الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في التاريخ ..فكرة ومنهاج

راشد هشام

2012 / 10 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تحت هذه العبارة كتب سيد قطب رحمه الله بعمق مألوف منه عن مفهوم التاريخ الذي يتجاوز عنده الحوادث الجامدة إلى رصد حركتها وربطها بما قبلها وما تلاها، ووضعها في سياق "مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية، ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية"، ويعتبر تعطيل الروح أو الفكر أو الحس عن عمد أو غير عمد يحرم الحادثة التاريخية من أهم عناصر إدراكها وفهمها على الوجه الأكمل، ومن تم يكون تفسيرها قاصرا وخطأ، كذلك شأن تاريخ الأفكار، فالأفكار نفسها تؤخذ في إطار حركة فكرية تامة ترتبط بما سبقها وتكون امتدادا لما بعدها في سياق مقومات النفس البشرية والحياة العامة، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بالمتاح الفكري والسقف المعرفي، وتأسيا بكلام سيد قطب أكتب تحت عبارة: "في التاريخ.. فكرة ومنهاج"، أخص بالذكر تاريخ الأفكار في مناهج التفكير في النص الديني لا الحوادث، التاريخ الذي دوّن مشاريع فكرية استجابت لحركة التفكير وارتبطت بماضيها وأسست لنفسها وجودا وكيانا انطلاقا من مقومات النفس والحياة واستشرافا لغد مشرق لا انحطاط فيه ولا تخلف، وخلدت بذلك منهجا امتاز بالخصوبة في توليد الأفكار الجديدة للمستجدات والمتغيرات. فما هي فكرة تاريخ الأفكار ومنهاجه؟.

من شأن تفسير الأفكار ذات الصلة بموضوع مناهج التفكير في النص الديني، حسب مقومات النفس والحياة، أن يكشف عن أهم التيارات والقضايا الفكرية أو الإيديولوجيات التي أثرت في نشأتها، وأفرزت في أزمنة التأليف إنتاجا وعائدا معرفيا محددا، ويكشف أيضا عن مدى استجابة الأداتي للفكري باعتبارهما يصوغان أشكال مناهج التفكير والنظم المعرفية وفق قاعدة التأثر والتأثير، ولتقريب هذه الصور أسوق بعض الأمثلة التي أسست في التاريخ الفكري عند المسلمين لجدل الفكري والأداتي في مناهج التفكير في النص الديني وذلك من خلال ثلاثة مشاريع لثلاثة أعلام: فخر الدين الرازي، وابن حزم الظاهري، وأبي اسحاق الشاطبي.

الصورة الأولى في التاريخ الفكري لجدل الجانب الفكري (النظري) والجانب الأداتي (التطبيقي) لمناهج التفكير فقد تم رصدها عند فخر الدين الرازي في كتابيه: "مفاتيح الغيب" و"المحصول" من طرف الشاطبي والمتمثلة بالأساس في جدل المكون العقدي وهو الجانب النظري والقياس وهو الجانب الأداتي، ذلك أن الرازي الأشعري اعتقادا يعتبر أن أفعال الله غير معللة بغاية والتزم بذلك في تفسيره "مفاتيح الغيب" إلا أنه وفي الجانب الأداتي (التطبيقي) نجده يقول بمبدأ التعليل في القياس وخص للعلة مباحثا في كتاب "المحصول في علم أصول الفقه" .

أما الصورة الثانية لجدل الفكري والأداتي فقد تم رصدها عند ابن حزم الظاهري وهو يتحرك من أسس نظرية محددة ارتكزت في مجملها على القول بـ: "القطعيات في الأدلة الشرعية والأدوات المعرفية" للإجابة عن إشكال القطع والظن فيها، فألف كتابه الشهير "الإحكام في أصول الأحكام" ناقش فيه بالجدل والحجاج كل الأدلة الشرعية، ورفض أثناء دفوعاته القوية عددا من الأدلة ومنها القياس الأصولي –وإن كنت لا أعتبره دليلا شرعيا وإنما أداة معرفية- معللا بعد تفكيك أركانه (الأصل، والفرع، والحكم، والعلة) بأنه يؤدي إلى نتائج ظنية (راجحة)، وأن الله لم يتعبدنا بالظن، فعدل عنه إلى القياس الأرسطي المبني على مقدمتين كبرى وصغرى ونتيجة.

وأما الصورة الثالثة لجدل الفكري والأداتي فقد تم رصدها عند أبي إسحاق الشاطبي وهو يخوض منعطف التجديد في كتاب "الموافقات" بدءا من المقدمة التي بت فيها شكواه مرورا بأربعة عشر مقدمة والتي خرج بعددها عن المألوف في التصنيف والتأليف حيث تناولت فيها أهم المداخل الفكرية والأسس النظرية التي اعتمدها في بناء مشروع الموافقات كالقول بمبدأ التعليل ولا تناهي النص وقطعية الأدلة وغيرها... إلى علم المقاصد الذي ظهر معه بحلة وصيغ جديدة وتصورات خاصة انتهاء بالمآلات والمناطات، وبفضل جهده التجديدي الذي شكل مادة هذا الكتاب استطاع، في إطار المزج بين الإبداع (القطيعة المعرفية) والاتباع (الاتصال المعرفي)، أن يجعل من مشروعه حلقة تجديدية بارزة في تاريخ التشريع الإسلامي، تستدعي الوقوف عندها من زاويتين قلما التفت إليها الباحثون (المدخل الفكري) و(الأداة المعرفية) وإن كانا معا وفقط يشكلان شخصيته الأصولية.

تمثل هذه الصور الاحتمالات الثلاثة الممكنة لجدل الفكري والأداتي:
الأولى: تبين صورة إعمال قواعد معرفية مجردة عن الايديولوجي، وهي صورة عدم تأثر الأداتي بالفكري لخصوصية الأداتي (بين نفي التعليل اعتقادا وتثبيته فقها).

والثانية: تبين صورة المشترك الإنساني في إبداع القواعد المعرفية وإمكانية توظيفها في الخصوصيات الدينية، وهي صورة تأثر الأداتي بالفكري بتكييف الأداتي حتى ينسجم مع الفكري (إلى القطع في الأحكام عن طريق ترك القياس الأصولي إلى القياس الأرسطي).

والثالثة: تبين صورة الاتباع والابداع المعرفي في الجوانب النظرية والاتباع والإبداع المعرفي في الجوانب الأداتية في عملية استنطاق النصوص الدينية، وهي صورة تأثر الأداتي بالفكري في طرح واحد منسجم وإبداع جديد بعد قطيعة معرفية تامة أو شبه تامة مع ما سبق من مداخل وأدوات (منعطف التجديد في علم المقاصد).

وهي في مجملها تمثل ملاحم فكرية رائدة من تاريخ التشريع الإسلامي وإرهاصات أولى تعبر عن الرغبة في التجاوز والعبور المعرفي نحو طروحات تجديدية تحركها قضايا فكرية وأخرى أداتية ولو دون قطيعة إبستيمية.

هذه الدعوة إلى تتبع الحراك الفكري (المستوى النظري) والأداتي (مستوى التنزيل) تأثرت في العصر الراهن بدعوة براقة وغامضة في نفس الوقت؛ الدعوة إلى "أسلمة المعرفة" والتي لا تقدم للمسلمين منهجا واضحا بقدر ما تقدم طموحا ورغة لم تعبد طريقها وربما لا توجد طريق في ذلك الفضاء الفكري بالمرة، ولنا في موضوع أسلمة المعرفة رأي سنبسطه في دراسة مستقلة.

يتأكد يوما بعد يوم أن كل نقد يستهدف مناهج التفكير في النص الديني، ويطمح إلى تجديد التليد منها أو على الأقل تحديث رتيبها، ويتغيى إنتاج فقه إسلامي آخر بمقومات العالمية في رحاب معرفة أوسع موازي لما سبق إنتاجه تحت سقف معرفي محدود وفي سياقات تاريخية مختلفة، مدعو أولا وقبل كل شيء إلى استيعاب النظم المعرفية التراثية والبناء الفكري الأصولي من حيث مداخله الفكرية (الجانب النظري) وأدواته المعرفية (الجانب الأداتي) لما تعرفه المادة الأصولية من خلط بين النظري منها والأداتي بفعل الجدل الدائر بين الأصوليين وقت إنتاجها، ثم تفكيك هذا البناء وفق معايير النقد المعرفي الحديث (الإبستمولوجيا) حتى تتبدى موجبات العبور والتجاوز المعرفي نحو طروحات تجديدية على مستوى الرؤى المنهجية والمعرفية وبمعزل عن الخوض أحيانا في ذكر النواقص أو المثالب من تم تعبد سبل العالمية، إذ لا سبيل إلى عالمية القرآن والسنة النبوية إلا بعالمية المداخل الفكرية وعالمية الأدوات المعرفية حسب ما أنتجه العلم المعرفي الحديث وعبر عقل جامع للعلوم والمعرفة مسدد بالنص ينظر إليه كريما يعطي على قدر الاشتغال به ومجيدا ليستمر ومكنونا ليتكشف حسب دعوة الراحل أبي القاسم حاج حمد، سبيل يحمل كل إنسان على الإسهام بحظ وافر في العملية التحليلية للنصوص المقدسة والتاريخ المقدس والمشترك الإنساني للإجابة على جميع الانشغالات وأعتقد إلى حد بعيد بأن النص القرآني مهيمن على كل نتائجها.

ليس المقصود بالاستيعاب الالمام والإحاطة بالبناء الفكري الأصولي لمناهج التفكير فحسب، وإنما إعادة قراءتها بما يحفظ لها طابعها المعرفي من جهة، وإعادة نظمها وترتيبها في سلكي المداخل الفكرية (الجانب النظري) والأدوات المعرفية (الجانب الأداتي) ومن تم التأكيد على طبيعتها البشرية، خاصة وأن البعض يرفعها إلى مقام المقدس، وليكون هذا الاستيعاب فعلا خطوة تمهيدية مؤسسة لمشروع التجديد الذي تفرضه مقتضيات العصر وعالمية القرآن.

إذا فالجهد التجديدي الذي يدعو إليه هذا المقال يأخذ طابع التدرج للوصول إلى النتائج، يبدأ من الاستيعاب إلى التفكيك والتركيب وفق فكر العالمية أداة ومنهجا في إطار الجدل الدائر بين المداخل الفكرية والأدوات المعرفية تأثرا وتأثيرا انتهاء بالتركيب النصي والهيمنة القرآنية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا