الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (5)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 10 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن احدى الحقائق الجوهرية الكبرى، التي كشفت عنها ثورة "الربيع العربي" تقوم في إبراز أهمية وقيمة المرجعية القائلة، بأن التطور الفعلي للأمم يفترض تأسيس حريتها بمعاييرها التاريخية والثقافية الخاصة. ومع أن هذا التأسيس ما زال في طي الكمون التاريخي بالنسبة للعالم العربي الحالي، إلا أن إدراكه المتزايد سوف يلازم بالضرورة كمية ونوعية المعارك الحالية والمستقبلية. بمعنى ، أن إدراك حقيقة الحرية وتأسيسها النظري والعملي مازالت جزء من معترك تاريخي وثقافي هائل، لكن ملامحها الجلية سوف تأخذ بالحصول على إجماع شامل حالما تتحول المرجعية المشار إليها أعلاه إلى بديهية سياسية بالنسبة للقوى جميعا بغض النظر عن معتقداتها السياسية والفكرية الخاصة، أي كل ما يلازم بالضرورة إرجاع حقائق الأشياء إلى أصولها. ولا يعني ذلك بالنسبة للعالم العربي سوى الرجوع إلى أصوله الذاتية، أي إرساءه على أساس معاناته الذاتية وإبداعه الخاص. وفي هذا تكمن الطاقة الحية والخفية لثورة "الربيع العربي"، بوصفها ثورة تأسيسية رغم خفاء هذه الحقيقة لحد الآن أمام أعين الأغلبية الساحقة. وليس المقصود بالثورة التأسيسية هنا سوى كونها ثورة عربية من حيث مقدماتها وأسسها وبواعثها وقواها وأفكارها. أنها ليست صنيعة الخارج ولا تقاليده المغتربة. من هنا خلوها الأولي من ثقل مغامرات ومؤامرات الأحزاب التقليدية (والمغتربة) وأيديولوجياتها المصطنعة. وفي هذا تكمن بقدر واحد مصادر ضعفها الظاهري وقوتها الباطنية. فقد كانت اقرب ما تكون إلى احتجاج منظم هائل بلا أيديولوجية وأحزاب. غير أن هذا الضعف الظاهري يحتوي في الوقت نفسه على قوة الإنشاء والتراكم الطبيعي للفكرة السياسية وتنظيمها اللاحق بهيئة تشكيلات متنوعة.
لهذا فان من الخطأ والخطيئة أن يجري مقارنة ما حدث في الثورات العربية بمثيلاتها مما يسمى بالثورات الملونة. وذلك لأن هذه المقارنة تهدف بوعي أو دون وعي إلى سحب البساط من تحت أقدامها بوصفها ثورة اجتماعية سياسية وقومية كبرى. وبالتالي ليس الدخول إليها والهجوم المتسرع عليها ومحاولة امتطاء بعض أحصنتها المتعبة من جانب المراكز الكولونيالية (الاوروامريكية) والإقليمية الميكيافلية (التركية) والعربية المتفسخة (السعودية - القطرية) سوى الصيغة النموذجية لهذه الحالة التي تسعى لتشويه الرؤية وحرفها صوب الانطباع القائل، بان هذه الثورات هي صناعة "غربية" و"رجعية". بمعنى تصوير الثورة العربية الأخيرة على أنها مؤامرة خارجية. ووجد ذلك ذروته في "الثورة السورية" التي جعلت من نفسها مطية غبية بأيدي الغرب الكولونيالي والتركية العثمانية النفعية ودويلات الملح (السعودية وقطر بالأخص). وبهذا تكون قد حرفت مسار المعنى الاجتماعي والوطني والقومي الذي يجعل من السهل تمويه المعنى الحقيقي للثورة العربية الحالية.
ومع ذلك يبقى التشوه النسبي في مجرى الثورات الكبرى هو النتاج الملازم لاحتكاك وتصادم مختلف المنازع والمشارب والآراء والمواقف والرؤى والموروث المتنوع والمتباين والمتعارض تجاه ما هو موجود في كينونة الأمم وكيانها السياسي. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن الثورة العربية الحالية هو ثورة من طراز جديد، يقوم في كونها جزء حيوي لا يتجزأ وفعال في الصيرورة العربية الموحدة، وبالتالي فهي حركة واحدة من حيث الأصل والغاية والإمكانية. وإذا كانت الثورات الكبرى لا تختلف من حيث الأساليب والغايات، فلأنها في بدايتها جهاد متفان من اجل تغيير الحالة القائمة، وآخرها اجتهاد مضني من اجل تجسيد الأهداف الكبرى وتحقيق المثل الكامنة في شعاراتها الأصلية. أما الصيغة الشائعة والآخذة بالانتشار عما يسمى "بثورة الانترنيت" و"ثورة البلوغات الاجتماعية" و"الفيسبوك" و"التويتر" وما إلى ذلك، فأنها ترجع الكلّ للجزء، والحقيقة إلى احد مظاهرها، والمضمون للشكل، والماهية للأدوات. وذلك لان كل ما له علاقة بتكنولوجيا الاتصال هو مجرد أداة اتصال لا غير.
أما الشيء الجوهري الذي يجعلها تختلف عن أدوات الماضي فهو سرعتها وسعتها. ولا يمكن إهمال ما في هذه الصفة من قيمة كبرى لكنها تبقى في نهاية المطاف عرضية وثانوية. أنها مجرد أداة من أدوات العمل والتنظيم. ومن ثم لا علاقة جوهرية لها بماهية الثورة. أنها تشير إلى زمن الحدوث وبعض أساليبها فقط، أي حدوثها في عصر التكنولوجيا المتطورة. لكن التكنولوجيا بحد ذاتها لا تصنع ثورة اجتماعية. أنها مجرد أداة من أدواتها في العالم المعاصر. ومن ثم تساعد وتساهم في تغيير البنية الذهنية وتوسيع مداها وحركتها السريعة وديناميكيتها المؤثرة. وهنا يكمن دون شك احد الأسباب المساعدة للثورة. تماما بالقدر الذي يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون مضادة بالقدر ذاته. فالدولة والأموال اقدر على صنع بدائل مزيفة. ومن ثم اقدر على التأثير الدعائي خصوصا في ظل غياب أو ضعف للمجتمع المدني الحديث. إلا أن مفارقة هذه الظاهرة في الحالة العربية الحالية تكمن فيما يمكن دعوته بانعدام النسبة الضرورية بين النزعة النفعية والحقيقة في أنماط السلطة السياسية السائدة، والتي أنتجت نظاما لا نظام فيه بالمعنى الايجابي للكلمة. من هنا وقوعها في شرك التاريخ الذي أرادت أن تجعل منه مجرد زمنا لاجترار وتكرار وجودها في السلطة، أي العمل والعيش والتفكير بمعايير الجسد الميت وغريزة النفس البدائية. بمعنى العيش والتفكير بطريقة لا يمكنها البقاء والديمومة فترة طويلة في ظل ديناميكية التحول والتطور المعاصرة.
فقد أدى هذا التناقض إلى صنع سدود خربة. وذلك لأن مهمتها لم تعد تنظيم مجاري الحياة بالشكل الذي يجعل حتى من سيولها الجارفة قوة إضافية للإرواء، بل كومة ركام مهمتها عرقلة كل ما يمكنه السير والحركة. من هنا انهيارها السريع أمام ضغط سيول الاحتجاج المتراكمة في مجرى عقود الموت الراديكالي والدكتاتوريات الفجة، أي كل ما حصل على تسمية "الربيع العربي"، بوصفه إحياء جديدا لكينونته الذاتية. وبالتالي، ليس "الربيع العربي" في الواقع سوى بداية الثورة الاجتماعية العربية الكبرى. انه الفصل الجديد في صيرورته التاريخية الجديدة. وإذا كانت "بداية" الأفراد والجماعة المنظمة والشعوب الحية والأمم الكبرى عادة ما ترتبط ببداية زمنية هو "يوم ميلادها"، فان نوعية الاحتفال به مرتبط بأثره الفعلي في التاريخ. وكلاهما جزء من وعي تاريخي ذاتي تتحدد قيمته بالإبداع الفعلي لهذه الولادة وأثرها بالنسبة للتاريخ نفسه. وبالتالي، فان بداية "الربيع العربي" هو بداية الولادة التاريخية الجديدة للروح الاجتماعي والقومي والمستقبلي.
فقد كانت الثورات العربية السابقة محلية قطرية جزئية مغامرة. بمعنى أنها كانت تختمر في عقول وأفئدة النخبة المحلية الفتية التي لم يتقو صلبها بمعارك النظر والعمل. من هنا كان ضعفها نتيجة ملازمة لضعف أسسها الاجتماعية والثقافية. وقد كان ذلك بدوره يحتوي على أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء مغامرة الجيش في منافستها للقيام بانقلابات عسكرية سرعان ما تحولت إلى "ثورات شعبية". وقد كانت تلك منافسة لا علاقة لها بمنطق التاريخ ولا تاريخ المنطق والعقل العملي. من هنا محاولاتها اللاحقة للاستحواذ على التاريخ والمنطق والعقل والمستقبل أيضا! وقد أثار ذلك حمية وحماسة الوجدان المعذب في رغباته الراديكالية لبلوغ أقصى ما يمكن تخيله من أحلام وأوهام عند طرفي المعادلة الغريبة: الشعب والجيش! فالتاريخ لم ولن يعرف التقاء بينهما باستثناء معايير الدفاع والهجوم (القوة). وحالما جرى تحويل هذه المعايير إلى عقل الأمة ومنطق التاريخ، عندها تحولت القوة العسكرية إلى طاقة سارية في معاني السمو والتمام والعالمية، أي إلى نموذج ومثال لا يعادله إلا العلي القادر العليم! واحتوت هذه العملية المحزنة لمكر العقل التاريخي على ملهاة ومأساة أنتجت ما يمكن دعوته بمنظومة القلق الدائم وانعدام الاستقرار والتجريب الخشن للجهل والغباء والبلادة السياسية. وسواء كان ذلك الوجه العملي للراديكالية السياسية، أو أنه النتاج الملازم لصعودها، فان توحدهما الفعلي قد أدى إلى تشويه أسس الدولة الحديثة واعوجاج مسارها. أما النتيجة فهي غلبة السلطة على الدولة، والقبيلة على المجتمع، والفرد على الجماعة، أي إرساء أسس هرم مقلوب، وتوازن قلق، وخراب دائم للدولة والمجتمع، وتبذير دائم لكل تراكم عقلاني محتمل.
لقد أدى كل ذلك إلى نخر أسس الدولة والمجتمع والوعي، مع ما ترتب عليه من إمكانية انهيار الجميع أو إحدى مكونات هذه المعادلة الخربة أو البقاء لفترة زمنية أخرى في مرحلة لا حدود فيها ولها. ولا يعني ذلك سوى المراوحة فيما ادعوه بمرحلة الزمن، أي مرحلة هلامية الوجود، وبالتالي انعدام الخصوصية والإمكانية والآفاق. وهي أتعس حالات الوجود وأرذلها. لكنها شأن كل ما يفتقد إلى مكوناته التلقائية وقدرته على صنع التاريخ وتوسيع مدى مرجعياته الذاتية، لابد له من الانهيار والزوال إلى غير رجعة. وهي النتيجة التي بهرت العقل العربي ووجدانه في تلك الهبة التي ألهبت الجموع التونسية لهيب المواجهة الحرة، أي تلك اللحظة الحرجة التي كشفت عن أن الحرج الفعلي للتاريخ يقوم في عدم قدرته على التمام في فعل له حدوده المعقولة. وقد كانت هذه الحدود الأولية تقوم في "إسقاط النظام"، أي إسقاط حالة الخراب والمراوحة وهلامية الوجود. بمعنى كسر حاجز الزمن والانتقال عبره إلى رحاب التاريخ، وإشكالات الحرية غير المتناهية. وهي بداية الطريقة العربية الحديثة التي سوف تصنع شريعتها وحقيقتها بمعايير تجربتها الذاتية.
ليس المقصود بذلك إضفاء صفة الصوفية المتعالية والمتسامية على الأحداث، بقدر ما تجري محاولة تصوير الثورة، بوصفها روحا أيضا. فالثورة الحقيقة في جوهرها هي تبدل روحي هائل مهمته صنع "أنا الحق" الفردية والاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية، من خلال صنع الإرادة المبدعة بمعايير معاناتها الدائمة وتجاربها الخاصة. ولهذه طريقتها وشريعتها بوصفهما حدود وأساليب بلوغ الحقيقة. وحقيقة الثورة هي ديمومة البدائل العقلانية وتوسيع مدى الاحتمال الإنساني فيها. (يتبع...)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن