الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 10 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا كان من الصعب الآن تحديد ماهية الثورة بمعايير العرف التقليدي للثورات ونماذجها السياسية، فأنها لا تخرج من حيث حقيقتها وغايتها عن مساعي الأمم في حل إشكاليات وجودها الطبيعي والماورااطبيعي. وهو الجانب الأكثر جوهرية بالنسبة لفكرة الحرية وإرساء أسس التطور الذاتي. وبالتالي، فان الحدس الصادق هنا يمكنه الإقرار دون أن تكتحل بصيرته بارتعاش الأجل، ولا احمرار حماسته من حيرة الخجل، ولا اصفرار شكيمته من خوف الوجل، بان ما جرى ويجري هو إرواء النفس اللاهثة وراء سراب الزمن العابر للقرن العشرين وما قبله من قرون مظلم، من غليل العطش التاريخي للحرية والتكامل الذاتي. وفي هذا تكمن ما أسميته بمقدمة تجانس الحرية والإرادة، أي الإمكانية الأولية والضرورية لجعل التجربة التاريخية للعالم العربي تجربة ذاتية تلقائية متحررة من اجترار تجارب الأغيار (الآخرين) العملية والنظرية. وليس مصادفة أن تحصد قوى الماضي (الإسلامية) زهور الثورة الأولى كما لو أنها في أعراس ليس أعراسها. بينما القطاف التاريخي الحقيقي، أي قطاف المستقبل هو حرث وزرع أولا وقبل كل شيء، أي حصاد الأرض التاريخية والجهود المستقبلية.
إلا أن ذلك يشير إلى الحالة الأولية والظاهرية لما ادعوه بفاعلية المركزية الإسلامية التي تجعل من صعود التيارات الإسلامية السياسية أول مراحلها الضرورية من اجل أن تندثر لاحقا في سماد الحركة الطاحنة لبقايا الماضي التقليدي وزخارف المعاصرة التقليدية (المزيفة). وهو القدر الذي لابد منه بوصفه جزء من مسار التطور التاريخي.
فالعالم الإسلامي (والعربي جزء منه) يمر بمرحلة ادعوها بالمركزية الإسلامية. بمعنى محاولات الرجوع إلى النفس من خلال تنشيط مرجعياته الذاتية أو إبداع الجديد منها، بوصفها جزء من معترك البدائل. الأمر الذي يجعلها مركزية ذاتية من حيث علاقتها بنفسها وبالآخرين، أي أن نياتها ومساعيها وجهودها المدركة وغير المدركة، العقلانية والوجدانية موجهة صوب تنشيط مكوناتها التاريخية – الثقافية الخاصة. .إننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحويل جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب روحي" فعال في الصراع الحضاري. وهو جهاد واجتهاد يؤدي بالضرورة إلى تنشيط سياسي لمكونات الحضارة الإسلامية. وبالتالي، فان كل ما جرى ويجري في "العالم الإسلامي" على امتداد القرنين الأخيرين هي أشكال ومستويات مختلفة ومتباينة لهذه الظاهرة. ذلك يعني أن هذه المركزية هي تعبير تاريخي ضروري وعابر أيضا، أي حلقة في سلسلة أو تاريخ المركزية الثقافية الإسلامية. أنها تعكس في تناقضها وديناميكيتها زمن القرن التاسع عشر – العشرين الميلادي، وتاريخ القرن الرابع عشر – الخامس عشر الهجري. ذلك يعني أن حقيقتها الباطنية تعبر عن تاريخ وعي الذات القومي والثقافي، أما صورتها الظاهرية فتعبر عن زمن القرن التاسع عشر – العشرين. وبما أن المقياس الزمني الظاهري هو مجرد قشور لا قيمة لها بالنسبة لتاريخ المركزية الثقافية، من هنا قيمة تتبع المسار التلقائي الذاتي القائم في تنشيط الظاهرة الإسلامية المعاصرة، بوصفها احد مظاهر المركزية الإسلامية الجديدة.
فإذا كان صعود التيار الإسلامي يبدو في مظاهره نكوصا إلى الوراء من حيث الظاهر، فانه في باطنه خطوة كبرى إلى الأمام، أي خطوة في طريق المسار الطبيعي وليس الاصطناعي الذي عبدّته تيار الراديكالية الدنيوية (العلمانية) بأحجار الأيديولوجيات المسروقة وحطام التقليد البائس وألوان البهجة الغجرية!
وبالتالي، فإذا كان صعود التيار الإسلامي يبدو مفاجأة لكل من تعوّد على النظر إلى التاريخ بمعايير الرغبة الخاصة والإلزام العقائدي، أي بمعايير الوجوب والإلزام، أي حسب عبارة "ينبغي أن يكون" و"لزاما عليه" وما شابه ذلك من مواقف تستجيب للطموح النفسي الخالص المشبع بالرغبات والتصورات والأحكام الخاصة، فانه من حيث موقعه الفعلي يمثل الدرجة الضرورية للمسار التاريخي. ومن ثم يؤدي ما ينبغي أن يؤديه، مطبقا حذافير الفكرة القائلة، بان الوجود والعدم توأمان. لهذا كان (وما يزال) اشتراك أهل الحداثة المزيفة و"العلمانية" المشوهة وأصحاب "العقلانية" المأجورة للسلطات في مجرى الأحداث التاريخية للعصيان والانتفاضة التونسية، في هوس العداء للإسلام والإسلاميين والأمن والأمان هو مجرد احد الأمثلة الواقعية بهذا الصدد. لكنه مثل يشير إلى وجود حالة عدائية خربة في الموقف السياسي والعقائدي والأيديولوجي والاجتماعي والثقافي. بل يمكن القول، بأنه استعداء أكثر مما هو عداء. من هنا امتلاءه بنزعة الاتهام المسبق والمجافي للحق والحقيقة والواقع. الأمر الذي يشير ليس إلى "ثورية" البعض و"عقلانية" الآخر، بقدر ما يشير إلى مستوى وطبيعة الانغلاق والانحطاط المادي والمعنوي لهذا النمط من المواقف. أما النتيجة المترتبة على ذلك فتقوم في تخريب بوصلة الرؤية الواقعية عبر إثارة أشكال ومستويات للصراع تهدف إلى حرف الأنظار والمسار السليم تجاه واقع وآفاق ما قام به الانقلاب التونسي الكبير آنذاك، بوصفه حالة ونموذج ومرحلة للثورة الاجتماعية والسياسية، أي تجربة لها حدودها.
فالعلم العربي لم يمر بمرحلة الصيرورة الدينية السياسية حتى النهاية من اجل الانتقال إلى مرحلة الدنيوية العقلانية، أي المرحلة السياسية الاقتصادية في تطور الأمم. وذلك لأن "العالم الإسلامي" (والعربي في الحالة المعنية) يمر ضمن السياق التاريخ العالمي الثقافي في مرحلته الثالثة. لكنه يتسم أيضا بتباين كبير متنوع المستويات والأشكال. ففي داخله عوالم متباينة من حيث مستوى تطورها التلقائي. والعالم العربي متباين أيضا من حيث مناطقه الثقافية الكبرى ضمن هذا السياق. وأنا اقسمه إلى أربعة مناطق أساسية وخامسة محتملة وإضافية، وهي على التوالي منطقة الجزيرة العربية، ومنطقة المشرق العربي (الهلال الخصيب) ومنطقة مصر والسودان، ومنطقة المغرب العربي. وفي كله هو عالم واحد. ومنطقة الاحتمال الإضافي (موريتانيا والصومال وجزر القمر وزنجبار ودول افريقية محتملة). ويختلف العالم العربي من حيث مستوياته في هذه المرحلة الثالثة. إن هذا التحديد يوجه بدوره الرؤية النظرية والعملية صوب تأسيس البدائل أو "المشاريع" المستقبلية.
لهذا كان صعود التيار الإسلامي وانتصاره الأولي الكبير في كل دول "الربيع العربي" هو بداية الخريف الضروري لها من اجل الانتقال إلى صيرورة السياسة العقلانية. فقد كان التيار الإسلامي بمختلف أشكاله وأصنافه ومستوياته مختبئا في اغلب مسامات الجسد العربي الذي لم يتنفس هواء الحرية الفعلية، أي عدم ارتقاءه بعد إلى مصاف تذليل المستوى النفسي والتقليدي في الوعي الثقافي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. من هنا عاصفة البهجة البهية "للنصرة الإسلامية"، ومن ثم انتفاخ رئة العوالم الرثة وهياجها الطبيعي بتنفس الصعداء على انه صعود! لكن جذر الكلمة هنا لا يتطابق مع ثمارها، خصوصا وان انعدام الذوق العقلي والجمالي يجعل من حقائق الأشياء وعوارضها أشياء متداخلة بالنسبة للحس البليد والعقل السقيم السائدين في الوعي الاجتماعي العربي الحالي. الأمر الذي يحدد بالضرورة سرعة الصعود وسرعة الاندثار. وذلك لان حلول الصعود المفاجئ ستكون مفاجئة بالضرورة، أي جزئية وعابرة. إذ لا منظومة فيها. ونظامها ليس أكثر من اجترار لنصوص ميتة. وبالتالي، فان أقصى ما يمكنها بلورته في مجال الفكر السياسي هو بهرجة أيديولوجية. بينما لا يتعدى سلوكها أن يكون مجرد وجدان صاخب لا يخلو من نفعية فجة. وذلك لان كل ما فيها هو مجرد جسد مغّبر بخيال الجنائن اللاهوتية! وسوف يسكرها كل ذلك ويطرحها على فراش المتناقضات الميتة مثل أن تتغنى بانبهارها الجميل في عالم قبيح، وان تتمايل في طربها الباطني بمفاجأة القدر وتجعل من التجويد والآذان غناء اللسان السياسي!
إن كل هذه المتناقضات وما لا يحصى لظهوره منها في مجرى الحياة الطبيعية، سوف يجعل من قدر صعودها المفاجئ جبرا لزوالها. بعبارة أخرى، أنها ستؤدي دورها الطبيعي في المسار الطبيعي الذي جرى بتره زمن الصعود الغريب للراديكاليات الدنيوية، أي تلك التي سحقت تجارب الماضي الذاتي بتصوراتها وأحكامها التي لم تكن أكثر من رغبات حالمة وأوهام أيديولوجية متبجحة بذهنية الحثالة ومتمثلة لما فيها من قيم اجتماعية وأخلاقية ليست في حقيقتها غير أعراف وتقاليد نفسية، أي لا علاقة جوهرية لها بفكرة البدائل العقلانية والرؤية العلمية والمستقبلية. الأمر الذي يكشف بدوره عن القيمة الضرورية والمتناقضة للصعود الإسلامي بوصفها بهرجة دينية ضرورية للانتقال من سياسة اللاهوت إلى لاهوت السياسة، وعبره إلى صيغة عقلية وعقلانية أرقى للرؤية الاجتماعية والسياسية.
إن صعود التيارات الإسلامية إلى ريادة "الحركة الثورية" ليس إلا إحدى الصيغ العابرة والضرورية في مرحلة الانتقال التاريخية للعالم العربي من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. مع ما يترتب عليه من حلول خاصة لإشكاليات الوجود الطبيعي للأمة لكي تخرج منها صوب عوالمها الماوراطبيعية، أي صوب وحدة بنيتها الضرورية في مجال وعي الذات السياسي والتاريخي والقومي والثقافي. بمعنى المرور الطبيعي بطرق الآلام الفعلية من اجل تذليل العقبات القائمة أمام بناء الدولة الحديثة والمجتمع والثقافة والعلم والقومية والأمة. وهو مرور تاريخي وضروري، أي متدرج ومتعرج. وبالتالي تصبح الحلول الناجحة والفاشلة جزء من مسار وعي الذات وتكامله الضروري في كافة الميادين من اجل تطوير بنية التطور التلقائي. وفي هذا يكمن سرّ هذه الثورة الجديدة وقيمتها التاريخية الأولى بوصفها ثورة تأسيسية.... (يتبع)
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مبيعات سيارات تسلا الكهربائية في تراجع مستمر • فرانس 24


.. نتنياهو ينفي معلومات حول إنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها




.. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: نتمسك بتدمير البنية التحتية لحم


.. شركة تبغ متهمة بـ-التلاعب بالعلم- لجذب غير المدخنين




.. أخبار الصباح | طلب عاجل من ماكرون لنتنياهو.. وبايدن يبرر سوء