات معان ٍ . تقول الوضعية المنطقية إن أية عبارة لها معنى فقط في حال وجود منهج يمكنا من تحديد ما إذا كانت تلك العبارة صادقة أم كاذبة . من هذا المنطلق ، تعتبر الوضعية المنطقية أن العلم هو الذي من الممكن تصديقه من خلال الاختبار و مشاهدة عالمنا و أن المنهج العلمي يعتمد على تصديق النظريات على ضوء ما نشاهد في الواقع ، و كل ما يستحيل البرهنة على صدقه من خلال مشاهداتنا ليس بعلم و بذلك هو مرفوض . على هذا الأساس أيضا ً ، كل المعارف نتائج استنتاجات حقة نستنتجها من الحقائق المرئية أي التي نتمكن من رؤيتها . و بذلك الميتافيزياء خالية من أي معنى . هكذا ترفض الوضعية المنطقية فلسفات الميتافيزياء كفلسفة هيغل ولا تقبل سوى بالعلم كحقل معرفي و كمصدر وحيد للمعرفة . لكن رغم هيمنة الوضعية المنطقية على الفلسفة في النصف الأول من القرن العشرين ، معظم الفلاسفة اليوم لا يقبلون بها . تتعدد الأسباب وراء ذلك منها أن الوضعية المنطقية تفشل في التعبير عن علمية العديد من العبارات العلمية كعبارة " كل ما في الكون محكوم بقوانين الطبيعة ". هذه العبارة علمية بامتياز ، لكن من المستحيل تصديقها اختباريا ً لأننا إذا حاولنا فعل ذلك لا بد أن نراقب كل شيء في الكون و نشاهده ، و هذا مستحيل ( Oswald Hanfling : Logical Positivism . 1981 . Blackwell ) .

أما الفيلسوف كارل بوبر فيعتبر أن النظريات العلمية مجردة في طبيعتها و من الممكن اختبارها فقط من خلال نتائجها و أن النظريات العلمية كما المعارف الإنسانية بشكل عام هي فرضيات مصدرها الخيال الإنساني الخلاق و هدفها حل المشاكل الفكرية . يؤكد بوبر على أن الاختبار العلمي و ما يتضمن من نتائج لا يتمكن من البرهنة على صدق النظرية العلمية لأن الاختبارات العلمية و نتائجها قد تكون نتيجة صدق نظرية أخرى مختلفة عن النظرية التي نحاول البرهنة على صدقها ، و بذلك الوضعية المنطقية مرفوضة . بل يصر بوبر على أن النظريات العلمية من الممكن فقط تكذيبها ؛ فإذا أدت أية نظرية إلى نتيجة كاذبة فهذا يكفي لدحض النظرية و اعتبارها كاذبة . على هذا الأساس ، يقول بوبر إن النظرية العلمية هي النظرية التي من الممكن تكذيبها على ضوء ما يوجد في الواقع ، و إن لم نستطع إذن هي لا تعبِّر عن عالمنا الواقعي و بذلك هي نظرية غير علمية . فالنظرية العلمية هي التي تؤدي إلى نتائج من الممكن اختبارها أو مشاهدتها في الواقع ، و بذلك إذا أدت إلى نتيجة كاذبة فهذا يكفل كذب النظرية . على هذا الأساس ، النظرية العلمية هي التي من الممكن تكذيبها . من هنا ، المنهج العلمي بالنسبة إلى بوبر يتشكل من بناء الفرضيات و من ثم المحاولات المستمرة في السعي نحو تكذيبها إن أمكن . هكذا المنهج العلمي يكمن في القضاء على النظريات الخاطئة أما النظريات التي لا تتم البرهنة على كذبها فتبقى و يتم القبول بها من دون اعتبارها صادقة Karl Popper: The Logic of Scientific Discovery. 2002. Routledge) ) .

لكن تعاني نظرية بوبر من مشكلة جوهرية هي التالية : كما من الصعب البرهنة على صدق النظريات العلمية من الصعب أيضا ً البرهنة على كذبها . أوضح الفيلسوف كواين ذلك قائلا ً إنه يستحيل الحكم على فرضية واحدة بحد ذاتها لأن كل فرضية مرتبطة بفرضيات أخرى و مسلّمات معينة ، و بذلك أي دليل أو اختبار قد يدل على كذب فرضية أو مسلّمة أخرى بدلا ً من أن يشير إلى كذب الفرضية التي ننوي تقييمها . من هنا يستحيل تكذيب النظريات ما يجعل موقف بوبر صعبا ً للغاية ( Quine : From a Logical Point of View . 1953 . Harper and Rowe ) . كما أنه توجد نظريات علمية عديدة من غير الممكن تكذيبها حاليا ً أي اختبارها رغم أن العلماء يقبلون بها بقوة . مثل ذلك النظرية التي تقول إنه توجد ثقوب سوداء في الفضاء . من المستحيل اختبار أو محاولة تكذيب هذه النظرية لأنه لا يمكن مشاهدة الثقوب السوداء كونها سوداء أصلا ً و تبتلع أي شيء يقترب منها و تفنيه . هكذا ثمة علوم لا اختبار لها رغم أنها مقبولة علميا ً ما يجعل من الخطأ اعتبار أن النظرية العلمية هي التي من الممكن تكذيبها و أن المنهج العلمي كامن في السعي نحو تكذيب النظريات .

لقد رأينا صعوبة إن لم تكن استحالة تصديق و تكذيب النظريات العلمية ما قد يدعم موقف الفيلسوف بول فيرابند القائل بأنه لا يوجد منهج علمي . بالنسبة إلى فيرابند ، لا توجد مبادئ أو قوانين منهجية مستخدمة من قبل العلماء بشكل دائم . فلا منهج علمي يملي على العلماء ما يجب فعله و التفكير فيه بل كل شيء يمر أي مقبول . وحجته الأساسية على صدق نظريته الفلسفية هي التالية : إذا وجد أي منهج علمي فسوف يحدِّد عمل العلماء و يسجنهم في مبادئه ما يؤدي إلى منع نشوء أي تطور علمي جديد . كما يعزز موقفه من خلال أمثلة عدة في تاريخ العلوم . فمثلا ً , عندما نشأت نظرية كوبرنيكس القائلة بأن الأرض و الكواكب الأخرى تدور حول الشمس كانت معارضة لكل مبدأ علمي قائم في زمنها . و إذا تم تطبيق تلك المبادئ العلمية المسيطرة حينها لمنعت الثورة العلمية الجديدة المتمثلة في نظرية كوبرنيكس من الظهور ( .(Paul Feyerabend : Against Method . 3 edition . 1993 . Verso

كما ينتقد فيرابند مبدأ التجانس الذي يقول إن النظريات الجديدة لا بد أن تكون منسجمة مع النظريات القديمة . فهذا المبدأ المنهجي يفضِّل النظريات العلمية القديمة على النظريات العلمية الجديدة من دون أي سبب عقلاني . كما يرفض فيرابند أي مبدأ للحكم على النظريات العلمية الجديدة من خلال مقارنتها بالحقائق المعروفة . هذا لأن النظريات العلمية القديمة تفسِّر الحقائق بما يناسبها و يدعم مواقفها ، و بذلك إذا اعتمدنا على الحقائق المعروفة فسوف تشير بالضرورة إلى صدق النظريات القديمة بدلا ً من صدق النظريات العلمية الجديدة . بكلام آخر ، النظرية العلمية تحدِّد طبيعة الحقائق و الظواهر و تراها على ضوء مسلّماتها المُسبَقة ، و بذلك من الخطأ مقارنة النظريات بالحقائق و المشاهدات كون هذه الحقائق و المشاهدات تسلِّم مُسبََقا ً بصدق نظريات و مسلّمات معينة . على أساس كل هذا يستنتج فيرابند بأنه لا يوجد منهج علمي ( المرجع السابق ) . لكن تعرضت نظريته إلى نقد قاتل ألا وهو التالي : نظرية فيرابند لا تميّز بين العلم و الأساطير بل تجعل العلوم متساوية مع الأسطورة . فكما أن الأسطورة لا تعتمد على منهج و مبادئ لصياغتها و تقييمها كذلك أمسى العلم بلا منهج و بلا مبادئ لدى فيرابند . فالمطلوب هو التمييز بين العلم و اللاعلم ، و هذا ما يرفضه فيرابند بقوة ما يجعل موقفه ضعيفا ً .

أما الفيزيائي لي سمولن فيؤكد على أن الفيزياء المعاصرة وقعت في مشكلة كبرى . فمثلا ً يعمل العديد من علماء الفيزياء ضمن نظرية الأوتار و على ضوئها . لكن نظرية الأوتار هذه لا تتنبأ بأي شيء جديد و بذلك يستحيل اختبارها ، ورغم ذلك هي النظرية المقبولة من قبل العديد من الفيزيائيين ما أدى إلى تخبط الفيزياء المعاصرة لقبولها نظرية من غير الممكن تصديقها أو تكذيبها من خلال التجارب العلمية . بالنسبة إلى نظرية الأوتار ، يتكوّن الكون من أوتار و أنغامها ، و مع اختلاف تذبذب الأوتار تختلف قوى الطبيعة و موادها . و العلماء منقسمون حول قبولها أو رفضها . فمن جهة ، تقدِّم نظرية الأوتار صورة بسيطة و جميلة عن الكون حيث تتوحّد القوى الطبيعية و جسيماتها كونها ليست سوى أوتار و أنغامها ، و من جهة أخرى لا نتمكن من اختبارها ( Lee Smolin : The Trouble With Physics . 2006 . Houghton Mifflin Harcourt ) .

بالنسبة إلى سمولن ، المنهج العلمي يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار فالتكذيب أو التصديق . من هنا يرفض سمولن نظرية الأوتار لأنها غير قابلة للاختبار (المرجع السابق ). لكن كما أوضح سمولن نفسه يوجد العديد من العلماء الذين يقبلون نظرية الأوتار و يعملون على أساسها . و بذلك لا بد من أنهم يعتقدون بصدق نظرية أخرى في المنهج العلمي مختلفة عن نظرية سمولن . أي لا بد أنهم مقتنعون بأن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار و تكذيبها أو تصديقها ، ولذا هؤلاء العلماء يقبلون نظرية الأوتار و يعملون على ضوئها . هكذا العلماء منقسمون حول ما هو المنهج العلمي . من هنا ، من الممكن أن نستنتج بحق أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي كما تؤكد السوبر حداثة؛ فمن غير المُحدَّد ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم بالضرورة الاختبار أم لا . و بما أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي كما تقول السوبر حداثة ، إذن من المتوقع وجود نظريات علمية مختلفة باختلاف المنهج المُعتمَد ، ولذا توجد نظرية كنظرية الأوتار رغم عدم ارتباطها بالاختبار و توجد نظريات علمية أخرى من الممكن اختبارها. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير اختلاف النظريات العلمية .

بينما تعتبر الحداثة أنه يوجد منهج محدَّد للعلم ، تقول ما بعد الحداثة إنه لا يوجد منهج للعلم . لكن تختلف السوبر حداثة عن الحداثة و ما بعد الحداثة لأنها تؤكد على أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي . الآن ، بما أنه من غير المُحدَّد ما هو المنهج العلمي كما تصر السوبر حداثة ، إذن من الطبيعي أن يختلف العلماء حول ما هو المنهج العلمي فيعتبر بعضهم أن المنهج العلمي يتضمن بالضرورة اختبار النظريات و يعتبر آخرون أن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة اختبار النظريات و يؤمن بعضهم بوجود منهج علمي محدَّد و يؤمن آخرون بعدم وجود منهج علمي أصلا ً . هكذا تنجح السوبر حداثة في تفسير اختلاف العلماء حول المنهج العلمي ، و بذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها . لو كان المنهج العلمي محدَّداً لاتفق العلماء حول ما هو المنهج العلمي بدلاً من أن يبقى الجدل مستمراً حول ماهية المنهج العلمي. و لو كان المنهج العلمي مُحدَّداً لتم سجن العلماء في اتباع منهج علمي معين. هكذا لا محددية المنهج العلمي تحرر العلماء من سجون منهج علمي واحد مُحدَّد سلفاً. من هنا , الحرية ماهية العلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف